تحت المجهر
بقلم |
د.عزالدين عناية |
اللاهوت المسيحيّ وعَقبات التجديد |
يشكّل مطلب «الأَجُورْنامِنْتو» (التّجديد) تحدّياً عويصاً للمسيحيّة المعاصرة، بوصفه الرّهان الملحّ لإخراج اللاّهوت من ربقة البراديغم القروسطي وولوج عصر الحداثة، بعد أن باتت الكنائس خاوية والسّاحات عامرة، كما يتردّد في أوساط المراقبين للشّأن المسيحي. فمنذ اعتلاء البابا بنديكتوس السّادس عشر (جوزيف راتسينغر) كرسي البابويّة، وإلى حين تخلّيه المباغت والصّادم عن مهامه في الثّامن والعشرين من فيفري 2013، تمحورَ هاجسُه في الإلحاح على خوض غمار تحوير مؤسّسة الكنيسة. بقصد تحريرها من براثن المؤسّساتية الطّاغية وجهازها البيروقراطي الجاثم، الذي يوشك أن يخنق روح الدّين، كما أوضح «راتسينغر» في كتابه «نور العالم» (روما، 2010). بعد أن تحوّلت الكنيسة إلى مؤسّسة دنيويّة متلهّفة على الرّبح والسّطوة والجاه. فقد لمس «راتسينغر»، خلال فترة بابَويته، أزمة الكنيسة، الأمر الذي جرّه إلى أن يعلن أمام الكوريا الرّومانيّة -هيئة كبار الكرادلة- قبل اتخاذ قرار الاستقالة: «إنّ جوهر أزمة الكنيسة هي أزمة لاهوتيّة. وفي حال تعذّر إيجاد حلول، وعدم استعادة الإيمان حيويته، لِيصبح قناعة عميقة وقوّة حقيقيّة بفضل اللّقاء مع يسوع المسيح، فإنّ مجمل التّرقيعات الأخرى لا معنى لها».
لكن «راتسينغر» غادر حاضرة الفاتيكان بغتةً وأعقب وريثه الأرجنتيني فرانسيس (ماريو برغوليو) تركةً ثقيلة. وما إن اعتلى الأخير سدّة بطرس، حتّى بادر بتشكيل مجلس حكماء متكوّن من ثمانية كرادلة، بقصد سنّ تحويرات لاهوتيّة تتعلّق بإصلاح الكوريا الرّومانيّة (الجهاز السّلطوي داخل حاضرة الفاتيكان)، وإلغاء «الإيور» (أي حلّ الجهاز المالي الكَنَسي بعد تفشّي الفساد فيه)، وترسيخ التّسيير الصّائب للكنيسة (بما يجنّب الانفراد بالسّلطة وتبنّي نهج رشيد)، والالتزام بالإنجيل (بما مفاده العودة إلى تعاليم المسيح السّمحة)، ومراجعة المهام الكنسيّة (لا سيّما ما تعلّق منها بالتّكوين والأدوار)، وتسوية علاقة كنيسة روما بالشّرق (أي مراجعة السّياسات المتشدّدة على غرار موقف الفاتيكان من كنيسة الصّين الوطنيّة)، والهدنة مع الإسلام (بما يعني إرساء صلح فعلي يتخطّى المجاملات الشّكلية)، بما يؤدّي إلى السّير صوْب عقد مجْمَع مسكوني تُطرح فيه قضايا الكنيسة المصيريّة.
هذه الحزمة من المطالب هي في الحقيقة عناوين لورشات إصلاحيّة كبرى، لاهوتية ومؤسّساتية، برزت ملّحة منذ صدور «تقرير الكنيسة الإحصائي» (روما، 2016). بما لاح من تراجع في أعداد المنضوين في سلك الرّهبنة، الذي مسّ بالخصوص بولندا التي شهدت تراجعا بـ 10 %، وبريطانيا تراجعا بـ11،5 %، وألمانيا بـ7،7 %، والنمسا بـ 10،9 %، وفرنسا بـ 3،5 % وإسبانيا بـ 1،8 %. وأمّا ما تعلّق بالرّاهبات، فإن كان عددهن قد ناهز 682.729 راهبة سنة 2014، فقد شهد مقارنة بالعام 2005 تراجعا بنسبة 10،2 %، وهو ما مسّ بالأساس أوروبا وأمريكا. ليُبرز التّقرير بوجه عام تدحرج أوروبا على المستوى القارّي كنموذج مرجعي مسيحي، بعد أن كانت مركز الدّوران الذي يطوف العالم الكاثوليكي حوله، هذه المؤشّرات وغيرها تكشف عن نزيف حقيقي يؤرّق الكنيسة.
وفي الواقع منذ أن تحدّث عالم الاجتماع الإيطالي «سابينو أكوافيفا» عن «أفول المقدّس في الحضارة الصّناعية» (1961)، كان الرّجل يلمّح إلى تراجع دور المسيحيّة الفاجع الذي لم تقف قرارات مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965) حائلا دونه. لكنْ سعياً للحدّ من ذلك التّراجع، أنشأت حاضرة الفاتيكان طوق نجاة، هو عبارة عن جهاز من «المتديّنين العَلمانيين»، أوكلت له مهام شدّ أزر الكنيسة في استراتيجيّة أنْجَلة العالم، وجعْل خطابها الدّيني مقبولا على نطاق اجتماعي، ومن ثمّة تقليص حدّة النّفور من تصلّب الإكليروس. لكن ذلك الجهاز بقي محدود الأثر، نظرا للضّغوطات المسلَّطة عليه في مجالي النّشاط الاجتماعي والسّياسي من قِبل الأساقفة.
اللاّهوتي الألماني السويسري المنشق «هانس كونغ» في كتابه: «المسيحية.. الرّوح والتّاريخ» (ميلانو، 1997) اختزل أزمة الكنيسة البنيويّة في الارتهان إلى براديغم القرون الوسطى في التّعامل مع مجتمعات حداثيّة ومعلمَنة. بما أفرز تناقضات تعدّت حيز الكنيسة إلى مجال المجتمعات المسيحيّة، ناهيك عن تشظّي تلك التّناقضات مع الأديان والحضارات الأخرى في ضروب شتّى من التّصادم. فقد جعلت الدّغمائيةُ المستحكمة باللاّهوت المسيحي مطالبَ التّجديد عصيّةً، ولعلّ أوكدها مسألتين أساسيتين: إحداهما على صلة وثيقة بالأحوال الشّخصية، سواء ما تعلّق منها برجل الدّين والرّاهبة أو كذلك ببِنية الأسرة. إذ لا تزال الكنيسة تصرّ على «قانون كنسي» (diritto canonico) عتيق ينصّ على العزوبة القسريّة في أوساط الإكليروس، وهو ما جرّ إلى انحرافات خُلقية، أبرزها في الوقت الرّاهن أحداث الاعتداءات الجنسيّة على القاصرين في عدّة دول من قِبل رجال دين، ما أجبر كاتدرائيّات أمريكيّة إلى إعلان إفلاسها، تفاديا للتّتبعات القضائيّة المنهكة؛ وأمّا المسألة الأخرى فهي رفْض الكنيسة، حدّ الرّاهن، السّماح للمطلّقين بإعادة بناء حياة زوجيّة. وكلّما طُرحت مسألة ضمّ هؤلاء للكنيسة مجدّدا، لاقت معارضة من شقّ لاهوتي متشدّد، لعلّ آخرها توقيع لفيف يزيد على ستّين شخصا من رجال الدّين والمقرَّبين من الدّوائر الكَنَسيّة على عريضة، تتّهم البابا فرانسيس بالهرطقة وذلك منذ أسابيع قليلة، لتلميحه إلى إمكانيّة احتضان جحافل المطلّقين في الكنيسة، الوارد في الإرشاد الرّسولي «فرح الحب» (Amoris laetitia).
وبالتّوازي مع مطالب التّجديد المتوجّهة إلى مسائل على صلة بالدّاخل المسيحي، ثمّة مطالب أخرى لا تقلّ شأنا تتعلّق بضرورة تجديد نظرة المسيحيّة للعالم والأديان الأخرى. فـ «لاهوت الأديان» النّاشئ لا يزال في أخذ وردّ، بين اعتبار الأديان الأخرى سُبلا للخلاص أو نفي تلك الصّفة عنها، كون الرّأي السّائد لايزال رهينا للمقولة الشّهيرة «لا خلاص خارج الكنيسة» (Extra ecclesiam nulla salus). ولايزال «الاستبعاد» المتأسّس على مركزيّة المسيحيّة طاغيا على «الاستيعاب»، رغم أنّ مجمع الفاتيكان الثّاني قد مهّد الطّريق لذلك الاستيعاب، سواء حين أورد بشأن المسلمين «أنّ الكنيسة تنظر بعين الإجلال إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحمن القدير خالق السّماء والأرض، ومكلّم النّاس»، أو كذلك ما تعلق بالهندوس بقوله: «إنّ النّاس في الهندوسيّة يتحرّون أسرارَ الألوهيّة، التي يعبّرون عنها بوساطة الأساطير والاجتهادات الفلسفيّة الثّاقبة؛ ساعين للتّحرر من القلق الذي يكتنف وجودهم، سواء عبر أشكال الزّهد، أو عبر التّأمل العميق، أو كذلك عبر اللّجوء إلى الله، بمحبّة وثقة». إذ من المخاتلة الزّعم بالتّحاور مع الآخر إذا ما كان الاعتراف اللاّهوتي به مصادَرا. ولو أخذنا على سبيل الذّكر مفهوم «التّراث اليهودي المسيحي» وهو بالأساس مفهوم كَنَسي، فهو لا يتّسع ليشمل كافّة مكونات التّراث الإبراهيمي، والإسلام أُسّ لا غنى عنه في ذلك. إذ من السّخف أن يجري الحديث عن تراث يهودي مسيحي مشترك، دون ردفه بالجانب الإسلامي وتعمّد إقصائه. فالأمر فيه إجحاف ولا يستقيم تاريخيّا وعلميّا، فالمكوّن اليهودي في الحضارة الغربيّة بات معترَفا به لأسباب سياسيّة، ويوازيه مكوّن إسلامي في الحضارة الغربيّة غدا مطموسا ومبعَدا لأسباب سياسيّة أيضا.
يرد في إنجيل لوقا على لسان المسيح (ع): «إذا رأيتم السّحاب يطلع من المغارب، فللوقت تقولون: المطر آتٍ! وهكذا يكون. وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب، تقولون سيكون حرٌّ! وهكذا يكون. يا مراؤون! تعرفون تمييز وجه الأرض والسّماء، وأمّا هذا الزّمان كيف لا تميّزون؟». القول موجّه إلى الفرّيسيين حينها، لكنّ الكنيسة اليوم هي أحوج ما يكون إلى هذا الخطاب الإنجيلي لخوض تجديد متين يتوجّه للذّات والعالم.
|