في الصميم
بقلم |
محمد الدرداري |
فقه الدعوة إلى الله - رؤية تأصيلية (1/2) |
لم يكن نبينا محمد (ﷺ) بِدعا من الرّسل، فقد تعرّض في قيامه بدعوته إلى الله - كبقيّة الرّسل والأنبياء- إلى أشدّ المضايقات من أعدائه وممارسات التّنكيل والتّشويه ونال حظّه من ذلك، فكال له قومه من التّهم حتّى قالوا: إنّه مجنون. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾(1). واتّهموه بالسّحر والكذب. قال تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّاب﴾(2).
يقول ابن هشام متحدّثا عن اضطهاد كفّار قريش للنّبي (ﷺ): قال ابن اسحاق: «فحدثني يحيى بن عروة بن الزّبير، عن أبيه عروة بن الزّبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله (ﷺ) فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله (ﷺ)، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرّجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا. لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. فبينا هم في ذلك، إذ طلع رسول الله (ﷺ)، فأقبل يمشي حتّى استلم الرّكن، ثم مرّ بهم طائفًا بالبيت، فلمّا مرّ بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله (ﷺ). قال: ثمّ مضى، فلمّا مرّ بهم الثّانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله (ﷺ)، ثم مرّ بهم الثّالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذّبح.
قال: فأخذت القوم كلمته، حتّى ما منهم رجل إلاّ كأنما على رأسه طائر واقع، حتّى إنَّ أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه (يهدئه) بأحسن ما يجد من القول، حتّى إنّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا.
قال: فانصرف رسول الله (ﷺ)، حتّى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتّى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله (ﷺ)، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـــــ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـــــ فيقول رسول الله (ﷺ): نعم: أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإنّ ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قطّ» (3) .
ومضى النّبي (ﷺ) في دعوته ـــ رغم ما لاقاه من قومه ــــ إلى أن لقي ربّه رابط الجأش، قويّ القلب، صابرا محتسبا، فأنقذ الله به البشريّة من الضّلال، وأرشدها إلى ما فيه خيرها وصلاحها في الدّنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾(4).
وبموته (ﷺ)، لم تتوقف مهمّة الدّعوة الى الله، بل ورثها العلماء العاملون من أمّته، يقول (ﷺ): [الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ] (5) . ويقول عليه الصلاة والسلام: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً](6). وقال عليه السلام: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا] (7) .
لقد كان النّبي (ﷺ) هو القدوة الكاملة، والأسوة الحسنة، فبلغ رسالة ربّه كما أُمر. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾(8). فلم يذق طعم الرّاحة طيلة ثلاث وعشرين سنة، بل قضّاها مشمِّرا، داعيا إلى توحيد الله تعالى، ونبذ الشّرك عنه، فرسم لنا بذلك منهجا دعويّا متكاملا، محدّد المعالم، واضح الملامح، يجب على كلّ من ورث عن النّبي (ﷺ) وظيفة الدّعوة، أن يجعله نصب عينيه، حتّى تكون دعوته إلى الله على بصيرة. كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين﴾(9).
معالم المنهج النّبوي في الدّعوة
(1) الصّبر
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(10). وصبر الدّاعية هو أحد السّبل المؤدّية إلى نجاح دعوته، ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون مسارات الدّعوة مفروشة بالأشواك والجماجم، لا بالزهور والرّياحين.
والصّبر المطلوب من الدّاعية يأخذ أبعادا متنوّعة منها:
أولا: الصّبر على الطاعة: بأن يوثِّق الدّاعية صلته بالله عز وجل، ويجتهد في أداء شعائره التّعبدية كاملة، المفروض منها والمسنون، إذ في ذلك الزّاد الذي يغذيه بالطّاقة، ويجعله مقبلا على الدّعوة بروح إيمانيّة لا تخبو ولا تفتر. قال تعالى: مخاطبا رسوله (ﷺ): ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (11).
وروي عن أنس رضي الله عنه، أنه قال حينما سئل عن عبادة النّبي (ﷺ): [مَا كُنَّا نَشَاءُ أَنْ نَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْنَاهُ، وَمَا كُنَّا نَشَاءُ أَنْ نَرَاهُ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْنَاهُ، وَكَانَ يَصُــومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ مِنْهُ شَيْئًا](12) .
وعن عائشة رضي الله عنهــا قالت: [كان رسول الله (ﷺ) إذا صلى قام حتّى تفطر رجـــلاه، قالت عائشــة: يا رسول الله أتصنع هــذا، وقد غُفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخـّـر، فقال: «يا عائشة: أفلا أكون عبدا شكورا»] (13)
ثانيا: الصّبر في وجه البلايا والمحن: فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [قلت يا رسول الله، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»] (14) .
ولقد تعرّض النّبي (ﷺ) وصحابته الكرام، لأبشع صنوف المحن النّفسية منها والبدنيّة، فما نال ذاك من عزيمتهم أبدا، بل كانوا الأسوة والقدوة لمن جاء بعدهم. قال ابن عباس رضي الله عنه بعد أن سُئل: «أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله (ﷺ) من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله، إن كانوا ليَضربون أحدهم ويجوّعونه ويعطشونه حتّى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدّة الضّر الذي نزل به»(15).
إنّ تاريخ الإسلام مليء بالمواقف البطوليّة للأئمة والدّعاة الذين اضطهدوا في سبيل الدّعوة إلى الله، فأصابهم من الأذى والاضطهاد ما لا يخطر على بال، فمن هؤلاء: السّعيدان برحمة ربهما: سعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير، والإمام الأعظم أبو حنيفة النّعمان، والإمام مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وسلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيميّة وغيرهم.
فعلى دعاة الإسلام اليوم، وفي كلّ زمان؛ أن يسلكوا مسلك هؤلاء، ويصبروا صبرهم، وليعلموا أن هذه الدّعوة ما كانت لتخترق سحب الضّلال، وتكسر القيود والأغلال، لولا تلك الدّماء الزّكية التي فارت بها عروق الدّعاة والعلماء المخلصين.
ثالثا: الصّبر في وجه المساومات والإغراءات: وتلك وسيلة يلجأ إليها أعداء الدّعوة في كلّ زمان قديما وحديثا. ولا عجب؛ فقد جرّبها كفّار قريش مع النبي (ﷺ). قال ابن هشام: « قالوا له ـ قريش ـ فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنّما تطلب به الشّرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطّب لك حتّى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله (ﷺ): ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشّرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلّغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» (16)
وبرفض النّبي (ﷺ) لهذا الإغراء، تفتقت عقولهم عن مكيدة أخرى، فحاولوا استدراجه إلى أنصاف الحلول، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، ولتعبد ما نعبد، ونشترك في أمرنا كلّه. فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾(17).
إنّ الدّعوة إلى الله مهمّة عظيمة، إذ هي الطّريق الموصل إليه تعالى، والتّعرف بها على شرعه ومنهاجه، لذا يجب على الدّعاة أن يعرفوا قدر المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم، ويحذروا من الوقوع في شراك أنصاف الحلول، أو الالتقاء في منتصف الطّريق مع خصوم الدّعوة، أو الضّعف أمام إغراءات الحياة المادّية.. ولقد كشفت الثّورات العربيّة أخيرا نماذج من هؤلاء الذين عزّ عليهم مفارقة حياة البذخ والتّرف في ردهات القصور، فأخرس الله ألسنتهم عن قول كلمة الحقّ، فانكشف زيف ذلك اللّباس، وتمزّق حتى أصبحوا عراة أمام العالم.
الهوامش
(1) سورة الحجر - الآية 6
(2) سورة الشورى - الآية 3
(3) سيرة ابن هشام تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط/2، 1375هـ / 1955م (1/ 290).
(4) سورة الشورى - الآية 49
(5) سنن أبي داود، كتاب: العلم، باب: الحث على طلب العلم، حديث رقم: 3641 (3/ 317).
(6) صحيح البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم: 3461 (4/ 170).
(7) صحيح مسلم، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، حديث رقم: 2674 (4/ 2060)
(8) سورة المائدة - الآية 69
(9) سورة يوسف - الآية 10
(10) سورة الزمر - الآية 11
(11) سورة المزّمل - الآيات 3،2،1
(12) مسند أحمد، مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، حديث رقم: 12012 (19/ 70).
(13) صحيح مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم: 2820 (4/ 2172).
(14) سنن الترمذي، أبواب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء، حديث رقم: 2398 (4/ 601)
(15) سيرة ابن هشام (1/ 320).
(16) سيرة ابن هشام (1/ 296).
(17) سورة الكافرون - الآية 1
|