تأملات

بقلم
النوري بريّك
السّياسة النّبوية وفقه المآلات
 فقه المآلات هو نظر اجتهاديّ يجمع بين الواقع والمتوقّع وينقل الحكم من التنظير الى ‏التّطبيق ومن التّجريد الى الواقعيّة ممّا يوجب على الفقيه أو صاحب الأمر أن يتجاوز ‏تحديد الحكم الشّرعي الأصليّ الى بذل الوسع في تنزيله بصورة تحقّق مقصده المرجوّ ‏منه وبذلك نتجنّب التّطبيق الآليّ المفضي الى سوء النّتائج والوقوع في مناقضة مقاصد ‏الشّرع.‏
فقه المآلات يؤكّد أنّ الخطّ الأصيل الذي يقتضيه منهج التّغيير والإصلاح وخاصّة في ‏المجال السّياسي والاجتماعيّ هو سلوك الطّرق السلميّة وإن ظهر للبعض أنّه مسار ‏بطيء لا يؤدّي الى نتائج كاملة ولا يجتثّ الفساد من جذوره وهو ما لا يشبع ‏سوْرة َالحماس في نفوس المتحمّسين وخاصّة من الشّباب أو المـتسرّعين لعمليّة التّغيير، ‏إلاّ أنّ النّظرة الفاحصة المتأمّلة التي ترنو الى النّتائج العميقة على الواقع تدرك أنّ من ‏سياسة النبيّ (ﷺ) التّأنّي من غير توانٍ، والسّلميّة من غير تذلّل وهو ‏المنهج الأجدى للبلاد والعباد، فخير للنّاس أن يعيشوا بشيء من أخطائهم متقاربين على ‏أن يعيشوا في فتن حالقة على أساس أنّهم يطلبون الحقّ الكامل..ومن هنا على ‏أصحاب الفكر الاسلاميّ أن يُحسنوا استثمار مبدأ الديمقراطيّة الذي إذا احترمه جميع ‏الفرقاء سيكون أصحاب الفكر الإسلاميّ أكثر المستفيدين منه لأنّه يضرب الاستبداد ‏الذي هو أخطر عائق لدعاة التّغيير والإصلاح، وهذا الفقه، أي فقه المآلات يفيد في ‏تلمّس السُّبل قصد الارتقاء بالواقع، وقد عمّقه الشّاطبي في الموافقات(‏1‏). حيث تؤكّده ‏قواعد شرعيّة عامّة منها متّفق عليه مثل:الأمور بمقاصدها – التصرّف على الرعيّة ‏منوط بالمصلحة – الوسيلة إذا لم تُفْضِ الى مقصودها سقط اعتبارها ... وأخرى ‏مختلف فيها منها : العبرة بالمآل لا بالحال، المتوقّع كالواقع، الضّرر في المآل يُنزّل ‏منزلة الضّرر في الحال ...(2). 
ومن سياسة النبيّ (ﷺ) في ذلك واقعة ‏صلح الحديبيّة مثلا حيث كانت فيها شروط أشعرت المسلمين بالضّيم فقد وافق النبيّ ‏عمّا يبدو استسلاما لقريش ومن ذلك رجوع المسلمين ومعهم من معهم من العرب عن ‏الاعتمار، وأن يردّ المسلمون كلَّ من جاءهم من مكّة مسلما ولا تلتزم مكّة بمثله، وأن ‏يضطرّ سهيلُ بن عمرو ممثلُ قريش النبيَّ الى محْوِ صفة الرّسالة عند كتابة المعاهدة ‏حيث قَبِل النبيُّ بـمحمد بن عبد اللّه وليس محمّدا رسول اللّه وقَبِل: باسمك اللّهم عوضا ‏عن بسم اللّه الرّحمان الرّحيم .. حتّى ضجّ عمر بن الخطّاب وقال: ... ألستَ برسول ‏اللّه ؟، أو َلسنا بالمسلمين ؟ أَوَ ليسوا بالمشركين ؟ قال النبيّ: بلى، قال عمر: فعلام ‏نُعطَى الدنيّة في ديننا ؟(3). رغم كلّ هذا فقد سمّاه اللّه فتحًا «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا ‏مُّبِينًا».(4). وقد روى الواحدي وابن اسحاق عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَة ومروان بن الحكم ‏قالا: نزلت سورة الفتح بين مكّة والمدينة في شأن الحديبيّة وقد حيل بيننا وبين نسكنا ‏فنحن بين الحزن والكآبة أنزل اللّه تعالى «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا» فقال رسول اللّه (ﷺ): «لقد ‏أُنزلت عليّ آيةٌ أحبّ اليّ من الدّنيا وما فيها (5). وذلك لأنّ النبيّ (ﷺ) ‏نظر الى مآل الأمر فهو بهذا الصّلح درأ مفسدة عظيمة وهي تعرّض المستضعفين من ‏المؤمنين والمؤمنات في مكّة للقتل لو قامت الحرب.‏
فقد قال تعالى: «وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم ‏مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ...» (6). وحقّق مصلحة أعظم ‏هي إشاعة السّلم والأمن بين القبائل لأنّه اتّفق مع قريش على عدم الحرب عشرة سنين ‏كاملة ممّا سمح للنّاس بحريّة التنقّل والسّفر الآمن وذلك ما سهّل حركة الوفود الى ‏المدينة والاختلاط بالمسلمين وسماع القرآن كما يسّر لأصحاب النبيّ حركة التنقّــل ‏للدّعوة بين القبائل، ولهذا عرفت فترة ما بين صلح الحديبيّة (6هـ) وفتح مكّة (8هـ) ‏دخـــولا كثيفا في الإســلام، فكــان من أسلم في هذه السّنوات الثّلاث أكثر ممّن أسلم منذ ‏البعثة حتّى أنّ الجيش الإسلامي الذي لم يتّجاوز عــددُه في كلّ حروبه السّابقة ألفا ‏وخمسمائة أصبح عند فتح مكّة يناهز العشرة آلاف، لهذا كانت سياسـة النبيّ (ﷺ) في « الحديبيّة» هي الفتح الحقيقيّ لمكّة ولهذا سمّاه اللّه «فتحا». جاء في «التّحرير والتّنوير» :عن الزّهري «لقد كان يوم الحديبيّة أعظم الفتوح ذلك أنّ النبيّ (ﷺ) جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلمّا وقع صُلْحٌ مشى النّاس بعضُهم في ‏بعض، أيّ تفرّقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجل الأمن بينهم، وعلموا ‏وسمعوا عن اللّه فما أراد أحدٌ الإسلام إلاّ تمكّن منه، فما مضت تلك السّنتان إلاّ ‏والمسلمون قد جاؤوا الى مكّة في عشرة آلاف»(7).‏
وكلّ هذا يؤدّي بنا الى استخلاص العبرة وهي ضرورة التأنّي واستحضار عواقب ‏الأمور ومآلاتها وأن تصوّر الاندفاع والحسم المتسرّع والشدّة في غير محلّها سيجعل ‏النّاس يستقيمون ويُقبلون على الدّين تصوّر مغلوط لأنّه سيقود الى إثارة الفتنة ويذهب ‏بالأمن الذي هو مناخ الدّعوة الى الحقّ، وذلك لأنّ النّاس يميلون فطرة الى الرّحمة ‏واللّين وضمان مصالحهم الدّنيويّة حتّى قبل الدّينيّة، فعماد منهج الإصلاح هو حفظ ‏مصلحة موجودة أو تحصيلها إن كانت غير موجودة وكذلك إزالة مفسدة موجودة أو ‏درؤها إن كانت متوقعة، وهذا يشير إلى دلالة سياسيّة أخرى في منهج السّياسة النبويّة ‏معالمها واضحة يمكن أن نسمّيها : «فقه التّفاؤل والأمل».
إنّ مناخ  الثّورة أي ثورة إذا ‏لم يخرج من مرحلة الهوجة والاندفاع الى مرحلة الهدوء مع المراقبة الجادّة حتّى نُوجد ‏مناخا لثورة أخرى أعمق هي ثورة الثّقافة وتحرير العقول والنّفوس ممّا اختلط بها طيلة ‏سنوات مديدة تغلغل فيها السّوء والشرّ بكلّ وجوهه وفي كلّ مواقع الدّولة، وهذا يحتاج ‏الى كثير من الحكمة والحيلة تضطر صاحبها أحيانا الى المناورة المدروسة التي قد تتطلّب ‏قبول ما يبدو في ظاهره هزيمة وقد تكون مؤقّتة من أجل نصر مؤجّل.
إنّ تجنيب ‏البلاد كوارث الفتنة الحالقة وفسْح مجالٍ صامتٍ للتغلغل في المفاصل المؤثّرة في ‏توجيه المسار الى الأفضل وكسر عنف المنافسين الأعداء الذين ليس من السّهل أن ‏يتزحزحوا عن مصالحهم التي امتلكوها عهدا بعد عهد..يبدو هذا كلّه من فقه المآلات ‏الذي هو من نفح السّنة النّبوية، على أنّ هذا يخدم مرحلة معيّنة فإذا تغيّرت الظّروف ‏فلا بدّ من المُضيّ قُدُمًا الى الإصلاح المباشر والبدْء بالبناء الجادّ وإنّنا نرجو أن ‏يتحقّق ذلك قريبا وأملنا في الله كبير.‏
الهوامش
(1) ‏انظر : الشاطبي (ابراهيم بن موسى ـ): م.س، ج4 ص 194 وما بعدها ‏‎ ‎
(2) انظر: الندوي (أحمد علي): القواعد الفقهيّة ،قدّم له مصطفى الزرقا، دار القلم ، دمشق، ط.1، 1986 ‏م ص 133،156، 211‏
(3)  ابن هشام (محمد بن عبد الملك): م.س، ج 3-4، ص317‏
(4)  سورة الفتح : 48/1‏
(5)  ابن عاشور(محمد الطاهر): م.س،  ج26. تفسير سورة الفتح
(6)  سورة الفتح: 48/25‏
(7) ابن عاشور(محمد الطاهر): م.س، ج26، تفسير سورة الفتح