بالمناسبة

بقلم
عبد الحق التويول
«الهجرة» عند فتح الله كولن
 يعتبر «محمد فتح الله كولن»(1) أو كما يسمّيه الأتراك (خوجا أفندي) أي الأستاذ المعلّم ، أحد أبرز ‏مفكّري ودعاة العصر الرّاهن (ق21م)، خاصّة أنّه صاحب مشروع خدماتي نهضوي بامتياز ‏يروم من خلاله بعث الإنسان من جديد وإعادة الاعتبار إليه بنفخ الرّوح فيه والتحليق به نحو سماء النّهضة والرّقي في مختلف المجالات قصد اجتثاثه من ‏مستنقع المادّية والإلحاد الذي أصبح يُحكم هيمنته ليس على الإنسان وحسب بل على العالم ككل ‏ويقوده نحو الهاوية. لذا، ‏فإنّ المتتبّع لكتابات «خوجا أفندي» يجده يركّز كل اهتمامه على الإنسان محاولا بناءه بما يحقّق ‏له الوراثة الأرضيّة والسّماويّة معا، مشدّدا على ضرورة انطلاقه (أي الانسان الوارث) من ‏أصول واضحة ومتينة في مقدّمتها القرآن الكريم والسّنة النّبوية الشّريفة مع ضرورة السّير ‏على نهج الرّسول الكريم (ﷺ) الذي بعث رحمة للعالمين والاقتداء به في كلّ ‏شيء قدر المستطاع مع استلهام الدّروس والعبر من صفحات سيرته المشرقة بما في ذلك ‏حدث الهجرة الذي اعتبره «خوجا أفندي» لبنة أساسيّة في تشييد صرح حضارة إيمانيّة جديدة ‏وراقية ، ومن ثمّ وجدناه ينظر إلى هذا الحدث العظيم في تاريخ الإسلام نظرة مغايرة تميّزت ‏بتقديم مفهوم جديد للهجرة الصّادقة وموضّحا أهمّ الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها غير ‏متجاهل لصفات الوارث الحقّ . 
إنّه بالرّجوع إلى فكر «فتح الله كولن» وما قدّمه بخصوص الهجرة تلك اللّبنة الأساسيّة التي ‏اعتبرها عنصرا رئيسا لتشييد صرح النّهضة، نجده قد أدخل هذا الحدث العظيم مختبر الاعتبار ‏ونظر إليه بعين متبصّرة فاحصة ليتبيّن له أنّ الرّسول (ﷺ) عندما هاجر مكّة ‏فإنّ قلبه لم يهجر ترابها ولا الكّعبة الرّابضة في قلبها ولا هجر أهلها خصوصا قريش وبني ‏هاشم الذين كان يحبّهم ويتمنّى لهم الخير والايمان جميعا وهو ما أعلنه (ﷺ) ‏صراحة حين قال «ما أطيَبَكِ مِن بلَدٍ وأحبّك إليّ ولولا أنَّ قومي أخرَجوني مِنكِ ما سكَنتُ غيرَكِ»(2) ، وإنّما الذي هجره (ﷺ) هو الوثنيّة المسيطرة ‏والعصبيّة المستعلية التي تؤمن بمنطق واحد هو منطق القوّة لا الحقّ، أمّا غير ذلك فلم يهجره ‏النّبي (ﷺ) بتاتا بل حمله معه في صدره وبقي يحنّ ويتطلّع إليه يوما بعد يوم ‏إلى أن عاد (ﷺ) إلى تلك الأرض الطّاهرة التي نشأ فيها، وتربّى في بطاحها ‏وتنسم عبيرها فاتحا لها ومطهّرا إيّاها من الوثنيّة والعصبيّة التي أحكمت قيودها ونسجت ‏خيوطها عليها سنين عددا متوّجا كلّ ذلك بعفوه الصّادق عن كلّ من ظلمه واضطهده وكان ‏سببا في معاناته قائلا لهم ( لا تثريب عليكم ). 
بهذا التّأمل لخوجا أفندي في حدث الهجرة تأتى له التّمييز بين (الهجرة) و(الهجر) ليخرج بعد ‏ذلك من مختبره معلنا النّتيجة لأبناء عصره قائلا : هذه هي هجرة رسول الله (ﷺ) بين أيديكم، وهي كتاب مفتوح، فأمعنوا القراءة فيه لتدركوا منه أنّ هجرتكم من بلادكم ‏‏–لأي سبب من الأسباب- لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع ‏المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظّرفية الطّارئة معهم؛ بل يجب أن تبقى الصّلة ‏قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدّونهم بأسباب الحفاظ على الدّين من مواقعكم، لكي يثبتوا ‏ويمتدّوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدى ممكن، لاسيّما ووسائل التّواصل الآن في أقوى ‏مستوى عرفته البشريّة . 
إنّ المعنى الجديد الذي أراد «فتح الله كولن» أن يؤصّل له من خلال هذا الكلام يفيد أنّ الهجرة ‏الحقّة هي : هجرة القيم الضّيقة الضّاغطة التي تكبل حركة الإيمان، وتفتعل الصّدام المستمر، ‏وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد، إلى القيم الأخرى التي تسمح لأشجار الإيمان أن تنمو، ‏وتسمح بالتّفاعل والتّحاور، ومواجهة الرّأي بالرّأي، والحجّة بالحجّة، وتكون مؤهّلة لأن ‏تسمح لأهل الإيمان والحقّ أن يعيشوا كما يريدون، وأن يبنوا قلاع الإيمان في النّفوس عن ‏طريق الدّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن . 
وبعبارة أخرى الهجرة هي : كسر القيود التي تفرض على الإيمان، وفتح نوافذ أخرى في ‏أرض جديدة. وليست الهجرة الإسلاميّة أبدا من تلك الهجرات التي تعني زحفا على البلاد على ‏حساب أهلها، أو لتحقيق الثّروة ثمّ الخروج بها، أو للاعتماد عليها لقهر أصحاب البلاد ‏الأصليين، وجعلهم مجرد منفذين وأدوات لمشروعات وطموحات المهاجرين إليهم . 
هذا وقد ركّز «فتح الله كولن» على ضرورة بناء هذه الهجرة على أسس متينة كي تؤتي أكلها ‏كلّ حين، على رأسها المؤاخاة والتّكافل بشقيه المادّي والمعنوي تحقيقا لقول الله تعالى «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ»(3). و يعني التّكافل «المادّي» التّعاون على ضمان الحدّ الأدنى ‏المطلوب للحياة لكلّ أخ مسلم، طعاما أو شرابا أو علاجا أو تعليما أو كساء. أمّا التّكافل ‏‏«المعنوي» فهو التّعاون على ضمان التزام «الأخوّة» في الإسلام بأداء «الفرائض» والبعد عن ‏‏«المآثم،» وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في إطار البيئة التي يعيشون ‏فيها وبالأساليب المناسبة لها. كما ركّز «فتح الله كولن» على ضرورة بناء «المسجد» وإن كان متواضعا ليضمّ الرّجال والنّساء ‏والأطفال، فقد حذّرنا الرّسول (ﷺ) من عدم إقامة الجماعة عند وجود عدد ‏من المسلمين وإن كان قليلا. 
كما أنّ «المسجد» سيكون محور لقاءات المهاجرين المسلمين وتعارفهم ‏وتكافلهم المادّي والمعنوي. ومن المسجد ينطلقون إلى صور من التّكامل فيما بينهم تأخذ ‏طابعا علميّا ومؤسّساتيّا يجعل لهم قيمة وتأثيرا وإشعاعا في مهجرهم الجديد .‏
الهوامش
(1) محمد فتح الله كولن ((بالتركية: Fethullah Gülen)) مفكر إسلامي وداعية تركي. ولد في 27 أفريل من سنة 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء حسن قلعة المرتبطة بمحافظة أرضروم، وهي قرية كوروجك ونشأ في عائلة متدينة. يعتبر كولن من مريدي سعيد النورسي، كما يركز في أعماله بفكرة الديمقراطية وحوار الأديان. له 60 كتابا، أغلبها حول التّصوف في الإسلام ومعنى التّدين، والتّحديات التي تواجه الإسلام اليوم.ألّف في السّيرة النّبوية كتابا حديثا أسماه (النّور الخالد) الدّراسة العلميّة في السّيرة النّبوية. ومن كتبه ومقالاته أيضا: البيان، التلال الزمردية، ونحن نقيم صرح الروح، أسئلة العصر المحيِّرة، تعليم العربية بطريقة حديثة، جيل الحداثة ونحن نبنى حضارتنا.
ومحمد فتح الله كولن هو مؤسس وزعيم «حركة كولن»، وهي حركة دينية تمتلك مئات المدارس في تركيا، ومئات المدارس خارج تركيا، بدءا من جمهوريات آسيا الوسطى، وروسيا وحتّى المغرب وكينيا وأوغندا وجنوب إفريقيا، مرورا بالبلقان والقوقاز. كما تملك الحركة صحفها ومجلاّتها وتلفزيوناتها الخاصّة، وشركات خاصّة وأعمال تجاريّة ومؤسّسات خيريّة. ولا يقتصر نشاط الحركة على ذلك بل يمتدّ إلى إقامة مراكز ثقافيّة خاصّة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنويّة في بريطانيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا، بالتّعاون مع كبريات الجامعات العالميّة من أجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثّقافية والاجتماعيّة
(2) رواه الترمذي في صحيحه عن ابن عباس - الحديث عدد 3926
(3) سورة المائدة - الآية 2.