التدوينة

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
مقومات الشّعرية بين الجماليّة والرّساليّة‎
 الخطاب الوجداني ومنه الخطاب الشّعري علامة حياة، تدرأ عن النّفس ما قد يفضي إليه الإغراق في التّفكير أحيانا، من جدب في الإحساس وجفاف في الشّعور، على النّحو الذي يومئ إليه قول أبي القاسم الشّابي:
عش بالشعور وللشعور فإنمــــــا *** دنياك كون عواطف وشعور
شيدت على العطف العميق وإنها *** لتجف لو شيدت على التفكيـر
وهو أيضا أداة عافية وسلامة للنّفس، وإن كان معظم ما يصدر عن الوجدان -في تقديري المتواضع- مترجما لهمومه وغمومه، إلاّ أنّ العافية هنا واقعة من باب «وأخرجت الأرض أثقالها»، إذ للنّفس أثقال وجراح إذا ما أخرجتها استراحت من كلومها، وقديما عبرت العرب عن هذا المعنى بحكمة بليغة مؤداها «الصّدر إذا نفث برؤ» وكثيرا ما استعارها الشّعراء ، وعلى الخصوص في مقام الشّكوى بنحو قولهم :
«ولابد من شكوى إذا لم يكن صبر» 
والخطاب الوجداني ومنه الخطاب الشّعري وتلقيهما، كل ذلك أيضا أمارة توازن في النّفسية، وفي الشّخصيّة التي ينبغي أن توظّف كلّ قواها وجدانيّة وعقليّة، وبشكل متوازن، عسى أن تدفع عنها ما يمكن تسميته بفساد المزاج، على نحو ما أثر من قول أبي حامد الغزالي «من لم يهزه الرّبيع بأنواره، والعود بأوتاره، والرّوض بأزهاره، فهو فاسد المزاج، وليس له علاج»(1).
وأحسب أنّ ثمّة إشارات قرآنيّة بليغة بخصوص هذا المعنى، أعني التّوظيف المتوازن لكلّ من قوى الفكر وقوى الوجدان، وهي بحاجة إلى تذوق وتبصير، أكثر منه إلى شرح وتفسير، من ذلك ما ورد في المائدة في سياق الإحساس بالخشوع لجلال المولى عز وجل «تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ»(2) إذ البكاء من خشية الله سبحانه بهذا التّصوير المهراق رقة ورونقا، إنّما يؤول إلى أمر فطري وجداني، بينما معرفة الحقّ غالبا ما تؤول إلى أمر عقلي برهاني.
ثم إنّ الخطاب الشّعري-قبل ذلك وبعده- إنّما هو في جوهره قبس من مشكاة الجمال، بما يبنيه من صور شعريّة مؤثّرة بعنصريه: اللّغة الشّعرية أوّلا، ثمّ موسيقى الشّعر ثانيا، إذ هما قوام البناء الشّكلي فيه. ولعلّ القصّة المأثورة المشهورة عن الرّجل الذي حفظ ألف بيت، ثم قيل له بعد أن نسيها: الآن أصبحت شاعرا، لم يكن القصد منها سوى التّنبيه إلى ضرورة تخمير هذين العنصرين في ملكة من هيأ نفسه لقول الشّعر، عسى أن تزهر وتثمر من كلّ زوج شعري بهيج.
وموسيقى الشّعر، وإن كانت عنصرا مهمّا في البناء لا يمكن الفكاك عنه بحال، إلاّ أنّها من حيث الاعتبار أدنى قيمة من اللّغة الشّعرية، التي هي العنصر الأهمّ والآكد، بحيث إذا ما زايلت الخطاب الشّعري خرج عن الشّعريّة إلى مجرد النّظم الفارغ من أغراض الشّعر، على نحو قول شوقي:
والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة ***   أو حكمة فهو تقطيع وأوزان  
ولعلّ من شواهد ذلك أيضا، ما روته بعض كتب الأدب، أنّ حسّان بن ثابت أتاه ابنه الصّغير يبكي، فقال يا بنيّ ما يبكيك، فقال لسعني طائر، وكان قد لسعه زنبور، فقال يا بنيّ صفه لي، فقال «كأنّه ملتفّ ببردي حبرة»  أي ثوبان يمنيان مزركشان، فلم يملك حسان إلاّ أن قال «قال ابني الشّعر وربّ الكعبة».
فهذه الشّهادة بهذا القسم من هذا الشّاعر المخضرم، إنّما هي شهادة خبير «ولا ينبّئك مثل خبير» ولطالما حرّضه النّبي (ﷺ) بمدافعة المشركين بالهجو وهو يقول له «اهجهم وروح القدس معك». ووصف الصّبي على فطرته وبراءته للزّنبور، وإن لم يلم بجميع عناصر الخطاب الشّعري، سمّاه حسان شعرا، لأنّه متضمّن لأعظم ما تقوم به حقيقة الشّعر، وهو اللّغة الشّعرية، جريا على تسمية الشّيء بأعظم ركن فيه كما في قوله عليه السّلام «الحج عرفة».
على أنّ هذا القبس الجمالي للخطاب الشّعري، ليس ملقى على عواهنه، وإنّما له انعكاس رسالي بالأساس، يتجلّى من خلال مضمونه الذي يحدّده أيضا عنصران إثنان:
(أ) المتعة: وهي انفعال إيجابي مع معاني النّص الشّعري ومراميه، بحيث يحدث نوعا من الاهتزاز في المشاعر على نحو قول القائل:
إذا الشّعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقا أن يقال له شعر                                              
(ب) الإفادة: وهي نقل ذلك التّأثر النّفساني من مستوى الانفعال إلى مستوى الفعل، بحيث يثمر تغييرا إيجابيا في النّفس والواقع.
ثم إنّ مبنى المضمون الرّسالي قائم أساسا على مبدإ الصّدق، كمعيار أخلاقي في العمل الإبداعي الملتزم عموما، ومنه الإبداع الشّعري، على نحو قول أبي ذؤيب الهذلي:
    وإن أبلغ بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا                                                
فحيثما غاب الصّدق في الخطاب الشّعري، غابت قيمته البلاغيّة، بمعناها الثراتي، أي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومن ثمّ ينعدم التّأثير المطلوب والتّغيير المرغوب.
وبعد، إذا فهمنا أمر الشّعر على هذا النّحو، أدركنا حتما مغزى الاستثناء في قوله سبحانه آخر سورة الشّعراء «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا...»(3) 
قال الشيخ ابن عاشور رحمه الله في التّحرير والتّنوير «وقد دلّت الآية على أنّ للشّعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعيّن أنّ ذمه ليس لكونه شعرا، ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمّة، فانفتح بالآية للشّعر باب قبول ومدح، فحقّ على أهل النّظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله «وانتصروا من بعدما ظلموا» وإلى الحالة المأذونة قوله «وعملوا الصالحات».
الهوامش
(1) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، 2/275.
(2) سورة المائدة - الآية 83.
(3) سورة الشعراء - الآيات 224 - 227.