قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ليس لنا دون تحمّل الأمانة خيار

 شهدت تونس انتخابات رئاسيّة و أخرى تشريعيّة  كانتا موفّقتين إلى أبعد الحدود، ورغم تواتر الاستحقاقات الانتخابيّة في حيّز زمني قصير إلاّ أنّ الشّعب التّونسي مارس حقّه في الاختيار وشارك بنسب متفاوتة في اختيار رئيس الدّولة وأعضاء البرلمان وسط قصف إعلامي وحملات تشكيك لا هوادة فيها.

مات الرّئيس السّابق فجأة وتمّ نقل السّلطة بسلاسة في ظرف ساعات معدودة وأقيمت للرّئيس الرّاحل جنازة مهيبة وران على البلد خوف شديد من المجهول، لم يلبث أن زال بمجرّد بدء الإعداد للانتخابات الرّئاسية في دورتها الأولى وذلك ليقين النّاس أنّ التّغيير لا يتمّ إلاّ عبر صناديق الاقتراع وأنّ زمن الانقلابات ومخالفة الأعراف والدّساتير قد ولّى إلى غيررجعة. 
كانت نتيجة الانتخابات في الدّورة الرّئاسيّة الثّانية شبه محسومة ولكنّها لم تكن كذلك في الدّورة التّشريعيّة حيث  أنّ فوز القوى المضادّة للثّورة كان كفيلا بعزل الرّئيس الجديد وتحجيم دوره رغم التّفويض الشّعبي الكبير، ولذلك كان التّصويت للقوى المحسوبة على الثّورة ضرورة لا محيد عنها، ورغم أنّ التّفويض لهذه القوى لم يكن حاسما إلاّ أنّ النتيجة في عمومها كانت مقبولة حيث لم يفز أي من القوى المحسوبة على النّظام القديم وإن لم يكن التّفويض لقوى الثّورة تفويضا باتّا بسبب القانون الانتخابي الذي فصل للحيلولة دون فوز حزب ما بأغلبيّة مطلقة.
كان يوم تنصيب الرّئيس الجديد يوما مشهودا بحقّ تابعه التّونسيون بفخر وأمل كبيرين، وتمّت إجراءات أداء اليمين والتّسلّم والاستلام وسط أجواء محكمة التّنظيم زادتها كلمة الرّئيس الجديد وحضوره الرّكحي تميّزا عن مثيلاتها من المناسبات. لقد كان النّجاح في نقل السّلطة من رئيس إلى آخر لافتا، ولكن اللاّفت أكثر هو حجم ما أظهره التّونسيون من أمل ورجاء في تغيير كان إلى الأمس القريب يبدو صعب المنال نتيجة ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة من مأزق، ونتيجة لحجم الفساد المتزايد عاما بعد آخر حتّى بات ينذر بعواقب وخيمة على نحو مخيف. فهل يتحقّق للتّونسيين أخيرا ما ظلّوا ينتظرونه من تغيير؟ وهل سيكون قادم الأيام أفضل من سابقاتها رغم تعقّد الأزمة واستفحالها في بلد رفع فيه الشّباب لواء التّغيير منذ مهد الثّورة وأعاد الكرّة مرّة أخرى حين اصطفّ خلف الرّئيس الجديد حتّى أوصله إلى كرسي الرّئاسة في ما يشبه المعجزة بكلّ المقاييس.
سيكون التونسيون خلف الرّئيس ما ظلّ يحافظ على وهج الكلمات التي أثثّت خطابه وما حملته من أمل في عهد جديد قوامه العدل والحرّية وأداء الأمانة، بل إنّ الرّئيس فصل القول في الأمانة وجعلها أمانات رافعا لشعار دولة القانون التي يتساوى فيها الجميع حكّاما ومحكومين، وهو المطلب الرّئيسي لكلّ القوى الشعبيّة الصّادقة ولجيل كامل من الشّباب المتحمّس الذي أدرك ويدرك منذ ما يقارب العقد أنّ التّغيير الحقيقي لا يمكن أن يتمّ دون الإذعان للقانون ودون محاربة المارقين عليه مهما علا شأنهم وقوي نفوذهم  ومهما كانت خلفيتهم  والجهة التي يتحصّنون بها.
 لن ينتظر الشّباب وقتا طويلا قبل رفع لواء المحاسبة، ولكن القادم صعب. سوف يكون على الرّئيس أن يعمل مع حكومة جديدة لن يكون تشكيلها سهلا ولا مهمتها أيسر، فالدّولة في أسوء حالاتها من حيث حجم الدّين العام وضعف الإمكانيّات وعجز الميزان التّجاري والتّحديات الخارجيّة والمؤامرات التي يمكن أن تحاك لإسقاط تجربة فريدة متفرّدة في محيط إقليمي وعربي متفجّر.
تتماهي الدّولة مع مواطنيها في كثير من المطالب، فهي مثلهم ترفع لواء محاربة الفساد والتمييز الإيجابي والقضاء على التّهميش وإعادة النظر في طرق  انتاج الثّروة وتوزيعها ، وهي من يرفع راية مقاومة الفقر والعناية بالفئات الهشّة ذات الدّخل المحدود وتحسين القدرة الشّرائيّة وتوفير مناخ للاستثمار وبعث المشاريع وغير ذلك ممّا يطالب به المواطنون. ولكنّ الدّولة لم تتجاوز مرحلة الشّعارات إلى الانجاز رغم كلّ ما قيل عن المشاريع والنّيات، وقد نجد لها بعض العذر في ذلك باعتبار أنّ الانتقال من حقبة الاستبداد وحكم الفرد إلى مرحلة الاحتكام إلى الصّندوق لم يكن سهلا وتطلّب فترتين انتقاليتين طويلتين نسبيّا أهدر فيهما الكثير من الجهد ولم تجر فيهما الأمور على نحو يقطع مع القديم بكلّ سلبياته ويبني جديدا ينسجم مع طموحات النّاس ويحقّق أهداف الثّورة في البناء والعدل.
الآن ندخل مرحلة جديدة ما كنّا لندخلها لولا تكاتف المواطنين من كلّ الجهات وحرصهم وإصرارهم على إعادة الوهج لثورة عظيمة كادت تفقد بريقها وتلقى حتفها بعد أن  تكالبت عليها معاول الهدم ونهشتها أسنان الانتهازيين وتجّار القيم. ولا شكّ أنّ المرحلة الجديدة لا يمكن أن تدار بنفس الأدوات السّابقة ولا بنفس المنهجيّات التى بان فشلها. لقد نجحنا سياسيّا في تخليص الثّورة من فم التّنين دون أن ندفع كلفة باهضة ودون أن تهترئ الدّولة أو تفقد أيّا من أدوات قوّتها ولكنّنا خسرنا الكثير على المستويين الاقتصادي والاجتماعي حتّى باتت الثّورة عرجاء لا يكاد يبين مشيها ولا اتجاهه. ليس لنا خيار غير النّجاح والعبور بالثّورة والمجتمع إلى برّ الأمان، فالمرحلة دقيقة تتطلّب منّا يقظة على كلّ المستويات وليس على مستوى السّياسة فقط. لا بدّ أن نحسم نهائيّا مع مرحلة الشّعارات والمناكفات واصطناع النّجاح الزّائف وأن ندخل مرحلة جديدة قوامها العمل والإنجاز.
إنّ حمل الأمانة على النّحو الذي عبّر عنه الرّئيس الجديد في  أوّل خطاباته لا يمكن أن يتجسّد على أرض الواقع ما لم تكن الغايات  واضحة ووسائل تحقيقها كذلك. لقد أجمعنا على ضرورة محاربة الفساد ولم نحاربه فاستشرى حتّى بات يهدّد الدّولة ويحرمها من موارد طائلة، ورفعنا شعارات مقاومة التّهميش ومناهضة الفقر ولكنّنا لم نفعل ما كان علينا فعله حتّى ازداد الفقراء فقرا ولحقت بهم طبقة جديدة من متوسطي الدّخل وصارت الحياة جحيما لا يطاق بالنّسبة لجلّ المواطنين بسبب ارتفاع الأسعار وجشع التّجار والمحتكرين وانخفاض سعر الدينار وغير ذلك من العوامل. ليس هذا فحسب بل زد عليه تفشّي الأزمات في كلّ القطاعات من البنية التّحتية إلى التّعليم والنّقل والصّحة والصّناعة والتّجارة وغيرها ممّا لا يمكن حصره دون أن نستطيع القضاء على أزمة أو إصلاح أيّ قطاع.
 إنّنا أمام مرحلة لن ينتظر فيها الشّعب طويلا ولن يكون صبره بلا نهاية وليس أمامنا إلاّ حيّز ضئيل من الوقت، فإمّا أن نتكاتف جميعا لحمل الأمانة غير عابئين بأصوات النّاعقين وإمّا أن نعود القهقري  فننحدر إلى ما لا تحمد عقباه ومن ثمّ فليس لنا دون النّجاح خيار.