تاريخنا

بقلم
محمد عبد المومن
الرحلات العلمية بالأندلس خلال عصر المرابطين والموحدين‏ من خلال كتب التراجم

 مقدمة: ‏

تُعدّ الرّحلة العلميّة من أبرز معالم الحضارة الأندلسيّة، فقد شكّلت طيلة القرون الثّمانية ‏التي هي امتداد التّاريخ الأندلسي، جسر تواصل بين الأندلس هذا القطر القصيّ وباقي مناطق ‏دار الإسلام، هذا الجسر الذي عبرت عليه الأفكار والرّؤى والمعتقدات المختلفة. ‏
قام عدد لا بأس به من العلماء الأندلسيّين بتدوين رحلاتهم، وكلّ ما تعلّق بها من ‏مراحل ومصاعب ومشاهدات، بالإضافة إلى تسجيلهم للأعلام الذين أخذوا عنهم وماذا أخذوا ‏في نوعين من الكتب تختلف اختلافا بيّنا، ونقصد هنا كتب الرّحلات وكتب البرامج. ولا يخفى ‏على أحد ما لهذين النّوعين من أهمّية تاريخيّة لغناهما بالمعطيات التّاريخيّة والإقتصاديّة و‏السّياسيّة والفكريّة للأقطار التي زارها أو مرّ بها المؤلّفون. لكن بالنّظر إلى حجم تيّار الهجرة ‏العلميّة، فإنّ مجمل كتب البّرامج والرّحلات لم تشمل إلاّ عددا محدودا من العلماء إن لم نقل استثنائيا، وهنا يبرز دور كتب التّراجم التي احتفظت لنا بكمّ هائل من المعطيات، ‏والتي لا يمكن التكهّن بمدى ما يمكن اسخلاصه من المعطيات عبرها.‏ وسأحاول من خلال هذه المساهمة واعتمادا على منهج إحصائيّ تحليليّ تتبّع بعض ‏ملامح ظاهرة الهجرة العلميّة في الأندلس مركّزا على التّساؤلات التالية: ‏
ـ ما هي الدّوافع الفكريّة للرّحلة العلميّة الأندلسيّة؟ ‏
ـ ما هي المحطات التي استأثرت باهتمام العلماء الأندلسيّين ـ داخلياّ وخارجيّا ـ ولماذا؟ ‏
ـ من هم العلماء الذين رحل الأندلسيّون إليهم داخليّا وخارجيّا؟ ‏
ـ ما هي العلوم التي اهتم بها الأندلسيّون خلال رحلاتهم؟ ‏
أولا ـ مفهوم الرّحلة و أنواعها من خلال كتب التراجم ‏
‏1 ـ مفهوم الرّحلة ‏
الرّحلة لغة التّرحيل والإرتحال، بمعنى الإشخاص والإزعاج. يُقال رحل الرّجل إذا سار. ‏فالرّحلة هي السّير والضّرب في الأرض، وتأتي الرّحلة بمعنى الإرتحال أي الإنتقال من مكان ‏إلى آخر. وللرّحلة معنى آخر وهو الوجهة المقصودة فيقال مثلا « أنتم رحلتي»، كما يمكن أن ‏تعني أيضا السّفرة الواحدة (1)‏.‏
من كلّ هذا نخلص إلى أنّ الرّحلة هي السّير والإنتقال والوجهة المقصودة في سفر ‏معين. كما أنّها تحمل معنى الدّنو والإقتراب من المكان المراد الوصول إليه ولهذه المعاني ‏صار معنى الرّحلة الإنتقال من مكان لآخر. والشّخص المتنقّل ومنه أخذ لفظ رحّال الذي ‏يعني الشّخص المتنقل من مكان إلى آخر، فهذ الشخص قد ترك موطنه وانتقل إلى مكان ‏آخر وقصد جهة أخرى غير موطنه لذا كان لفظ رحلة أشمل وأدق لوصف المسافر من مكان ‏إلى آخر ‏(2).‏
أمّا بالنّسبة لهذا العرض، فقد ركّزت على الأعلام الذين كانت لهم رحلات لطلب العلم ‏سواء كانت نيّتهم العودة إلى بلادهم أو لا. أمّا العلماء الذين خرجوا من بلادنهم لأسباب ‏سياسيّة أو وظيفيّة... فلم أصنّف رحلاتهم ضمن الرّحلات العلميّة، مع العلم أنّي اقتصرت ‏فقط على أولئك الذين صرّحت المصادر برحلاتهم، وقد بلغ عددهم حوالي 650 علما مع أنّي متأكّد أنّ عدد العلماء الذين قاموا برحلات هو أكبر من ذلك بكثير.‏
‏2 ـ أنواع الرحلة من خلال كتب التراجم ‏
تطالعنا كتب التّراجم بالعديد من أنواع الرّحلات التي قام بها الأندلسيّون، والتي جاءت ‏لأسباب متعدّدة، بعضها يتعلّق بالأوضاع الإقتصاديّة والسّياسيّة التي عاشتها البلاد خلال ‏العهدين المرابطي والموحدي والتي نذكر من بينها: ‏
 رحلات من أجل تولّي الوظائف: وهي كثيرة الورود في المصادر، خصوصا أنّ عددا ‏مهمّا من العلماء والأعلام المترجم بهم تولّي مناصب مهمّة سواء بالمغرب أو بالأندلس، ‏كحالة محمد بن أحمد بن السّقاط ‏(3)  الذي تولّى وظيفة الكتابة ‏عند أمراء المرابطين وحالة خلف بن عمر بن خلف بن سعد بن أيوب التّجيبي ‏(4) الذي حلّ بأغمات ليتولّى وظيفة القضاء.‏
  رحلات الفرار من الفتن الداخلية: كما أشرت سابقا، فالفترة قيد الدّراسة لم تخل من ‏الفتن والإضطرابات السّياسية، وبالتّالي فقد هاجر عدد من المترجم بهم من المناطق ‏المضطربة إلى مناطق أكثر هدوءا فرارا من الفتنة، كحالة عبد الغفور بن اسماعيل ‏(5) الذي غادر الأندلس باتجاه المشرق فرارا من فتنة المريدين.‏
 رحلات الفرار خوفا من العقاب: كحالة محمد بن أحمد بن الحداد ‏(6) الذي قتل أخوه رجلا، ففرّ من ألمرية إلى سرقسطة إلى أن هدأ ‏الطّلب عليه. ويمكن أن نضيف إلى هذا النّوع رحلة عبد الله بن سهل الأنصاري ‏(7)الذي قتل يهوديّا في الحمّام بسبب إهانته للرّسول ‏صلّى الله عليه وسلم ففرّ من بلده ألمرية.‏
  رحلات الهرب لأسباب سياسيّة: كحالة المعتصم بن معن بن محمد بن صمادح ‏(8)الذي ينتمي إلى أسرة بني صمادح، التي كانت ‏تحكم ألمرية إبّان عصر الطّوائف، والذي جال الأندلس أثناء فراره قبل أن يعتقل ويسجن في ‏مراكش.‏
  رحلات اللّجوء بسبب فقدان الموطن: وهي ظاهرة مرتبطة أشدّ الإرتباط بالأندلس، ‏حيث يلاحظ أن العديد من العلماء رحلو عن مواطنهم بسبب استيلاء نصارى عليها، كحالة ‏محمد بن أحمد بن مطرف بن سعيد التّجيبي(9) ‏الذي غادر قلعة أيوب، وتوجّه بعدها إلى إلبيرة، ثم بعد ذلك إلى فاس بسبب استيلاء ‏النّصارى على بلده.‏
 رحلات الجهاد: كما هو معروف، انخرط العلماء الأندلسيّون في الدّفاع عن حوزة ‏بلادهم، خصوصا في الفترات الحرجة وشاركوا مشاركة فعّالة في الحروب والمواجهات ‏المتوالية التي كانت البلاد مسرحا لها. وقد أعطتنا كتب التّراجم لمحة عن بعض أولئك العلماء ‏الذين شاركوا في الحروب مشاركة فعليّة كمحمد بن حسين بن عمر المعافري ‏(10) الذي استغل مشاركته في المعركة ليأخذ العلم عن أبي بكر ابن العربي ‏وأبي بكر بن فتحون.  ‏
  رحلات الإستكشاف: كالتي قام بها أبو حامد الغرناطي ‏(11) الذي خرج من الأندلس وطاف بشمال افريقيا والمشرق العربي وآسيا الوسطى، ‏بالإضافة إلى أروربا الشّرقية والوسطى. وكانت نتيجة كلّ هذه الرحلات كتاب في العجائب سماه «المغرب عن بعض عجائب المغرب».‏
‏   رحلات الحج: التي قام بها نحو 300 علم من المترجم والذين يصعب حصر عددهم ‏بالضبط لاستعمال المصادر لعدد من العبارت «رحل حاجا» ‏(12) أو «رحل قديما فلقي» ‏(13) أو «رحل ‏إلى المشرق»‏(14) والملاحظ أن كل من رحل إلى ‏المشرق كان له سماع أو درس. في حين أن عددا محدودا جدا ممّن رحلوا لم يحجّوا، كمحمد ‏بن عبد الله بن عمر بن علي بن اسماعيل بن عمر الأنصاري الأوسي الذي سمع بالمشرق ‏ولم يحج ‏(15). ‏
 رحلات الوعظ: وهي رحلات ارتبطت ببعض الزّهاد والصّوفية، كإدريس بن يحيى بن ‏يوسف المعروف بأبي المعالي الواعظ ‏(16) الذي حسب ‏ابن الأبار: « كان يجول في البلاد يعظ النّاس و يذكرهم». ‏
  رحلات المجاورة: وهي أيضا ذات علاقة وطيدة بطلب العلم، إذ كان المجاورون ‏يطلبون العلم سواء من المقيمين بمكّة أو من المارين بها. إلاّ أن بعضهم لم يعد أبدا إلى ‏الأندلس كرزين بن معاوية بن عمار العبدري ‏(17) الذي أخذ عن ‏أبي ذر الهروي وتوفي بمكة سنة 524.‏
 ثانيا ـ الرّحلة العلمية
‏1 - ملاحظة حول المصادر ‏
لقد ركّزت المصادر على الرّحلة العلميّة أكثر من تركيزها على الأنواع الأخرى. وكما ‏هو ملاحظ من الجدول التالي، فمن بين 1778 علم نجد أنّ المصادر صرّحت أنّ 650 علما ‏قاموا برحلات علميّة بنسبة 36 % من الأعلام المترجم بهم، لكن في نظري فإنّ الرّقم ‏الحقيقي أكبر من ذلك بكثير لأنّه متعلّق بشكل خاصّ بالرّحلات الدّاخلية، والمصادر لا ‏تصرّح برحلة المترجم به وتكتفي بذكر من أخذ عنه ولنأخذ ترجمة ابن ورد التميمي ‏(18) حيث يورد ابن الأبار مايلي: « ابن ورد ويكنى أبا ‏مروان وهو أخو أبي القاسم بن ورد لقي أبوي على الغساني والصدفي وغيرهما « لذلك فتتبع ‏الرحلة العلمية داخل الأندلس يتطلب على الأقل رسم خريطة فكرية للأندلس تموضع كلّ علم ‏في مدينة معينة رغم صعوبة الأمر لأنّهم كانوا دائمي التّنقل في المجال الأندلسي. ‏
‏2 ـ الأصول الجغرافية للرحالة الأندلسيين ‏
من خلال المبيان التّالي نكتشف أن 78 علما من أصل 650 التي اشتغلت عليها غير ‏معروف الأصل، في حين أن 572 علما نعرف أصولهم ومن بين هؤلاء نجد أن أغلبهم ‏ينتمي إلى عشر مدن رئيسية أهمها قرطبة التي ينتمي إليها 123 علما بما نسبته 19 % ‏متبوعة بإشبيلية التي ينتمي إليها 81 علما بما نسبته 13 % ونلاحظ أيضا من خلال ‏المبيان أهمية الأعلام المنتمين إلى شرق الأندلس فبلنسية وحدها ينتمي إليها 51 علما بما ‏نسبته 8 % نهيك عن مدن شرق الأندلس الأخرى كشاطبة ودانية ومرسية. ‏
 ‏3 ـ تخصّصاتهم العلمية ‏
يمدّنا المبيان التّالي بالتّخصّصات العلميّة للرّحالة الأندلسيّين المترجم بهم، وكما هو ‏متوقّع يستأثر علم الحديث بنسبة 68 %. متبوعا بعلوم القرآن بنسبة 15 %، ‏ويليها الفقه بنسبة 7 %، أمّا باقي التّخصّصات فلا تتجاوز نسبتها 10 %. وهذا ‏أمر طبيعي لكون كتب التراجم وضعت أساسا لضبط رواة الحديث النّبوي كما يمكن أن ‏نستخلص من هذا أنّ السّبب الرّئيسي للرّحلة العلميّة كان هو طلب الرّواية. ‏
 ‏4 ـ الأسباب الفكريّة للرّحلة ‏
لاشكّ أنّ طلب العلم كان السّبب الرّئيسي لقيام الرّحالة الأندلسيّين برحلات قادتهم إلى ‏أقصى أصقاع العالم، فقد شكّل طلب العلم همّ العلماء الأندلسيّين، حتّى أنّ بعضهم جال في ‏أغلب مدن الأندلس و المشرق بل ووصل برحلته إلى حدود آسيا الوسطى كأحمد بن محمد ‏بن عبد الرحمن الأنصاري‏(19). لكن من خلال وقوفي ‏على التراجم، وجدت أن طلب العلم لم يكن السبب الوحيد للرحلة العلمية. وسأحاول من خلال ‏ما وقفت عليه من تراجم استخراج بعض الأسباب الفكريّة للرّحلة العلميّة: ‏
  طلب الإجازة: من الأسباب الرّئيسيّة للرّحلة العلميّة طلب الإجازة من الشّيوخ المشارقة، ‏كما يُفهَم من ترجمة أحمد بن عبد الرّحمن بن سليمان الأنصاري ‏(20)، فبعد أن تلقّى العلم بالأندلس على يد أبي على الصدفي استجاز له هذا ‏الأخير جماعة من شيوخه المشارقة، فرحل للقائهم وأخذ الإجازة منهم.‏
  الرحلة للقاء عالم واحد معيّن: من الأسباب الفكريّة للرّحلة العلميّة هو شد الرحال من قطر ‏إلى قطر للقاء عالم واحد، كما فعل محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن طفيل ‏(21) الذي شد الرحال إلى مكة المكرمة للقاء أبي معشر الطبري، لكن ‏بلغه نعيه وهو بمصر.‏
  الرحلة للإقراء: لم يقتصر دور الرّحلة العلميّة على طلب العلم فقط، بل شمل التدريس أيضا فقد حرص العلماء ‏الأندلسيون والطارؤون على الأندلس أيضا على التّدريس كمحمد بن عيسى ‏(22) الذي حلّ بدمشق وأقرأ بها القرآن الكريم بالقراءات السبع كما أخذ عن ‏أهلها.‏
  الرحلة بسبب مذهب معين: غادر بعض الأندلسيين مدنهم وبلادهم بسبب مذاهبهم ‏وأفكارهم، كمحمد بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن بشر الميورقي ‏(23) الذي غادر الأندلس خوفا من يوسف بن تاشفين، بسبب مذهبه الظّاهري بعد ‏أن نفى هذا الأخير إلى المغرب، كلاّ من أبي الحكم بن برجان وأبي العباس بن العريف.‏
  الرحلة القسريّة بسبب أفكار معيّنة: غادر عدد من الأندلسيّين بلادهم قسرا، كابن ‏برجان ‏(24) الذي رحل عن الأندلس منفيّا إلى مراكش ‏بسبب مذهبه وطريقته.‏
ثالثا ـ محطات الرحلة العلمية: ‏
‏1 ـ محطات الرّحلة العلمية داخليّا: ‏
أولى مؤلفو كتب التّراجم أهمّية خاصّة للأعلام الذين كانت تشدّ إليهم الرّحال ‏على اعتبار أنّهم رواة لحديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. لذلك فحين نتتبع أسماء هؤلاء ‏الرّواة نصادف المئات. لكن في المقابل لم تولّ إلاّ القليل من الأهمّية لمسألة توطين هؤلاء ‏الأعلام جغرافيّا، وبالتّالي يظلّ كلّ من ابن الأبار وابن بشكوال أهم مصادرنا في ما يتعلّق ‏بمسألة الإنتشار الجغرافي ومناطق الإستقطاب، وسيساعدنا المبيان التّالي في رسم صورة ‏تقريبيّة للمراكز العلميّة التي حظيت باهتمام الأعلام الرّحالة:  ‏
من خلال هذا المبيان، يبدو من الواضح أنّ قرطبة ظلّت خلال عصري المرابطين والموحّدين ‏مركز الإستقطاب الأساسي داخل المجال الأندلسي. لكنّ هذا المبيان الذي لا يضمّ إلاّ ‏الوجهات الأكثر أهمّية يشير إلى مسألة أخرى تتعلّق ببروز قطب فكري ربّما يكون هو الأكثر ‏أهمّية، ويتعلّق الأمر بشرق الأندلس، الذي توجّه إلى مدنه 115 من المترجم بهم ‏(25) .‏
من بين هذه المدن أيضا تحتل مرسية مرتبة متميزة بعد قرطبة مباشرة، ويمكن أن ‏نعزو ذلك إلى إنّ أحد أشهر العلماء الأندلسيّين قد عاصر هذه المرحلة و يتعلّق الأمر بأبي ‏عليّ الصّدفي، واسمه الحسين بن محمد بن فيرُّه بن حيون. وكما سبق أن ذكرت فابن الأبار ‏معتمدنا الأساسي في تتبع التّراجم جغرافيّا أولى أهمّية خاصّة لمنطقة شرق الأندلس التي ‏ينتمي إليها.  ‏
‏ 2 ـ محطات الرحلة العلمية خارجيّا:‏
كان الحجاز أكثر المناطق جذبا للرّحالة الأندلسيّين، كيف لا وهو موطن بيت الله ‏الحرام، لكنّ الرّحلة لزيارة بيت الله الحرام كانت بالأساس رحلة متعدّدة الأهداف، وعلى رأس ‏أهدافها نجد سماع الرّواية وخاصّة إذا تعلّق الأمر بعالم تشدّ إليه الرّحال كأبي ذر الهروي أو ‏أبي طاهر السّلفي أو أبي معشر الطّبري ... وربّما تساعد الإحصاءات التّالية التي اقتصرت ‏فيها على المحطات العشر الأولى وبالتّسميات التي وردت في كتب التراجم على تبيان بعض ‏أسباب التّوجه إلى هذه المناطق:‏
 من خلال هذا المبيان يتبيّن لنا أنّ الحجاز ومكّة هي أكثر المناطق جذبا للرحّالة ‏الأندلسيّين، وهذا منطقي بالنّظر إلى ازدواجيّة الأهداف في ما يتعلّق بالرّحلات العلميّة. لكن ‏لم يكن الحجّ هو السّبب الوحيد لهذا العدد الذي قصد الحجاز، بل كما ذكرنا سابقا فالأمر ‏مرتبط بكون عدد من الأعلام استقروا بهذه المنطقة كأبي ذر الهروي الذي أخذ عنه حسب ‏كتب التّراجم 22 أندلسيّا ما بين حاج ومجاور، كما نجد أيضا أبو معشر الطّبري الذي أخذ ‏عنه 17 أندلسيّا، و أبو المعالي الجويني الذي أخذ عنه 7 أندلسيين .... ‏
هناك نقطة استقطاب أخرى هي مصر التي كانت معبرا أساسيّا لركب الحجّ الأندلسي، ‏خصوصا بعد توقّف طريق الحجّ البحري بسبب الحروب الصّليبية، فلم يحجّ عبر البحر إلاّ ‏اثنين من المترجم بهم مرّا إلى الشّام عبر صقليّة. لقد كانت مصر وخاصّة الإسكندريّة قبلة ا‏لمحدثين خلال عصري المرابطين والموحّدين خصوصا مع وجود محدثين كبار كأبي الطّاهر ‏السّلفي الذي أخذ عنه 58 من المترجم بهم ...‏
تبقى هناك محطّتان أساسيتان الأولى هي إفريقيّة، التي كانت ممرّ الأندلسيّين إلى ‏مصر، أمّا المحطّة الأخيرة، فهي مدن المغرب كطنجة وأغمات وفاس ومرّاكش، فقد قصدها ‏عدد من المترجم بهم لأسباب متنوّعة، أهمها تولّي الخطط والوظائف كجعفر بن محمد ‏بن عطيّة ‏(26) لكن هذا ينفي كون عدد من الأندلسيّين ‏قصدوا المغرب لطلب العلم، كأحمد بن طاهر بن علي ‏(27) أو ‏للإنقطاع والزّهد، كحالة عبد العزيز التّونسي الزّاهد الذي قصد أغمات للإنقطاع ‏(28) ممّا يشير إلى تحوّل في تيار الهجرة نحو المغرب، خصوصا ‏مع وجود ما يمكن أن نسمّيه نزوحا مبكّرا نحو المغرب كحالة عبيد الله بن محمد بن عبيد الله ‏النفزي، الذي غادر شاطبة بسبب الضّغط العسكري المسيحي عليها ‏(29) . ‏
رابعا ـ العلماء الذين رحل إليهم
1 ـ العلماء الذين رحل إليهم داخليّا
في الجدول التالي والذي رتبت فيه الشيوخ الذين قصدهم الأعلام الرحالة لأخد العلم بناء على ‏عدد المرات التي تكرر فيها، مع العلم أني اقتصرت على من أخذ عنهم عن طريق الرحلة. ‏ونلاحظ من خلاله أن أبا علي الصدفي يتصدّر الأعلام الذين أخذ عنهم عدد كبير من ‏الأعلام الأندلسيّين المترجم بهم الذين كانت لهم رحلة، متبوعا بأبي بحر الأسدي وأبي الوليد ‏ابن رشد، وأبو بكر ابن العربي، مما تؤكد لنا قيمة وأهمية هؤلاء الأعلام في والفكر الأندلسي ‏خلال عصر المرابطين والموحدين.‏
‏2 ـ العلماء الذين رحل إليهم خارجيا:‏
يعطينا الجدول التّالي صورة تقريبيّة عن الأعلام المشارقة الذين كانت تشدّ إليهم ‏الرّحال خلال عصر المرابطين والموحّدين، حيث نجد في الصّدارة المحدث أبو طاهر السلفي ‏والذي أخذ عنه 58 من الأعلام المترجم بهم، وربّما يعود السّبب في ذلك لاستقراره ‏بالأسكندريّة. متبوعا بأبي علي بن العرجاء، وأبو ذر الهروي، وبعده نجد أبا معشر الطبري، ‏وكلّ هؤلاء كانوا مستقرّين بمكّة المكرمة ممّا يفسر لنا العدد المهمّ من الأندلسيّين الرّحالة الذين ‏التقوا بهم وأخذوا عنهم.‏
3 ـ الإنتاج العلمي المطلوب بالرحلة  ‏
يبدو لنا من خلال الجدول التّالي، أنّ كتب علوم القرآن وكتب الحديث قد حظيت ‏بالأولويّة من طرف العلماء الرّحالة الأندلسيّين، ففيما يخصّ كتب علوم القرآن، فالأولويّة كانت ‏لكتابي التّلخيص في القراءات لأبي معشر الطّبري، وكتاب الجامع في القرآن لابن العرجاء، ‏وكلاهما من العلماء المتخصّصين في القراءات وكما رأينا سابقا فكلاهما كان يقيم في مكّة ‏المكرمة، وقد أخذ عنهما عدد مهم من العلماء الأندلسيّين المترجم بهم، من جهة ثانية نجد ‏اهتمام الأندلسيّين ينصب بشكل كبير على كتب الحديث، وعلى رأس الكتب صحيح البخاري ‏وصحيح مسلم، ثم بعدهما نجد الموطأ فسنن أبي داوود والدارقطني. كما اهتم الأندلسيون بكتب ‏الفقه وخاصّة المدوّنة. ويبدو من خلال التّراجم أيضا أنّ كتاب مقامات الحريري حظي بعناية ‏خاصّة، فقد حرص عدد من الأندلسيّين الرّحالة على أخذه من مؤلّفه شخصيّا، ربّما لأنّ فنّ ‏المقامات شكل نوعا جديدا من الكتابة والتّأليف اكتشفه الأندلسيّون أثناء مرورهم بالمشرق ‏ولكن كان الإهتمام به أقلّ من كتاب سيبويه.‏
4 ـ الأندلس كوجهة للرّحلة
اهتم أصحاب كتب التّراجم بالإضافة إلى أبناء الأندلس بالغرباء الذين دخلوا بلدهم ‏لسبب من الأسباب، وخصوصا أولئك الذين كان لهم نشاط علمي، والملاحظ أنّ أغلبهم ‏ينتمون إمّا إلى إفريقيّة أو إلى المغرب الأقصى. وسأحاول من خلال هذه العجالة تقصي ‏أسباب التّوجه إلى الأندلس في هذه الفترة قيد الدّراسة:‏
  طلب العلم: دخل الأندلس عدد من المغاربة طلبا للقاء شيوخها والأخذ عنهم، ومن هؤلاء نذكر عبد ‏الملك بن محمد القيسي من مدينة فاس الذي قصد قرطبة، وأخذ صحيح مسلم عن أبي علي ‏الغساني قبل أن يعود أدراجه إلى بلده ‏(30). ‏
  اللّجوء ‏: بسبب الإضطرابات السّياسيّة والإجتماعيّة، والتي عرفت ما وصفته المصادر«بفتنة ‏العرب»، اتجه عدد من اللاّجئين إلى الأندلس من إفريقيّة، ومن هؤلاء علي بن عبد الغني ‏الفهري ذكر ابن بسام أنّه دخل الأندلس بعد خراب القيروان ‏(31) و كذلك محمد بن عبد المنعم بن عبد الله بن أبي بحر ‏(32).‏
 الوظيفة ‏: تولّى عدد من الدّاخلين إلى الأندلس وظائف من قبيل القضاء والفتيا، خصوصا في ‏ظلّ الوحدة السّياسيّة التي عاشها الغرب الإسلامي خلال عهد المرابطين والموحّدين. وقد ‏كانت لهؤلاء أنشطة علميّة من قبيل رواية الحديث والإقراء كحالة أبي على الكلاعي من أهل ‏صفاقس ‏(33) 
 الجهاد: عبر العديد من المغاربة إلى الأندلس للجهاد كما أورد المؤرّخون بشكل مجمل، ولكن ‏كتب التّراجم تذكر من عبر من العلماء بالإسم، كما تورد من استشهد منهم كحالة عبد الملك ‏بن مروان المصمودي‏(34) وحالة يعلي بن المصمودي ‏الفقيه ‏(35) ومن التقوا وأين وما نتائج اللّقاء خصوصا على ‏المستوى العلمي، وعموما فالملاحظ أنّ عبور العلماء المترجم لهم ارتبط بحالات الإستنفار ‏الكبرى إثر تعرّض الأندلس لضغط عسكري مسيحي شديد كما في أواخر القرن 5 وأوائل ‏القرن 6.‏
خاتمة ‏
لقد حاولت من خلال هذا المقال، أن أبرز بعض جوانب الرّحلة العلميّة في الأندلس ‏خلال عصر المرابطين والموحّدين، باعتماد منهج إحصائي. وقد تبيّن من خلال ذلك مدى ‏غنى كتب التّراجم بالمعلومات المتعلّقة بالحياة الفكريّة والثقافيّة والدّينية في الأندلس، وأنا على ‏يقين أن استعمال نفس المنهج على كتب التراجم التي تتعلّق بفترات أخرى، أو مناطق أخرى سيمكننا ‏من الخروج باستنتاجات مثيرة.‏
الهوامش
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة رحل، نقلا عن المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني، 2.11
(2) نفسه
(3) جذوة الإقتباس: ص 259
(4) التكملة رقم ‏‏839
(5) صلة ‏الصلة : ترجمة رقم 52
(6) التكملة رقم ‏‏1140 ج 1 ص 322
(7) بغية ‏الملتمس رقم 931 الجزء 2 ص 448
(8) ‏الذيل و التكملة رقم 883 ج 6 ص 335 
(9) الذيل و التكملة رقم 79 الجزء 8 ص 56
(10) التكملة رقم 8 ‏الجزء 3 ص 6
(11) الوافي بالوفيات  الجزء3 ‏ص 396 
(12) التكملة: الرقم 777 الجزء 2 ‏ص 266
(13) الصلة: الرقم 1311 الجزء 3 ص 859
(14) التكملة: الرقم 511 الجزء 3 ص 204
(15) التكملة: الرقم 372 الجزء 2 ص 143
(16) التكملة: رقم 520 الجزء 1 ص 163 
(17) الصلة: الجزء الأول ص 59
(18) ‏التكملة: الرقم 186 الجزء 3 ص 76 
(19) التكملة الرقم 84 الجزء الأول ص 31
(20) التكملة: رقم 112 ‏الجزء 1 ص 38
(21) التكملة رقم ‏‏1301 الجزء 1 ص 364 
(22)  التكملة:1260، ‏الجزء 1 ص 336
(23)  التكملة رقم 1279الجزء ‏‏1 ص 359
(24)  التكملة: رقم 64 ، الجزء 3، ص 21
(25) شرق ‏الأندلس 26 ؛ دانية 32 ؛ بلنسية 25 ؛ شاطبة 32 
(26)  جذوة الإقتباس الرقم 133 ص 175
(27) الصلة  رقم 168 الجزء 1
(28)  الصلة الرقم ‏‏813  الجزء 2 ص 549
(29)  التكملة رقم 917 ‏الجزء 2 ص 216
(30) صلة الصلة رقم 420 الجزء .... ص 246
(31) الذخيرة الجزء 4 ص 245 و ‏ما بعدها
(32) التكملة رقم 404 الجزء ‏‏2 ص 157
(33) الغنية رقم 49 ص 140
(34) التكملة رقم 206 الجزء 3 ص 86 
(35) التكملة رقم 661 الجزء 4 ص 238