تاريخنا
بقلم |
محمد عبد المومن |
الرحلات العلمية بالأندلس خلال عصر المرابطين والموحدين من خلال كتب التراجم |
مقدمة: تُعدّ الرّحلة العلميّة من أبرز معالم الحضارة الأندلسيّة، فقد شكّلت طيلة القرون الثّمانية التي هي امتداد التّاريخ الأندلسي، جسر تواصل بين الأندلس هذا القطر القصيّ وباقي مناطق دار الإسلام، هذا الجسر الذي عبرت عليه الأفكار والرّؤى والمعتقدات المختلفة.
قام عدد لا بأس به من العلماء الأندلسيّين بتدوين رحلاتهم، وكلّ ما تعلّق بها من مراحل ومصاعب ومشاهدات، بالإضافة إلى تسجيلهم للأعلام الذين أخذوا عنهم وماذا أخذوا في نوعين من الكتب تختلف اختلافا بيّنا، ونقصد هنا كتب الرّحلات وكتب البرامج. ولا يخفى على أحد ما لهذين النّوعين من أهمّية تاريخيّة لغناهما بالمعطيات التّاريخيّة والإقتصاديّة والسّياسيّة والفكريّة للأقطار التي زارها أو مرّ بها المؤلّفون. لكن بالنّظر إلى حجم تيّار الهجرة العلميّة، فإنّ مجمل كتب البّرامج والرّحلات لم تشمل إلاّ عددا محدودا من العلماء إن لم نقل استثنائيا، وهنا يبرز دور كتب التّراجم التي احتفظت لنا بكمّ هائل من المعطيات، والتي لا يمكن التكهّن بمدى ما يمكن اسخلاصه من المعطيات عبرها. وسأحاول من خلال هذه المساهمة واعتمادا على منهج إحصائيّ تحليليّ تتبّع بعض ملامح ظاهرة الهجرة العلميّة في الأندلس مركّزا على التّساؤلات التالية:
ـ ما هي الدّوافع الفكريّة للرّحلة العلميّة الأندلسيّة؟
ـ ما هي المحطات التي استأثرت باهتمام العلماء الأندلسيّين ـ داخلياّ وخارجيّا ـ ولماذا؟
ـ من هم العلماء الذين رحل الأندلسيّون إليهم داخليّا وخارجيّا؟
ـ ما هي العلوم التي اهتم بها الأندلسيّون خلال رحلاتهم؟
أولا ـ مفهوم الرّحلة و أنواعها من خلال كتب التراجم
1 ـ مفهوم الرّحلة
الرّحلة لغة التّرحيل والإرتحال، بمعنى الإشخاص والإزعاج. يُقال رحل الرّجل إذا سار. فالرّحلة هي السّير والضّرب في الأرض، وتأتي الرّحلة بمعنى الإرتحال أي الإنتقال من مكان إلى آخر. وللرّحلة معنى آخر وهو الوجهة المقصودة فيقال مثلا « أنتم رحلتي»، كما يمكن أن تعني أيضا السّفرة الواحدة (1).
من كلّ هذا نخلص إلى أنّ الرّحلة هي السّير والإنتقال والوجهة المقصودة في سفر معين. كما أنّها تحمل معنى الدّنو والإقتراب من المكان المراد الوصول إليه ولهذه المعاني صار معنى الرّحلة الإنتقال من مكان لآخر. والشّخص المتنقّل ومنه أخذ لفظ رحّال الذي يعني الشّخص المتنقل من مكان إلى آخر، فهذ الشخص قد ترك موطنه وانتقل إلى مكان آخر وقصد جهة أخرى غير موطنه لذا كان لفظ رحلة أشمل وأدق لوصف المسافر من مكان إلى آخر (2).
أمّا بالنّسبة لهذا العرض، فقد ركّزت على الأعلام الذين كانت لهم رحلات لطلب العلم سواء كانت نيّتهم العودة إلى بلادهم أو لا. أمّا العلماء الذين خرجوا من بلادنهم لأسباب سياسيّة أو وظيفيّة... فلم أصنّف رحلاتهم ضمن الرّحلات العلميّة، مع العلم أنّي اقتصرت فقط على أولئك الذين صرّحت المصادر برحلاتهم، وقد بلغ عددهم حوالي 650 علما مع أنّي متأكّد أنّ عدد العلماء الذين قاموا برحلات هو أكبر من ذلك بكثير.
2 ـ أنواع الرحلة من خلال كتب التراجم
تطالعنا كتب التّراجم بالعديد من أنواع الرّحلات التي قام بها الأندلسيّون، والتي جاءت لأسباب متعدّدة، بعضها يتعلّق بالأوضاع الإقتصاديّة والسّياسيّة التي عاشتها البلاد خلال العهدين المرابطي والموحدي والتي نذكر من بينها:
رحلات من أجل تولّي الوظائف: وهي كثيرة الورود في المصادر، خصوصا أنّ عددا مهمّا من العلماء والأعلام المترجم بهم تولّي مناصب مهمّة سواء بالمغرب أو بالأندلس، كحالة محمد بن أحمد بن السّقاط (3) الذي تولّى وظيفة الكتابة عند أمراء المرابطين وحالة خلف بن عمر بن خلف بن سعد بن أيوب التّجيبي (4) الذي حلّ بأغمات ليتولّى وظيفة القضاء.
رحلات الفرار من الفتن الداخلية: كما أشرت سابقا، فالفترة قيد الدّراسة لم تخل من الفتن والإضطرابات السّياسية، وبالتّالي فقد هاجر عدد من المترجم بهم من المناطق المضطربة إلى مناطق أكثر هدوءا فرارا من الفتنة، كحالة عبد الغفور بن اسماعيل (5) الذي غادر الأندلس باتجاه المشرق فرارا من فتنة المريدين.
رحلات الفرار خوفا من العقاب: كحالة محمد بن أحمد بن الحداد (6) الذي قتل أخوه رجلا، ففرّ من ألمرية إلى سرقسطة إلى أن هدأ الطّلب عليه. ويمكن أن نضيف إلى هذا النّوع رحلة عبد الله بن سهل الأنصاري (7)الذي قتل يهوديّا في الحمّام بسبب إهانته للرّسول صلّى الله عليه وسلم ففرّ من بلده ألمرية.
رحلات الهرب لأسباب سياسيّة: كحالة المعتصم بن معن بن محمد بن صمادح (8)الذي ينتمي إلى أسرة بني صمادح، التي كانت تحكم ألمرية إبّان عصر الطّوائف، والذي جال الأندلس أثناء فراره قبل أن يعتقل ويسجن في مراكش.
رحلات اللّجوء بسبب فقدان الموطن: وهي ظاهرة مرتبطة أشدّ الإرتباط بالأندلس، حيث يلاحظ أن العديد من العلماء رحلو عن مواطنهم بسبب استيلاء نصارى عليها، كحالة محمد بن أحمد بن مطرف بن سعيد التّجيبي(9) الذي غادر قلعة أيوب، وتوجّه بعدها إلى إلبيرة، ثم بعد ذلك إلى فاس بسبب استيلاء النّصارى على بلده.
رحلات الجهاد: كما هو معروف، انخرط العلماء الأندلسيّون في الدّفاع عن حوزة بلادهم، خصوصا في الفترات الحرجة وشاركوا مشاركة فعّالة في الحروب والمواجهات المتوالية التي كانت البلاد مسرحا لها. وقد أعطتنا كتب التّراجم لمحة عن بعض أولئك العلماء الذين شاركوا في الحروب مشاركة فعليّة كمحمد بن حسين بن عمر المعافري (10) الذي استغل مشاركته في المعركة ليأخذ العلم عن أبي بكر ابن العربي وأبي بكر بن فتحون.
رحلات الإستكشاف: كالتي قام بها أبو حامد الغرناطي (11) الذي خرج من الأندلس وطاف بشمال افريقيا والمشرق العربي وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى أروربا الشّرقية والوسطى. وكانت نتيجة كلّ هذه الرحلات كتاب في العجائب سماه «المغرب عن بعض عجائب المغرب».
رحلات الحج: التي قام بها نحو 300 علم من المترجم والذين يصعب حصر عددهم بالضبط لاستعمال المصادر لعدد من العبارت «رحل حاجا» (12) أو «رحل قديما فلقي» (13) أو «رحل إلى المشرق»(14) والملاحظ أن كل من رحل إلى المشرق كان له سماع أو درس. في حين أن عددا محدودا جدا ممّن رحلوا لم يحجّوا، كمحمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن اسماعيل بن عمر الأنصاري الأوسي الذي سمع بالمشرق ولم يحج (15).
رحلات الوعظ: وهي رحلات ارتبطت ببعض الزّهاد والصّوفية، كإدريس بن يحيى بن يوسف المعروف بأبي المعالي الواعظ (16) الذي حسب ابن الأبار: « كان يجول في البلاد يعظ النّاس و يذكرهم».
رحلات المجاورة: وهي أيضا ذات علاقة وطيدة بطلب العلم، إذ كان المجاورون يطلبون العلم سواء من المقيمين بمكّة أو من المارين بها. إلاّ أن بعضهم لم يعد أبدا إلى الأندلس كرزين بن معاوية بن عمار العبدري (17) الذي أخذ عن أبي ذر الهروي وتوفي بمكة سنة 524.
ثانيا ـ الرّحلة العلمية
1 - ملاحظة حول المصادر
لقد ركّزت المصادر على الرّحلة العلميّة أكثر من تركيزها على الأنواع الأخرى. وكما هو ملاحظ من الجدول التالي، فمن بين 1778 علم نجد أنّ المصادر صرّحت أنّ 650 علما قاموا برحلات علميّة بنسبة 36 % من الأعلام المترجم بهم، لكن في نظري فإنّ الرّقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير لأنّه متعلّق بشكل خاصّ بالرّحلات الدّاخلية، والمصادر لا تصرّح برحلة المترجم به وتكتفي بذكر من أخذ عنه ولنأخذ ترجمة ابن ورد التميمي (18) حيث يورد ابن الأبار مايلي: « ابن ورد ويكنى أبا مروان وهو أخو أبي القاسم بن ورد لقي أبوي على الغساني والصدفي وغيرهما « لذلك فتتبع الرحلة العلمية داخل الأندلس يتطلب على الأقل رسم خريطة فكرية للأندلس تموضع كلّ علم في مدينة معينة رغم صعوبة الأمر لأنّهم كانوا دائمي التّنقل في المجال الأندلسي.
2 ـ الأصول الجغرافية للرحالة الأندلسيين
من خلال المبيان التّالي نكتشف أن 78 علما من أصل 650 التي اشتغلت عليها غير معروف الأصل، في حين أن 572 علما نعرف أصولهم ومن بين هؤلاء نجد أن أغلبهم ينتمي إلى عشر مدن رئيسية أهمها قرطبة التي ينتمي إليها 123 علما بما نسبته 19 % متبوعة بإشبيلية التي ينتمي إليها 81 علما بما نسبته 13 % ونلاحظ أيضا من خلال المبيان أهمية الأعلام المنتمين إلى شرق الأندلس فبلنسية وحدها ينتمي إليها 51 علما بما نسبته 8 % نهيك عن مدن شرق الأندلس الأخرى كشاطبة ودانية ومرسية.
3 ـ تخصّصاتهم العلمية
يمدّنا المبيان التّالي بالتّخصّصات العلميّة للرّحالة الأندلسيّين المترجم بهم، وكما هو متوقّع يستأثر علم الحديث بنسبة 68 %. متبوعا بعلوم القرآن بنسبة 15 %، ويليها الفقه بنسبة 7 %، أمّا باقي التّخصّصات فلا تتجاوز نسبتها 10 %. وهذا أمر طبيعي لكون كتب التراجم وضعت أساسا لضبط رواة الحديث النّبوي كما يمكن أن نستخلص من هذا أنّ السّبب الرّئيسي للرّحلة العلميّة كان هو طلب الرّواية.
4 ـ الأسباب الفكريّة للرّحلة
لاشكّ أنّ طلب العلم كان السّبب الرّئيسي لقيام الرّحالة الأندلسيّين برحلات قادتهم إلى أقصى أصقاع العالم، فقد شكّل طلب العلم همّ العلماء الأندلسيّين، حتّى أنّ بعضهم جال في أغلب مدن الأندلس و المشرق بل ووصل برحلته إلى حدود آسيا الوسطى كأحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري(19). لكن من خلال وقوفي على التراجم، وجدت أن طلب العلم لم يكن السبب الوحيد للرحلة العلمية. وسأحاول من خلال ما وقفت عليه من تراجم استخراج بعض الأسباب الفكريّة للرّحلة العلميّة:
طلب الإجازة: من الأسباب الرّئيسيّة للرّحلة العلميّة طلب الإجازة من الشّيوخ المشارقة، كما يُفهَم من ترجمة أحمد بن عبد الرّحمن بن سليمان الأنصاري (20)، فبعد أن تلقّى العلم بالأندلس على يد أبي على الصدفي استجاز له هذا الأخير جماعة من شيوخه المشارقة، فرحل للقائهم وأخذ الإجازة منهم.
الرحلة للقاء عالم واحد معيّن: من الأسباب الفكريّة للرّحلة العلميّة هو شد الرحال من قطر إلى قطر للقاء عالم واحد، كما فعل محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن طفيل (21) الذي شد الرحال إلى مكة المكرمة للقاء أبي معشر الطبري، لكن بلغه نعيه وهو بمصر.
الرحلة للإقراء: لم يقتصر دور الرّحلة العلميّة على طلب العلم فقط، بل شمل التدريس أيضا فقد حرص العلماء الأندلسيون والطارؤون على الأندلس أيضا على التّدريس كمحمد بن عيسى (22) الذي حلّ بدمشق وأقرأ بها القرآن الكريم بالقراءات السبع كما أخذ عن أهلها.
الرحلة بسبب مذهب معين: غادر بعض الأندلسيين مدنهم وبلادهم بسبب مذاهبهم وأفكارهم، كمحمد بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن بشر الميورقي (23) الذي غادر الأندلس خوفا من يوسف بن تاشفين، بسبب مذهبه الظّاهري بعد أن نفى هذا الأخير إلى المغرب، كلاّ من أبي الحكم بن برجان وأبي العباس بن العريف.
الرحلة القسريّة بسبب أفكار معيّنة: غادر عدد من الأندلسيّين بلادهم قسرا، كابن برجان (24) الذي رحل عن الأندلس منفيّا إلى مراكش بسبب مذهبه وطريقته.
ثالثا ـ محطات الرحلة العلمية:
1 ـ محطات الرّحلة العلمية داخليّا:
أولى مؤلفو كتب التّراجم أهمّية خاصّة للأعلام الذين كانت تشدّ إليهم الرّحال على اعتبار أنّهم رواة لحديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. لذلك فحين نتتبع أسماء هؤلاء الرّواة نصادف المئات. لكن في المقابل لم تولّ إلاّ القليل من الأهمّية لمسألة توطين هؤلاء الأعلام جغرافيّا، وبالتّالي يظلّ كلّ من ابن الأبار وابن بشكوال أهم مصادرنا في ما يتعلّق بمسألة الإنتشار الجغرافي ومناطق الإستقطاب، وسيساعدنا المبيان التّالي في رسم صورة تقريبيّة للمراكز العلميّة التي حظيت باهتمام الأعلام الرّحالة:
من خلال هذا المبيان، يبدو من الواضح أنّ قرطبة ظلّت خلال عصري المرابطين والموحّدين مركز الإستقطاب الأساسي داخل المجال الأندلسي. لكنّ هذا المبيان الذي لا يضمّ إلاّ الوجهات الأكثر أهمّية يشير إلى مسألة أخرى تتعلّق ببروز قطب فكري ربّما يكون هو الأكثر أهمّية، ويتعلّق الأمر بشرق الأندلس، الذي توجّه إلى مدنه 115 من المترجم بهم (25) .
من بين هذه المدن أيضا تحتل مرسية مرتبة متميزة بعد قرطبة مباشرة، ويمكن أن نعزو ذلك إلى إنّ أحد أشهر العلماء الأندلسيّين قد عاصر هذه المرحلة و يتعلّق الأمر بأبي عليّ الصّدفي، واسمه الحسين بن محمد بن فيرُّه بن حيون. وكما سبق أن ذكرت فابن الأبار معتمدنا الأساسي في تتبع التّراجم جغرافيّا أولى أهمّية خاصّة لمنطقة شرق الأندلس التي ينتمي إليها.
2 ـ محطات الرحلة العلمية خارجيّا:
كان الحجاز أكثر المناطق جذبا للرّحالة الأندلسيّين، كيف لا وهو موطن بيت الله الحرام، لكنّ الرّحلة لزيارة بيت الله الحرام كانت بالأساس رحلة متعدّدة الأهداف، وعلى رأس أهدافها نجد سماع الرّواية وخاصّة إذا تعلّق الأمر بعالم تشدّ إليه الرّحال كأبي ذر الهروي أو أبي طاهر السّلفي أو أبي معشر الطّبري ... وربّما تساعد الإحصاءات التّالية التي اقتصرت فيها على المحطات العشر الأولى وبالتّسميات التي وردت في كتب التراجم على تبيان بعض أسباب التّوجه إلى هذه المناطق:
من خلال هذا المبيان يتبيّن لنا أنّ الحجاز ومكّة هي أكثر المناطق جذبا للرحّالة الأندلسيّين، وهذا منطقي بالنّظر إلى ازدواجيّة الأهداف في ما يتعلّق بالرّحلات العلميّة. لكن لم يكن الحجّ هو السّبب الوحيد لهذا العدد الذي قصد الحجاز، بل كما ذكرنا سابقا فالأمر مرتبط بكون عدد من الأعلام استقروا بهذه المنطقة كأبي ذر الهروي الذي أخذ عنه حسب كتب التّراجم 22 أندلسيّا ما بين حاج ومجاور، كما نجد أيضا أبو معشر الطّبري الذي أخذ عنه 17 أندلسيّا، و أبو المعالي الجويني الذي أخذ عنه 7 أندلسيين ....
هناك نقطة استقطاب أخرى هي مصر التي كانت معبرا أساسيّا لركب الحجّ الأندلسي، خصوصا بعد توقّف طريق الحجّ البحري بسبب الحروب الصّليبية، فلم يحجّ عبر البحر إلاّ اثنين من المترجم بهم مرّا إلى الشّام عبر صقليّة. لقد كانت مصر وخاصّة الإسكندريّة قبلة المحدثين خلال عصري المرابطين والموحّدين خصوصا مع وجود محدثين كبار كأبي الطّاهر السّلفي الذي أخذ عنه 58 من المترجم بهم ...
تبقى هناك محطّتان أساسيتان الأولى هي إفريقيّة، التي كانت ممرّ الأندلسيّين إلى مصر، أمّا المحطّة الأخيرة، فهي مدن المغرب كطنجة وأغمات وفاس ومرّاكش، فقد قصدها عدد من المترجم بهم لأسباب متنوّعة، أهمها تولّي الخطط والوظائف كجعفر بن محمد بن عطيّة (26) لكن هذا ينفي كون عدد من الأندلسيّين قصدوا المغرب لطلب العلم، كأحمد بن طاهر بن علي (27) أو للإنقطاع والزّهد، كحالة عبد العزيز التّونسي الزّاهد الذي قصد أغمات للإنقطاع (28) ممّا يشير إلى تحوّل في تيار الهجرة نحو المغرب، خصوصا مع وجود ما يمكن أن نسمّيه نزوحا مبكّرا نحو المغرب كحالة عبيد الله بن محمد بن عبيد الله النفزي، الذي غادر شاطبة بسبب الضّغط العسكري المسيحي عليها (29) .
رابعا ـ العلماء الذين رحل إليهم
1 ـ العلماء الذين رحل إليهم داخليّا
في الجدول التالي والذي رتبت فيه الشيوخ الذين قصدهم الأعلام الرحالة لأخد العلم بناء على عدد المرات التي تكرر فيها، مع العلم أني اقتصرت على من أخذ عنهم عن طريق الرحلة. ونلاحظ من خلاله أن أبا علي الصدفي يتصدّر الأعلام الذين أخذ عنهم عدد كبير من الأعلام الأندلسيّين المترجم بهم الذين كانت لهم رحلة، متبوعا بأبي بحر الأسدي وأبي الوليد ابن رشد، وأبو بكر ابن العربي، مما تؤكد لنا قيمة وأهمية هؤلاء الأعلام في والفكر الأندلسي خلال عصر المرابطين والموحدين.
2 ـ العلماء الذين رحل إليهم خارجيا:
يعطينا الجدول التّالي صورة تقريبيّة عن الأعلام المشارقة الذين كانت تشدّ إليهم الرّحال خلال عصر المرابطين والموحّدين، حيث نجد في الصّدارة المحدث أبو طاهر السلفي والذي أخذ عنه 58 من الأعلام المترجم بهم، وربّما يعود السّبب في ذلك لاستقراره بالأسكندريّة. متبوعا بأبي علي بن العرجاء، وأبو ذر الهروي، وبعده نجد أبا معشر الطبري، وكلّ هؤلاء كانوا مستقرّين بمكّة المكرمة ممّا يفسر لنا العدد المهمّ من الأندلسيّين الرّحالة الذين التقوا بهم وأخذوا عنهم.
3 ـ الإنتاج العلمي المطلوب بالرحلة
يبدو لنا من خلال الجدول التّالي، أنّ كتب علوم القرآن وكتب الحديث قد حظيت بالأولويّة من طرف العلماء الرّحالة الأندلسيّين، ففيما يخصّ كتب علوم القرآن، فالأولويّة كانت لكتابي التّلخيص في القراءات لأبي معشر الطّبري، وكتاب الجامع في القرآن لابن العرجاء، وكلاهما من العلماء المتخصّصين في القراءات وكما رأينا سابقا فكلاهما كان يقيم في مكّة المكرمة، وقد أخذ عنهما عدد مهم من العلماء الأندلسيّين المترجم بهم، من جهة ثانية نجد اهتمام الأندلسيّين ينصب بشكل كبير على كتب الحديث، وعلى رأس الكتب صحيح البخاري وصحيح مسلم، ثم بعدهما نجد الموطأ فسنن أبي داوود والدارقطني. كما اهتم الأندلسيون بكتب الفقه وخاصّة المدوّنة. ويبدو من خلال التّراجم أيضا أنّ كتاب مقامات الحريري حظي بعناية خاصّة، فقد حرص عدد من الأندلسيّين الرّحالة على أخذه من مؤلّفه شخصيّا، ربّما لأنّ فنّ المقامات شكل نوعا جديدا من الكتابة والتّأليف اكتشفه الأندلسيّون أثناء مرورهم بالمشرق ولكن كان الإهتمام به أقلّ من كتاب سيبويه.
4 ـ الأندلس كوجهة للرّحلة
اهتم أصحاب كتب التّراجم بالإضافة إلى أبناء الأندلس بالغرباء الذين دخلوا بلدهم لسبب من الأسباب، وخصوصا أولئك الذين كان لهم نشاط علمي، والملاحظ أنّ أغلبهم ينتمون إمّا إلى إفريقيّة أو إلى المغرب الأقصى. وسأحاول من خلال هذه العجالة تقصي أسباب التّوجه إلى الأندلس في هذه الفترة قيد الدّراسة:
طلب العلم: دخل الأندلس عدد من المغاربة طلبا للقاء شيوخها والأخذ عنهم، ومن هؤلاء نذكر عبد الملك بن محمد القيسي من مدينة فاس الذي قصد قرطبة، وأخذ صحيح مسلم عن أبي علي الغساني قبل أن يعود أدراجه إلى بلده (30).
اللّجوء : بسبب الإضطرابات السّياسيّة والإجتماعيّة، والتي عرفت ما وصفته المصادر«بفتنة العرب»، اتجه عدد من اللاّجئين إلى الأندلس من إفريقيّة، ومن هؤلاء علي بن عبد الغني الفهري ذكر ابن بسام أنّه دخل الأندلس بعد خراب القيروان (31) و كذلك محمد بن عبد المنعم بن عبد الله بن أبي بحر (32).
الوظيفة : تولّى عدد من الدّاخلين إلى الأندلس وظائف من قبيل القضاء والفتيا، خصوصا في ظلّ الوحدة السّياسيّة التي عاشها الغرب الإسلامي خلال عهد المرابطين والموحّدين. وقد كانت لهؤلاء أنشطة علميّة من قبيل رواية الحديث والإقراء كحالة أبي على الكلاعي من أهل صفاقس (33)
الجهاد: عبر العديد من المغاربة إلى الأندلس للجهاد كما أورد المؤرّخون بشكل مجمل، ولكن كتب التّراجم تذكر من عبر من العلماء بالإسم، كما تورد من استشهد منهم كحالة عبد الملك بن مروان المصمودي(34) وحالة يعلي بن المصمودي الفقيه (35) ومن التقوا وأين وما نتائج اللّقاء خصوصا على المستوى العلمي، وعموما فالملاحظ أنّ عبور العلماء المترجم لهم ارتبط بحالات الإستنفار الكبرى إثر تعرّض الأندلس لضغط عسكري مسيحي شديد كما في أواخر القرن 5 وأوائل القرن 6.
خاتمة
لقد حاولت من خلال هذا المقال، أن أبرز بعض جوانب الرّحلة العلميّة في الأندلس خلال عصر المرابطين والموحّدين، باعتماد منهج إحصائي. وقد تبيّن من خلال ذلك مدى غنى كتب التّراجم بالمعلومات المتعلّقة بالحياة الفكريّة والثقافيّة والدّينية في الأندلس، وأنا على يقين أن استعمال نفس المنهج على كتب التراجم التي تتعلّق بفترات أخرى، أو مناطق أخرى سيمكننا من الخروج باستنتاجات مثيرة.
الهوامش
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة رحل، نقلا عن المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني، 2.11
(2) نفسه
(3) جذوة الإقتباس: ص 259
(4) التكملة رقم 839
(5) صلة الصلة : ترجمة رقم 52
(6) التكملة رقم 1140 ج 1 ص 322
(7) بغية الملتمس رقم 931 الجزء 2 ص 448
(8) الذيل و التكملة رقم 883 ج 6 ص 335
(9) الذيل و التكملة رقم 79 الجزء 8 ص 56
(10) التكملة رقم 8 الجزء 3 ص 6
(11) الوافي بالوفيات الجزء3 ص 396
(12) التكملة: الرقم 777 الجزء 2 ص 266
(13) الصلة: الرقم 1311 الجزء 3 ص 859
(14) التكملة: الرقم 511 الجزء 3 ص 204
(15) التكملة: الرقم 372 الجزء 2 ص 143
(16) التكملة: رقم 520 الجزء 1 ص 163
(17) الصلة: الجزء الأول ص 59
(18) التكملة: الرقم 186 الجزء 3 ص 76
(19) التكملة الرقم 84 الجزء الأول ص 31
(20) التكملة: رقم 112 الجزء 1 ص 38
(21) التكملة رقم 1301 الجزء 1 ص 364
(22) التكملة:1260، الجزء 1 ص 336
(23) التكملة رقم 1279الجزء 1 ص 359
(24) التكملة: رقم 64 ، الجزء 3، ص 21
(25) شرق الأندلس 26 ؛ دانية 32 ؛ بلنسية 25 ؛ شاطبة 32
(26) جذوة الإقتباس الرقم 133 ص 175
(27) الصلة رقم 168 الجزء 1
(28) الصلة الرقم 813 الجزء 2 ص 549
(29) التكملة رقم 917 الجزء 2 ص 216
(30) صلة الصلة رقم 420 الجزء .... ص 246
(31) الذخيرة الجزء 4 ص 245 و ما بعدها
(32) التكملة رقم 404 الجزء 2 ص 157
(33) الغنية رقم 49 ص 140
(34) التكملة رقم 206 الجزء 3 ص 86
(35) التكملة رقم 661 الجزء 4 ص 238
|