وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
الشباب، كيف لهم أن ينخرطوا في السلطة ؟

 تحتاج المشاريع الكبرى ركيزتين أساسيتين لتضمن نجاحها؛ أولاها الرّؤى الاستشرافيّة المحكمة (منسجمة مع الواقع) أو ما ‏يعرف اليوم بالتّخطيط الاستراتيجي والذي سأخصّص له مقالا كاملا للحديث عن أهميته في الخروج من الأزمات وتحقيق ‏النّجاحات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. وثانيتها وجود فريق متجانس مؤمن بالرّؤية وفاعل في تنفيذها دون ضغوطات داخليّة أو خارجيّة.

كان المجتمع القبلي زمن البعثة، تحت سيطرة ثقافة الآباء، وكان العقل ‏البشري حينها يعطي قيمة لمظاهر الكون (الشّمس، القمر، النّجوم)، ولذلك كانت هذه الكائنات تُعبد من دون الله، ممّا أدى ‏إلى ضعف الإنسان وقصوره إذ أصبح يحتاج إلى وسيط بينه وبين الإله وهم الكهنة. ولذلك جاء الإسلام بثورتين أساسيتين، ثورة روحية لتحرير ‏الإنسان من الوساطة (الكهنة) وثورة سياسية لتحريره من الوصاية (ظلّ الله في الأرض). ‏
تحتاج هاتان الثورتان اللّتان يعتبران بمثابة تخطيط استراتيجيّ لبناء دولة قويّة المعالم والأركان بالضّرورة إلى وجود فريق متجانس يضمن نجاح المخطّط المرسوم. ولأنّه ليس من السّهل أن يغير الكهول والشّيوخ من قناعتهم ونمط ‏عيشهم الذي اعتادوا عليه طوال عمرهم وأن يثوروا على عادات وتقاليد مجتمعهم خاصّة إذا  كانت هذه العادات ‏مصدر السّلطة (سيادة قريش) ومصدر المال (تجارة قريش). فقد كان لابدّ من النّبي صاحب الـ 40 ربيعا (سنّ ‏نضج الشّباب) أن يكوّن فريقا جلّه من الشّباب يؤمن برسالته السّياسيّة والعقديّة وأن يشتمل الفريق على عديد الأصناف من الذين سيمثلون ‏في المستقبل قادة للمشروع السّياسي. فأبو بكر مثلا كان عالما بالأنساب؛ أي التّحالفات وهي العلاقات التي كانت تقوم بين القبائل، ‏وعارفا بعدد جيوشهم وعدّتهم وله رؤية شاملة للظّروف المحيطة بالقبائل، وقادرا على بناء استراتيجيّة التّواصل معها أي أنّه يلعب دور ‏مدير الاستخبارات. ‏
أمّا عثمان بن عفان وعبد الرّحمن بن عوف فقد لعبا دور «رأس المال» لكونهما تاجرين ومن أرباب المال في ذلك الوقت. لذلك كان ‏لهما القدرة على تقديم النّصح والإرشاد والشّورى في الأمور التي تتعلّق بالاقتصاد والتّجارة. وخالد بن ‏الوليد حين أسلم ، أطلق عليه النّبي لقب «سيف الله المسلول» وأسند له المهمّة الحربيّة ليكون قائدا للجيش الإسلامي ولا ننسى حسّان بن ‏ثابت الذي أصبح بعد إسلامه عنصر دعاية من خلال أبيات شعره الهادفة وقصائده الرائعة.            ‏
كان الوضع السّياسي في مكّة قاتما ومطنبا في القهر والظّلم من خلال تضييق الحرّية على المشروع السّياسي المولود حديثا ‏والمتبنّى من طرف ثلّة من الشّباب، ولذلك كان لزاما على قائد المشروع أن يذهب لبناء الكيان السّياسي (المادّي) الذي يكرّس ‏فيه المرجعيّة والقيم المستوحاة من استراتيجيّة القرآن التّوحيديّة (المعنوي) وهو ما أحدثته « الهجرة إلى المدينة» التي مثّلت ‏منعرجا تاريخيّا لبناء الدّولة.                                                                               ‏
يمثّل الشّباب إذن، رمز المستقبل الطّامح لغد أفضل، لوطن يطيب فيه العيش، لدولة تحترم الضّعيف وتأخذ حقّه من القويّ ‏المتجبّر، لدولة تحترم حقّ الانسان في العيش بحرّية وبكرامة، تحقّق فيها العدالة بين فئات المجتمع والعدالة بين الجهات ‏وتضمن فرص العمل بمعيار الكفاءة والنّزاهة. في المقابل، يمثّل كبار السنّ  رمز كل قديم وماض بالرغم من كونهم أصحاب خبرة وتجربة. وعلى هذا الأساس، كانت الثورة التي اندلعت من تونس لتعمّ جزءا كبيرا من العالم العربي هي نتيجة لمطمح ‏الشّباب في العيش في وطن تكرّس فيه الحقوق والحرّيات والعدل والكرامة وغيرها من قيم التّعايش والتّسامح. ولهذا لم تكن النّخب الموجودة في السّاحة بميولاتها وتجاذباتها المتنوّعة وبأصنافها الستّة ( الإرادة أو النّخبة السّياسيّة، العلم أو النّخبة المعرفيّة، القدرة أو النّخبة ‏الاقتصاديّة، الحياة أو النّخبة الفنّية، الوجود أو رجال الدّين والفلاسفة) ‏داخل معركة الشّباب ضدّ النّظام المافيوزي. بل وقف أغلبها موقف المشاهد لآخر فصول الاستبداد في البلاد أيّام الثّورة، ولم تكن ‏قادرة على تقديم الإضافة المرجوّة منها. وبذلك بقيت خارج التّاريخ شكلا ومضمونا. وما نراه اليوم أكبر دليل على ‏حمق هذه النّخب، وخاصّة السّياسيّة منها. فكلّ فرد منها يعيش الثّورة من خلال قصّته الخاصّة المرتبطة بمصالحه لا بمصالح ‏غير، دون الانخراط في بناء مشروع وطني مشترك. لذلك يجدر بقائد الثّورة ومحرّرها (الشّباب) أن يستأنف دوره ‏الحضاري في كتابة تاريخ جديد لدولة تعطّل بناؤها ستّون سنة كاملة بعد الاستقلال، وأن ينخرط في السّلطة مع النّخبة، على ‏أصنافها، وهو ما يحتاجه الشّباب للإبداع، على جميع الأصعدة، وما يحتاجه العامّة لتطوير نمط عيشهم بما يتوافق وحاجياتهم ‏ومتطلبات عصرهم.                  ‏
في هذا الإطار نشر الأستاذ سالم العيادي مقالا بعنوان «الثَّورة شبابٌ» بدأه بشعوره بالغثيان وهو يتابع خطاب رئيس طاعن ‏في السّن بلغ من الكبر عتيّا ومازال يحكم الدّولة بعقليّة قديمة أكل عليها الدّهر وشرب وهو يقول: «إن شاء الله ما يقضيش علينا الإرهاب ‏‏»(1) في مقابل شعوره بالارتياح الحذر من ظهور رئيس حكومة شاب وهو يطمئن المواطنين ويشعرهم بأنّ الأمر تحت ‏سيطرة السّلطة. وقد حاول تحليل هذيْن الشّعورين المتناقضين وانتهى به الحال إلى أنّ كلّّ الطّاعنين في السّنّ من السّياسيِّين ختم ‏التاريخ على مسيرتهم السِّياسيَّة، ولا حرج عندهم من الإجرام في حقّ هذا الوطن ما دام مستقبلهم وراءهم. ولم يكن ماضيهم ‏الّذي انبعث في حالة ارتباكٍ أصاب الثّورة إلاّ ماضيًا أسودا. وأنَّ مسار الثورة والانتقال الدّيمقراطيّ في حاجة ماسَّة إلى الهمم ‏الشَّابة الّتي ترى مستقبلها السِّياسيّ أمامها وتحاذر من الخطأ، وهذا الحذر محمود، لكنه خصلة قد تنقلب إلى حاجز يعيق الجرأة ‏والإقدام.                                                                                                                            ‏
هذه اللّحظة تقتضي جرأة وإقدامًا قد تصاحبه الأخطاء. ولا عيب أن يخطئ المرء ما دام خطأه لا يتّخذ شكل «الإجرام»، وما ‏دام هو الطّريق الحقيقي لصناعة رجال الدّولة والقادة القادرين على القرار السِّياسيّ. وحتَّى يتمرَّس شباب السِّياسة بفنّ السِّياسة ‏وإن أخطأوا، ينبغي أن تكون الجرأة وأن يكون الإقدام نحو ملفيْن أساسيَّين هما: محاربة الفساد ‏دون هوادة واسترجاع السيادة الوطنيَّة في أبعادها المختلفة (2).‏                                                      ‏
تبدو الوضعيّة السّياسيّة الحالية للشّباب مزرية، إلاّ أنّ هنالك أملا كبيرا يلوح في الأفق؛ صحيح أنّ القيادات الحزبيّة من ‏زعماء ومناصب حسّاسة من فئة الشّيوخ أو الكهول (نهضة الغنوشي، نداء الباجي، جبهة الهمامي وكلهم طاعنون في ‏السّن). كما أنّ الوزراء هم من فئة الكهول يتزعّمهم شاب في مرحلة النّضج. لكنّ الأمل الذي يلوّح في الأفق هو في المجالس ‏البلديّة التي صارت، بعد الانتخابات، تعجّ بالشّباب الطّامح لتغيير منطقته. وإن لم يكن العمل البلدي عملا سياسيّا بقدر ما هو ‏عمل طوعيّ إلاّ أنّه‎ ‎يمثّل رافدا من روافد تنشئة الأجيال القادمة على العمل السّياسي. فمعلوم أنّ عديد الزّعماء والقادة الذين ‏كتبوا تاريخ بلادهم بأحرف من ذهب كانت بداياتهم في المجالس البلديّة. وقد بلغت نسبة الشّباب الذين لم يتجاوز عمرهم ‏الـ35 سنة 2673 عضوا بلديّا أي بنسبة 37.16 % (3) ‏وهو ما يدعّم فكرة انخراط الشّباب في بناء الدّولة وذاك ما نرغب فيه.‏
ومن بين التحدّيات التي تعترض مسيرة بناء الدولة وتحقيق التنمية مسألة هجرة الكفاءات والمهارات التّونسية والتي تمثّل صفوة النّخبة الأكاديميّة والعلميّة الوطنيّة نحو أوروبا ‏وأمريكا وكندا وخاصّة دول الخليج، وهي ظاهرة آخذت في التنامي خلال السّنوات الأخيرة. فحسب الأرقام الرّسمية، ‏فإنّ تونس شهدت هجرة حوالي 94 ألف كفاءة إلى الخارج، منهم 8500 كفاءة في مجال التّعليم العالي يتوزّعون على النّحو ‏التالي: 2300 أستاذ باحث ومثلهم مهندسين، إضافة الى 1000 طبيب وصيدلي و450 تقنيّ والبقية اختصاصات أخرى.‏ ‏(4)‏
إن خطر الهجرة الشّرعية (الكفاءات والإطارات) وغير الشّرعيّة من النّاحية الدّيمغرافية من أهم العوامل التي ‏تدقّ ناقوس إنذارٍ للسّاسة لما قد تنتج عنه من آثار سلبيّة على الدّولة وبنيتها المجتمعيّة. وحتّى نستطيع الحدّ من هذه الهجرة أو تنظيمها لابدّ من فهم الأسباب التي تدفع الشّباب إليها، لهذا كان لزاما تشبيب الطبقة السياسيّة وتسليم مشعل القيادة والحكم للشّباب حتّى يسهل فهم احتياجات الفئة التي ينتمون إليها فيتمّ تقديم مقترحات ورؤى نابعة منها تجعلها لا تفكّر في هجرة أوطانها.                                                                                  ‏
الهوامش
(1) خطاب الرئيس الباجي قائد السبسي إثر العملية الإرهابية التي حدثت في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية.‏
(2)  د. العيادي (سالم): الثورة شباب، ...‏
(3)  المصدر. تن عن مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.‏
(4) جريدة الشروق التونسيّة ، «خطير: هجرة الأدمغة بلغت حدا مفزعا:تونس تفقد ذكـاءها‏»