في العمق

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
قضايا كبرى في مشروع الإصلاح التربوي

 الإصلاح التربوي مفتاح التمايز الحضاري

‎‎‎التّربية مفتاح الإصلاح إن لم تكن الإصلاح ذاته، وقضيّة الإصلاح التّربوي قضيّة أمّتنا الأولى، إذ لا ‏إبداع ولا إقلاع، ولا تنمية ولا تزكية، إلاّ بالاهتداء فيها للتي هي أقوم.‏ ‎وأصل ذلك الانطلاق من كيان الذّات ثوابت ومقومات، والاعتماد على إنجاز الذّات وسائل وأدوات، والرنو ‏إلى مساعي الذّات مقاصد وغايات. وبمركب هذه العناصر الثّلاثة يكون التّمايز والتّفاوت بين تجارب ‏الحضارات، إذ صلاح التّعليم وهو الأساس «من مميّزات الأمم بعضها من بعض» وبحسب ما اشتملت عليه ‏من صلاح يكون التّفاضل(1)‏
‎ ‎ذلك أنّ قضية الصّلاح، مثلما هي قضيّة الفساد في الأرض، إنّما هي قضيّة كسب «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(2) وكسب الصّلاح والإصلاح، من حيث كونه تكليفا شرعيّا وموجبا عمرانيّا، لابدّ فيه من بذل جهد على قدر ‏الوسع والطّاقة «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ»(3).‏ ‎وهو جهد، وإن بدت معانيه مشتركة من حيث التّصوّر والتّجريد، إلاّ أنّها متفاوتة متمايزة بين أهل التّديّن ‏من حيث الأداء والتّنزيل، على حسب صدق النّية وقوّة الإرادة، وجماليّة الهيئة وبركة الأثر، ومن هنا كان ‏الصّلاح والإصلاح باعتبارهما كسبا وتديّنا محلّ قبول أو ردّ من حيث الذّوق، على نحو قوله عليه السلام‏‏ «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» إذ ليس كلّ تديّن أو كسب ينال الرّضا إلاّ تديّن الصّدق ‏وكسب الرّفق وجمال الحكمة، وبنحو هذا تتفاضل صور الكسب.‏
‎ ‎الإصلاح التّربوي عامّة، والتّعليمي منه خاصّة، أشرف هذه الصّور المنوط تحقيقهاعلى سبيل الكفاية ‏بمجموع الأمّة قبل آحادها، وبخاصّتها من أولي الكفاءة والقوّة فيها دون دهمائها، ولن يرقى إلى مستوى ‏الكسب التّعبّدي المطلوب إلّا إذا صدر عن أهله، إذ حقيقة الإصلاح نقل الصّلاح، ولابدّ من قيامه صفة ثابتة ‏في النّاقل، وإلاّ غصّ العمل بالفشل بقاعدة « إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ» (4) .‏
‎ ‎الإصلاح التربوي وقضية الثوابت
‎ ‎وثوابت الأمّة قوام هويّتها التي هي «حقيقة كيانها وما يتمثّل فيه وجودها وتتجلّى فيه خصوصيّاتها ‏الحضاريّة بكلّ أبعادها»(5) وهي باعتبار الأهم مركب من خمسة أبعاد بخمس مقومات: البعد الإيماني ‏بمقومه الوحي وهو صلب الهويّة، والبعد العلمي بمقومه التّراث الإسلامي وهو غشاء الصّلب، والبعد ‏اللّساني بمقومه اللّغة العربيّة وهو الواسطة بين الصّلب والغشاء، والبعدان الزّماني فالمكاني بمقوميهما ‏التّاريخ فالجغرافيا -أي تاريخ الإسلام وجغرافيا بلاد الإسلام- وهما الوعاء العمراني لتفاعل أجيال الإسلام ‏متعاقبة، مع الأبعاد الثّلاثة الأولى بمقوماتها مجتمعة، وما ينجم عن ذلك من آثار على واقع الأمّة وموقعها، ‏ومسارها ومصيرها.‏
‏ ‏فالثّوابت إذن دماء كيان الأمّة النّابضة بحياتها وتميّزها، وركنها الشّديد الذي تأوي إليه عند عزمها على ‏إعادة تشكيل جنانها وتحصين وجدانها. ورأس الثّوابت هدى الوحي الذي يتحدّد من خلاله نسق الأمّة القيمي ‏المسدّد لأمرها في التّفكير والتّعبير والتّدبير، والمرشد لاجتهادها في الإنجاز والتعمير.‏
‎ ‎في إصلاح التفكير
‎ وإصلاح التفكير عمود الإصلاح التربوي، والتركيز على الجانب العقدي فيه، باعتباره تفكيرا مقدسا، ذروة ‏سنامه، والغرض منه التشبع بقيم المنهج الإيماني في التفكير، ذلك أن «الله سبحانه الذي خلق الإنسان في ‏أحسن تقويم، قد أودع فيه قوة الفكر المصيب، فإذا نشأ عقله على الاعتقاد المصيب، ارتاض عقله بقوانين ‏الفكر المصيب، وإذا نشأ على ضد ذلك سخر عقله لطرائق الخطأ في التفكير وقبول التعاليم الضالة، ثم ‏إحداث تعاليم أخرى إلى أن تتراكم عليه الضلالات والخرافات»(6).‏
‎ ‎والمؤسف أن برامجنا التربوية لا تولي هذا الجانب من إصلاح التفكير- وهو الأساس- كبير الاهتمام، ولا ‏تأتسي فيه كثيرا بمنهاج الوحي إذ حاط صلاح العقيدة ودوام صلاحها، من جانب التفصيل بتمام إيضاح ‏أمورها، وافتضاح الضالين عن سبيلها، وسد ذرائع خرمها من الشركيات والبدعيات؛ ثم من جانب التعليل ‏باستدعاء العقول إلى الاستدلال على كبرى حقائقها، ورأسها وجوده سبحانه بصفاته التي دل عليها تنزيهه، ‏عبر النّظر في آياته في الأنفس والآفاق، مع ربط كلّ من جانبي البيان والبرهان بثمارهما التّربوية في ‏النّفس والواقع(7).‏
‎ ‎ذلك أنّ حيّز الموضوع ضمن برنامج المادّة الإسلاميّة المغبون أصلا وقصدا، من الأولي إلى الجامعي، ‏ضئيل جدّا كما يشهد بذلك ابتداء غلافه الزّمني، ناهيك عن أنّ مضمونه مزاحم أحيانا بما يناقضه من مفاهيم ‏ضمن البرامج المقرّرة ذاتها، نحو مفهوم التحوّر والتّكيف مع الوسط بالنّسبة لأعضاء الحيوان، كما في ثنايا ‏مقرّرات علوم الطّبيعة، وهو مفهوم مستند إلى القوانين الأربعة لداروين في كتابه «أصل الأنواع»(8) المبني ‏أساسا على قوله بالصّدفة والاتفاق المعارض لحقيقة الخلق؛ وهو دون ريب أمر مخلّ بضرورة تكامل ‏المفاهيم والمضامين بين مختلف المواد، فضلا عن أنّه مؤثّر سلبا في تناسق الشّخصيّة الإيمانيّة المتوخّى ‏صناعتها، بما يهدم من تناسب مكوناتها وانسجام ملامحها.‏
‎ ‎في إصلاح التّعبير
‎ ‎وأمّا إصلاح التّعبير، فأقوى صلته بالثّابت اللّغوي، بل اللّساني، ممثّلا في مقوم العربيّة، إذ بغير تذوق ‏أساليبها في التّعبير، ومقاصدها في التّصوير، عبر مساقاتها في القرآن وما صحّ من لفظه وجوامع كلمه عليه ‏السّلام، فضلا عن التّمرّس بكلام أساطين البلغاء العلمي والأدبي، قديما وحديثا، بغير هذا ونحوه، يضمحل ‏في النّاشئة البيان والتّبين، ويتعذّر العمران والتمدّن، ذلك أنّ قضيّة الذّوق بما هو «كيفيّة للنّفس بها تدرك ‏الخواصّ والمزايا التي للكلام البليغ»(9) لمّا تعط حقّها ومستحقّها في برامجنا التّربوية، إذ ينحصر تعلّم ‏العربيّة –على علاّته- غالبا في مجرد الإلمام بتقنياتها اللّغوية، دون التملّي من أسرارها ووظائفها اللّسانيّة، ‏وشتّان بين اعتبار العربيّة قالبا لغويّا رصينا، وبين اعتبارها لسانا فصيحا مبينا. يقول الدّكتور فريد ‏الأنصاري رحمه الله « اللّغة إنّما هي كلّ ما يلغو به الإنسان من الألفاظ للتّواصل مع غيره، أمّا اللّسان فهو ‏الملكة البيانيّة التي يعبّر بها المتكلّم عمّا يجده من معان وأحاسيس، بما يجعل المتلقّي يشعر بما شعر به ‏الملقّي، وذلك هو البيان بالمعنى القرآني... إنّ اللّغة هي ذلك الرّمز اللّفظي المشترك، بينما اللّسان هو ذلك ‏المنتوج الشّخصي في اللّغة، فاللّغة قوالب ميّتة لا تحيى إلاّ عند تحوّلها إلى لسان، ثمّ إنّ اللّغة هي ما في ‏الكتب والمعاجم والقواعد، بينما اللّسان هو ما في الحياة الإنسانيّة من التّداول الكلامي»(10).‏
‎ ‎ومن ثمّ فإنّ سقم المدنيّات وعافيتها على - مستوى التّعبير- يدوران مع أحوال تواصلها اللّساني وأدائها ‏البياني سلامة وعيّا، ومجلى ذلك أساسا التّعبير عن المفاهيم، إذ هي بذور التّمايز الثّقافي والحضاري، ‏باعتبارها أعرافا علميّة واجتماعيّة خاصّة، يتشكّل من خلالها النّسيج القيمي والعمراني المميّز للمجتمعات ‏في التّصورات والتّصرفات، وأيّ خلل يصيب لسان المفاهيم بطريق اللّحن كما في التّعبير عن الغلوّ ‏بالتّطرف، أو بطريق التّزاحم الفجّ كما في ظاهرة التّعدّد اللّغوي منذ مراحل التّعليم المبكّرة، لا بدّ من أن ‏يورث غبشا في الاستيعاب والخطاب، وتضاربا في العقليّات والنّفسيات، ينهدم به لا محالة ما يؤمل في ‏المحصلة من التّنوع الاجتهادي المتكامل بالتّضاد الإيديولوجي المتحامل.‏
وإنّما أتيت بلاد الإسلام، فيما سمّي بمرحلة الاستقلال، من باب فوضى المفاهيم، إذ سعى الاحتلال بعد ‏انزياحه العسكري عن الأوطان، إلى التّمكن من اللّسان والوجدان، بضرب التّعريب بالتّغريب، والإحياء ‏بالحداثة، إلى أن نبتت في الأمّة نابتة آبقة، خرّبت بما سطت عليه من مناصب في الفكر وفي السّياسة، ‏جهاز التّواصل اللساني، وازدرت التّراث الحضاري العمراني، لولا ما كان من جهود الغيورين من الأقوياء ‏الأمناء، في البناء والنّماء والنّقد والنّقض، وهوما يشكّل اليوم جزءا كبيرا من المادّة المنهجيّة الخامّ ‏للاستئناف الحضاري المنشود.‏
في إصلاح التدبير
‎ ‎وأمّا التّدبير بما هو «إجراء الأمور على النّظر في العواقب بمعرفة الخير» كما في تعريفات الجرجاني، ‏فإصلاحه أشدّ ارتباطا بالثّابتين الزّماني والمكاني، بمقوميهما التّاريخ والجغرافيا، إذ هما –كما سبق- الوعاء ‏لتجارب أجيال الإسلام الماضية والحاضرة، محسنة ومسيئة، مصيبة ومخطئة، والامتياح ابتداء من عناصر ‏النّجاح والإحسان فيهما، لأجل بناء مناهجنا التّربوية، وتطوير برامجنا التّعليمية، يعدّ امتدادا طبيعيّا لإبداع ‏الذّات ضمن صيرورتها التّاريخيّة، وهو ما يجعل إصلاح حالنا التّربوية، تنقية وتقوية وترقية، مضمون ‏النّتائج، إذ يجيب ذلك  - وبقدر كاف- عن سؤال التّأصيل في مشاريع التّأهيل لمناهجنا التّعليمية، فضلا عن ‏أنّه يعمّق الوعي بذاتنا التّربويّة، لأنّه يتعلّق ماضيا بما يكشف عن واقعها التّاريخي، وحاضرا بما يسهم في ‏رشدها المنهاجي، ومستقبلا بما يترجم تميّزها الحضاري.‏
‎ ‎على أنّه حين عمّت بلوى الاقتراض والتّغريب مشاريع التّدبير التّربوي، بسعي من لدن الفاعل الرّسمي والنّخبوي الحداثي، طورا بمقتضى الانبهار، وحينا بدافع الاتجار، استحال الكشف عن المدخّرات التّربوية ‏للذّات سرابا، والتماس رشدها وريادتها تيها وارتيابا. وكان الأولى استكمال مسيرة الإصلاح التي قادها من ‏قبل رواد الإصلاح، مذ دخلت الأمّة نفق الانحلال والاحتلال، محاولين من جديد النّهوض بمناراتها التّربويّة ‏الكبرى وجوامعها العلميّة العظمى، التي هي مرآة أحوالها وأوضاعها، ومشافي عللها وأسقامها.‏
نماذج راقية في التّدبير التّربوي الحديث
‎ ‎وكان ديدن الرّواد تدبير الإصلاح التّربوي، بعد أن عدوه أو كاد، روح الإصلاح الاجتماعي، وذلك بين ‏دفتي التّأصيل لمناهجه بأجود ما صدر عن الذّات، والتّكميل لمقولاته بأنفع ما وفد عليها، وهكذا سعى ‏الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله، بعد أن «صرّح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التّعليم الأزهري ‏ومناهجه»(11)آنذاك، وبمبادرة منه شخصيّا، إلى الجمع بين الحسنيين، فكان رحمه الله «يدرّس في داره لبعض ‏المجاورين كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، وكتاب «التّحفة الأدبية في تاريخ تمدّن الممالك الأوروبيّة» ‏تأليف الوزير فرانسو جيزو، وتعريب الخواجة نعمة الله الخوري»(11) حتّى إذا دخل حينها مجلس إدارة ‏الأزهر، حيث كان أعظم عامل فيه، أسهم رسميّا و بحظّ وافر في تقدّم الجامع، بما جدّد فيه من علوم ‏ومعارف، وأنعش من نفوس ومواقف. يقول الشّيخ محمد الحجوي الثّعالبي في ترجمة الشّيخ حسونة ‏النّواوي، شيخ الأزهر ورئيس مجلس إدارته آنئذ «أسّس مجلسا لإدارتها، وكان من جملة أعضائه الشيخ ‏محمد عبده، الذي كان أكبر عامل فيه، وسنّ قانونا آخر لإدارته وانتظامه وكيفيّة التّعليم فيه، ونظام ‏المدرسين والمتعلّمين، وكيفيّة الامتحان وغير ذلك، ممّا أدخل الأزهر في صفّ الكليّات العظيمة، ذات ‏النّظام المعتبر، ورقاها إلى أوج الفلاح، وأدخل علوما عصريّة للأزهر لم تكن تدرس فيها من قبل كالتّاريخ ‏والجغرافيا وغيرها... فتقدّمت الأزهر والعلوم الإسلاميّة في أيّامه تقدّما عظيما بإعانة محمد عبده المذكور»(12) ‏على أنّ ما نسب الشّيخ الحجوي للأستاذ الإمام من أعمال في المجلس على سبيل الإعانة، سرعان ما ‏استدركه في ترجمته بقوله «وكان في الحقيقة هو مديره تحت رياسة الشّيخ حسونة السّابق... وبذلك تسنّى ‏للأزهر أن يصير لما هو عليه الآن»(13) أي إلى حوالي الخمسينيّات من القرن الميلادي الماضي فيما يبدو.‏
‎ ‎ثم كانت رحلة الأستاذ الإمام فيما كان إلى تونس مرّتين، كان في أولاهما متفقّدا للأحوال، وفي الثّانية متعهّدا ‏للأعمال، إذ صادف فيهما نخبة إصلاحيّة من علماء تونس الأكابر، من أمثال العلاّمة سالم بوحاجب رحمه ‏الله، فتواردت الخواطر على الحقّ في سبيل الإصلاح الاجتماعي، مصيبة محزّ الاتجاه إلى الفلاح ‏التّربوي، وكان من أطيب غراس الرّحلتين محاضرة قيمة للأستاذ محمد عبده، من على منبر الجمعية ‏الخلدونيّة، الواقع مقرّها آنذاك قبالة جامع الزّيتونة(14) حيث كانت تعرض فيها أنشطة موازية لبرنامج ‏التّعليم في الجامع، كان من أهمّها دروس في مبادئ العلوم التّكميليّة نحو التّاريخ والجغرافيا والحساب ‏والهندسة. وقد حرص حينها الشّيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله، الذي لقبه الأستاذ الإمام بسفير ‏الدّعوة الإسلاميّة في تونس، على أن يدوّن بدقّة ما ورد في المحاضرة من آراء إصلاحيّة علميّة واجتماعيّة ‏وتربويّة (15) ليبني عليها فيما بعد مشروعه الإصلاحي التّربوي، موسعا مباحثه بالانفتاح على كلّ نافع ‏جديد، ومؤصّلا لبناته ذلك التّأصيل الفريد، فضمّن ذلك كلّه كتابه الفذّ عن التّعليم العربي الإسلامي «أليس ‏الصّبح بقريب» الذي صدرت طبعته الثّالثة عام 1431هـ/2010م بنشر مشترك من قبل دار سحنون ‏التّونسية ودار السّلام المصريّة.‏
‎ ‎والمتصفح للكتاب يجد في صلبه صيدليّة تربويّة صالحة أدويتها لعلاج كثير من آفات الواقع التّربوي اليوم، ‏على النّحو الذي عالج به الشّيخ ابن عاشور وقتها أدواء التّعليم الزّيتوني بعد أن آلت إليه رسميّا مشيخة ‏الجامع، وذلك سنة 1351هـ/1932م إذ عرض فيه فيما عرض بما يشبه الاستقراء مواطن الخلل التي ‏أصابت مناهج التّعليم في عصور الانحطاط، من نحو انعدام الخطّة التّربويّة المتطوّرة، وإهمال الضّبط، ‏والبعد عن التّربية الأصيلة، هذا مع نقد دقيق لمستويات التّعليم وأحوال التّلامذة، تجلّت أعظم معالمه في ‏غياب الحفظ في مرحلة الابتدائي، وإهمال التّمرين والعمل بالمعلومات في الثّانوي، وغياب ملكة النّقد في ‏العالي، والجري وراء الشّهادة من غير تحصيل علمي، إضافة إلى عدم مراعاة المصالح الصّحية ‏للطّلاب (16).‏
‎ ‎كما عرض فيه على سبيل الوصف صورة وافية عن واقع التّعليم في عصره، حيث رصد أحوال الّدروس ‏ومدرّسيها، ثمّ أحوال التّلامذة والفنون والتّآليف، متتبّعا ما لحقها جميعها من العوار والأضرار، مع تفصيل ‏دقيق لأسباب تأخّر العلوم المتداولة ممّا كان يشكّل آنذاك صلب البناء المعرفي في برنامج التّعليم الزّيتوني، ‏وهي العلوم الشّرعيّة من تفسير وحديث وفقه وكلام وأصولهما، مضافا إليها علوم العربيّة والمنطق والتّاريخ ‏والفلسفة. وقد نبّه إثر ذلك على وجوه إصلاحها وما يقوم به أودها، فأبان كما ورد ظهر الدّفة الأخيرة من ‏الكتاب «عن نظرة استشرافيّة منيرة، وإحاطة وفهم للشّريعة والواقع، فخطّ بذلك للأمّة الإسلاميّة طريقا ‏للنّهوض والإصلاح، ورسم لها منهجا قويما للنّمو والفلاح».‏
‎ ‎هذا وقد شاء سبحانه أن يرسل رياح الإصلاح التّربوي لواقح للهمم القعساء بالمغرب الأقصى، إذ في الوقت ‏الذي شرع فيه في إصلاح الأزهر، وإثر قدوم الشّيخ محمد عبده إلى تونس عام 1331هـ/1913م، بذل ‏الشّيخ محمد الحجوي الثّعالبي رحمه الله جهودا تذكر فتشكر في سبيل إصلاح القرويين، حيث كان أوّل ‏نائب للصّدارة العظمى في المعارف والتّعليم سنة 1330هـ/1912م، وكان أوّل ما أهمّه -فيما ذكر- أمر ‏القرويّين، فعمل على استصدار أمر شريف من قبل السّلطان يوسف بن الحسن عام 1332هـ/1914م ‏يقضي بإدخال نظام ينهض بالجامع بعد أن كان شبه جامعة شعبيّة ينبني فيها سير الدّروس على التّطوع من ‏غير ترتيب، ممّا أدّى لاحقا إلى تعطيل الدّرس بسبب انشغال جلّ المدرّسين بحرف يسدّون بها رمق النّفس.‏
‎ ‎وهكذا وفّق رحمه الله بعد الاجتماع في نفس العام بعلماء فاس الأعلام إلى تأسيس «مجلس العلماء التّحسيني ‏للقرويّين» بطريق الانتخاب، وهو بالمناسبة أوّل مجلس علمي بفاس العامرة تولّى رئاسته العلامة الحجوي ‏الثّعالبي إلى حين وفاته رحمه الله سنة 1956م وقد خرجت مداولات المجلس التّحسيني بمشروع إصلاحي ‏رائد للجامع، مكوّن من مائة مادّة ومادّتين مقسّمة على عشرة أقسام، تناولت فيما تناولت بعد نظام المجلس ‏الأساسي ضابط العالميّة وامتحان طالبيها، وضابط التّدريس وامتحان التّلاميذ، وتنظيم طبقاتهم ابتدائيّة ‏وثانويّة وعالية، وضابط التّآليف الدّراسيّة والأمور التّأديبيّة والتّقاعد، ونظام العطل والرّخص..‏
‎ ‎والخلاصة أنّ المشروع كما سبق نموذج رائد في التّدبير التّربوي، لولا أنّ العمل كان دون الأمل، إذ لم ‏يتسن للمجلس التّحسيني تنزيله وتحقيقه، بسبب التّواء الأغراض المودي بكلّ مشروع وليد إلى الإجهاض. ‏يقول الشيخ محمد الحجوي: «وأقول من غير تمدّح أو تبجّح: إنّ ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى ‏حيز الإعمال لكان محييا للقرويّين، مجدّدا لهيآتها التّدريسيّة تجديدا صحيحا متينا، إذ ليس له مرمى سوى ‏ترميم ما انهار من هيكلها المشمخر، باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان ‏عفاها... سائقا لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ ‏العلم والدّين والثّقافة أوج الكمال والفخار، ولكن مع الأسف المكدّر تداخل في القضيّة ذوو الأغراض ‏الشّخصيّة، فبينما نحن نبني ونصلح ونرمّم بفاس، وقد شرعوا في الهدم والتّخريب في الرّباط بغير فأس، ‏وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتّى صدر أمر شريف برجوعنا..»(17).‏
‎ ‎وبعد، فهذه نتف عن نماذج راقية حديثة من مشاريع التّدبير التّربوي، متّحدة الحال والزّمان بجامع ضعف ‏السّلطان واحتلال الأوطان، متفاوتة المكان والإنسان بتفاوت البيئات والحاجات والقدرات، ولئن قطع ‏وصلها بما يمنع من الإكمال والانتفاع، فعسى أن يوصل رحمها بحبل البحث والاطلاع، وذلك رصدا ‏للمؤتلف والمختلف فيها على المستوى التّعليمي والبيداغوجي، واستثمارا لما به حلّ المشكلات وتبديد ‏الأزمات اليوم على المستوى التّربوي والحضاري.‏
‏ ‏الهوامش
(1) ينظر «أليس الصبح بقريب» للطاهر بن عاشور ص16 وشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور: ‏حياته وآثاره. للدكتور بلقاسم الغالي 183. الطبعة الأولى 1417/ 1996.‏
(2) سورة الرّوم - الآية 41 
(3) سورة هود - الآية 88
(4) سورة يونس - الآية 81 
(5) ينظر مشروع الميثاق والهوية الإسلامية للدكتور الشاهد البوشيخي ص36 ومابعدها ضمن أعمال اليوم ‏الدراسي عن مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين(عقب صدوره بالمغرب). الطبعة الثالثة 2001.‏
‏(6) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص51.‏
(7) ينظر المرجع السابق من 49 إلى 51.‏
(8) ينظر مضمونه مختصرا في كتاب «قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن» ترجمة نديم الجسر.‏
(9) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 1/21.‏
(10) مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية ص75.‏
(11) ينظر ترجمة الإمام محمد عبده في كتاب «أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث» للعلامة أحمد تيمور ‏بك من 148 إلى 151. الطبعة الأولى 1387هـ – 1967م. لجنة المؤلفات التيمورية.‏
(12) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. القسم الرابع ص224 الطبعة الأولى 1416هـ/1995م ‏دارالكتب العلمية.‏
(13) نفسه 233.‏
(14)  ينظر «أليس الصبح بقريب»94.‏
(15) ينظر شيخ الجامع الأعظم للدكتور بلقاسم الغالي 186-187.‏
(16) ينظر المرجع السابق من 188 إلى 195.‏
(17) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. القسم الرابع 228 وينظر ما قبلها وما بعدها.‏