تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
علاقة الكاثوليكية باليهودية في التاريخ المعاصر

 تُعدّ «نوسترا آيتات» -‏Nostra aetate‏- أو «مجلس الحوار مع الأديان غير المسيحيّة» ‏المؤسّسةَ الأهمّ التي أنشئت عقب مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965)، بوصفها المرجع ‏النّظري والعملي لعلاقة الكاثوليكيّة مع الأديان والتّقاليد غير المسيحيّة. وضمن هذا السّياق ‏حازت اليهوديّة موضعا متقدّما في علاقتها بكنيسة روما. في الفترة الأخيرة، وبمناسبة مرور ما ‏يزيد عن نصف قرن على حصول ذلك التحوّل في الكاثوليكيّة، جرت حوصلة لتلك التّطورات ‏مع الجانب اليهودي وردت في عرض صادر من قِبل الكردينال «كورت كوش» والمونسنيور «بريان ‏فارل» ورجل الدّين «نوربارت هوفمان» على أعمدة صحيفة «الأوسرفاتوري رومانو» لسان حاضرة ‏الفاتيكان، نورد فحواه كالآتي:‏

تأثير «نوسترا آيتات» على مدى الخمسين سنة الأخيرة
ساهمت «نوسترا آيتات»، إضافة إلى وثائق مجمع الفاتيكان الثّاني، في إرساء توجّه جديد ‏للكنيسة الكاثوليكيّة، طبع علاقة الكنيسة بالشّعب اليهودي وباليهوديّة بأهمّية بالغة مقارنة بما ‏ساد سابقا من تحفّظات من كلاّ الجانبين، لا سيما وأنّ تاريخ المسيحيّة قد شابه تمييز في مقابل ‏اليهوديّة بلغ حدّ محاولة القلب الدّيني القسري لليهود. وعلى أساس هذه العلاقة الشّائكة، ما ‏كانت العلاقة سويّة بين الطّرفين، فقد بقي اليهود دائما في وضع الأقلّية أمام الأكثريّة المسيحيّة ‏المتنفّذة. ولكن ما انجر عن أوضاع المحرقة في أوروبا أثناء الحقبة النّازية، دفع الكنيسة للتّفكير ‏من جديد في علاقتها بالشّعب اليهودي.‏
فقد ساهم التّقدير العميق لليهوديّة، الوارد في «نوسترا آيتات»، في تحويل الريبة التي رانت في ‏الماضي على الجانبين إلى تعاون مشترك، إلى حدّ إرساء علاقات صداقة، يُقدّر أن بوسعها ‏مواجهة الأزمات والتّحكم في الصّراعات بقصد إرساء علاقات أفضل بين الكاثوليك واليهود.‏
ولغرض تفعيل حقيقي لنوسترا آيتات شُكّلت في الثّاني والعشرين من أكتوبر 1974، من ‏قبل البابا المطوَّب «بولس السّادس»، لجنةُ العلاقات الدّينيّة مع اليهوديّة، التي أُلحقت بالمجلس ‏البابوي لتطوير وحدة المسيحييّن، وهي لجنة مستقلّة على المستوى التّنظيمي، تولّت مهام متابعة ‏تطوّر الحوار الدّيني مع اليهوديّة. بالإضافة، وعلى مستوى لاهوني، أي بشأن العلاقة بين اللّجنة ‏والمجلس البابوي، هدفت اللّجنة إلى تطوير الوحدة، لأنّ الفصل بين البيعة والكنيسة في الزّمن ‏الأول عُدّ بمثابة الشّرخ.‏
في السّنة نفسها لتأسيس تلك اللّجنة، نشرت لجنة الكرسي الرّسولي، بتاريخ غرّة ديسمبر ‏‏1974، أولَ وثيقة رسميّة بعنوان: «توجيهات ومقترحات لتطبيق الإعلان المجمعي نوسترا ‏آيتات»، هدفت أساسا إلى تجديد تلك الوثيقة، بقصد التّقرب من اليهوديّة لمعرفتها بالشّكل ‏التي هي عليه، والتّعبير عن التّقدير العميق من المسيحيّة، وتأكيد أهمّية مساهمة الكنيسة ‏الكاثوليكيّة في الحوار مع اليهود. فكما نقرأ في الوثيقة: «يقتضي الأمرُ من المسيحيّين، وبشكل ‏عملي، البحثَ عن فهم أفضل لمكونات التّقليد الديني اليهودي والإحاطة بالخاصّيات الرّئيسة ‏التي يعرّف بها اليهود أنفسهم في ضوء الواقع الدّيني الحالي». وعلى أساس شهادة إيمان الكنيسة ‏بيسوع المسيح، ركّزت الوثيقة على الطّبيعة الخاصّة للحوار بين الكنيسة واليهوديّة. حيث يحيل ‏النّص على الجذور اللّيتورجيّة للمسيحيّة في ظلّ اليهوديّة، كما يشير إلى فرص التّقارب في ‏مجالات التّدريس والتّعليم والتّكوين، وبالنّهاية يقترح النّص أنشطة مشتركة في المجال ‏الاجتماعي.‏
وعلى مسافة إحدى عشرة سنة من ذلك التّاريخ، نشرت لجنة الكرسي الرّسولي، في الرّابع ‏والعشرين من جوان 1985، وثيقةً ثانيةً بعنوان: «بشأن العرض الصّائب لليهود واليهوديّة في ‏التّبشير والتّعليم الصّادرين عن الكنيسة الكاثوليكيّة». كان لها توجهٌ لاهوتي، بشكل عكس ‏طبيعة العلاقة بين العهدين، القديم والجديد، وحدّد الجذور اليهوديّة للإيمان المسيحي، وصوّر ‏الشّكل الذي عُرض به اليهود في العهد الجديد. مبرزة الوثيقة ما يجمع ليتورجيا الدّيانتين، ‏خصوصا في الاحتفالات الكبرى للسّنة الليتورجيّة. وتتوقف الوثيقة باقتضاب عند علاقة ‏اليهوديّة بالمسيحيّة عبر التّاريخ. وبخصوص «أرض الآباء»، أكّدت الوثيقة أنّ «المسيحييّن ‏مدعوون لفهم هذا الارتباط الدّيني، الذي يرمي بجذوره في التّراث الكتابي، دون القيام بتفسير ‏ديني خاصّ لهذه العلاقة... وفي ما يخصّ وجود دولة إسرائيل وأبعادها السّياسية، حثّت على ‏التّعامل مع المسألة بنظرة غير دينيّة، بما يراعي مبادئ القانون الدّولي».‏
في الأثناء صدرت وثيقة ثالثة عن لجنة العلاقات الدّينية مع اليهوديّة عُرضت في 16 مارس ‏‏1998، تعلّقت بالمحرقة، وهي بعنوان: «لنتذكّر.. تأملات في المحرقة». يفصح فحوى نصّها ‏عن حكم جريء، حيث بيّنت أن نتائج ألفيْ سنة من علاقات اليهود بالمسيحيّين هي للأسف ‏سلبيّة. إذ يدعو النّص إلى استعادة الذكرى لبلورة موقف للمسيحيّين تجاه اللاّساميّة وتجاه ‏النّظامين النّازي والفاشي. تمحورت الوثيقة حول دعوة المسيحيّين لتذكّر تراجيديا المحرقة. وفي ‏رسالة بارزة ضمن فقرات الوثيقة، عبّر الحبر الأعظم «يوحنا بولس الثاني» عن أمله «في تضميد ‏جراح اللاّتفاهم، بما يحفّز الذاكرة ويؤهّلها لأداء مهامها في كنف تشييد مستقبل مشترك، لا ‏مكان فيه البتّة لظلم المحرقة المجحف».‏
الحالة اللاهوتية الخاصة للحوار اليهودي الكاثوليكي
لا شك أنّ الحوار مع اليهود هو حوارٌ متفرّدٌ بالنّسبة إلى المسيحيّين، لأنّ جذور المسيحيّة ‏موغلة في اليهوديّة، وهو ما يحدّد وحدة العلاقة بين التّقليدين. فبرغم القطيعة التّاريخية ‏والصّراعات الأليمة، تبقى الكنيسة واعية بعميق صلتها بإسرائيل. ولا يمكن في هذا السّياق أن ‏تُعدّ اليهوديّة مجرّد دين آخر؛ بل اليهود هم «إخوتنا الكبار»، كما عبّر البابا يوحنا بولس الثّاني، ‏وهم «آباء إيماننا»، كما أعرب البابا بندكتوس السادس عشر أيضا. فالمسيح كان يهوديّا، نشأ ‏في حضن التّقليد اليهودي لعصره وتشكّل ضمن ذلك الواقع الدّيني. والحواريّون الأوائل الذي ‏تحلّقوا حول المسيح نهلوا من النّبع نفسه، وحياتهم طبَعَها التّقليد اليهودي ذاته.‏
ومع مراعاة الأديان الأخرى، فإنّ الحوار مع اليهوديّة، من وجهة نظر لاهوتيّة، له معنى مغاير ‏وهو يتموضع في مكان سام. لأنّ إيمان اليهود الوارد في الكتاب المقدّس بالنّسبة إلى المسيحيّين، ‏ليس معبّرا عن دين آخر، بل هو الأسّ لدينيهما... فالحوار مع اليهوديّة يحوز لدى المسيحيّين ‏موضعا متفرّدا؛ نظرا لجذور المسيحيّة الموحدة مع اليهوديّة بما يفوق أي دين آخر. وضمن هذا ‏السّياق فالحوار اليهودي المسيحي يمكن تعريفه كونه حوارا «داخليّا في الدّين»، بالمعنى الضّيق، ‏بل ينبغي الحديث عن الحوار الموحّد أو بالأحرى «الحوار العائلي». والعهد الذي قطعه الربّ ‏لإسرائيل لا معقّب له. «ليس الله إنسانا فيكذب»(1) ، والإخلاص الدائم ‏المختار للرّب، المعبر عنه في العهود السّالفة لم يجر نسخه (2)، ‏والميثاق الجديد لا يلغي الميثاق السّابق ولكن يتمّه.‏
أهداف الحوار مع اليهوديّة
 يهدف الحوار في المقام الأول إلى تعميق المعرفة المشتركة بين اليهود والمسيحيّين. إذ لا ‏تتيسّر محبّة إلاّ من جرى التّعرف عليه بالتّدرج، ولا يمكن معرفة بعمق سوى من جرت محبّته. ‏تترافق هذه المعرفة المعمّقة دائما بغنى مشترك، يغدو من خلاله طرفا الحوار شركاء في مقصد ‏موحّد. يتحدّث الإعلان المجمعي «نوسترا آيتات» عن التّراث الرّوحي الغنيّ الذي يُستوجَب ‏اكتشافه خطوة تلو أخرى، عبر الدّراسات الكتابيّة واللاّهوتية وعبر الحوار. وبهذا المعنى ثمّة ‏هدف مهمّ، من وجهة نظر مسيحيّة، ذلك المتعلّق بإبراز الثّراء الرّوحي المختزن في اليهوديّة ‏للمسيحيّين. علاوة على ذلك، ينبغي الإشارة إلى تأويل النّصوص المقدّسة. ففي التّمهيد الذي ‏كتبه الكردينال «جوزيف راتسينغر» لوثيقة «الشعب اليهودي وأسفاره المقدسة في الكتاب ‏المقدس المسيحي»، الصادرة سنة 2001 عن اللّجنة البابويّة الكتابيّة، يوضّح بجليّ العبارة ‏احترام المسيحيّين لتفسير اليهود للعهد القديم. كما يعرب من خلال ما دوّنه «يمكن للمسيحيّين ‏تعلّم الكثير من التّفسير اليهودي للعهد القديم على مدى ألفيْ سنة؛ كما يتمنّى المسيحيّون من ‏جانبهم أن يستخلص اليهود نفعا من تطورات التّفسير المسيحي». ففي مجال التّفسير، حشدٌ ‏من الدّارسين اليهود والمسيحيّين يتعاونون في الرّاهن، مؤمنين بجدوى التّعاون المثمر، مع ‏انتمائهما إلى تراثين دينيّين مختلفين.‏
 لا ينبغي أن يبقى التّعارف المشترك في حدود المتخصّصين، بل المهم أن يشمل المؤسّسات ‏التّعليميّة الكاثوليكيّة، لا سيّما في مجال تكوين الرّهبان، وذلك بتوعيتهم بتعاليم «نوسترا ‏آيتات» وبالوثائق اللاّحقة الصّادرة عن الكرسي الرّسولي بقصد تفعيل تصريحات المجمع. في ‏الأثناء ينبغي إدراج التّغييرات الجوهريّة في علاقات المسيحيّين واليهود، الواردة في «نوسترا ‏آيتات»، ضمن اهتمامات الأجيال اللاّحقة والعمل على إشاعتها.‏
 يتمثّل هدف من أهداف الحوار اليهودي المسيحي الرّئيسة في الالتزام المشترك بتحقيق ‏العدالة والسّلام والحفاظ على الخلق وإرساء الصّلح في كافة أرجاء العالم. فمن الجليّ في الماضي ‏أن مختلف الأديان، وعلى أساس الإصرار على حيازة الحقيقة في مدلولها الضّيق، قد ساهمت في ‏تأجيج الصّراعات. والحال أنّه فقط حين تتحاور الأديان على بينة، تساهم بشكل ما في تشييد ‏السّلام، وهو ما يمكن تحقيقه على مستويات مختلفة اجتماعيّة وسياسيّة. وممّا ينتج عن ذلك ‏الحوار وعن ذلك السّلام هو الحرّية الدّينية التي تضمنها السّلطات المدنيّة، وهو ما ينعكس على ‏احترام الأقليّات الدّينية ومراعاة حقوقها. وفي الحوار اليهودي المسيحي، ثمّة أهمية لحالة ‏الجماعات المسيحيّة في دولة إسرائيل، لأنّ هناك، كما في غيرها من مناطق العالم، ثمّة أقلّية ‏مسيحيّة تجد نفسها أمام أكثريّة يهوديّة. والسّلام في الأرض المقدسة –هو حوار مفقود وهو ما ‏نصلّي من أجله على الدّوام- يلعب دورا مهمّا في الحوار بين اليهود والمسيحيّين.‏
 ثمة هدفٌ آخر مهمّ للحوار اليهودي المسيحي يتمثّل في النّضال المشترك ضدّ أي شكل ‏من أشكال الميز العرقي نحو اليهود، وضدّ أيّ شكل من أشكال اللاّساميّة، وإن لم يتمّ ‏اجتثاثه، إذ يطلّ بأشكال مختلفة ضمن عديد السّياقات. حيث يعلّمنا التّاريخ إلى أين تقود ‏تلك الأشكال من اللاّساميّة: إلى تراجيديا بشريّة على غرار «المحرقة»، التي أبادت ثلثين من ‏يهود أوروبا. ومن هذا الباب كلاّ تراثيْ الإيمان، اليهودي والمسيحي، مدعوان لليقظة الدّائمة ‏والتنبّه في المجال الاجتماعي. ولمتانة العلاقة الرّابطة بين اليهود والكاثوليك، تشعر الكنيسة ‏بواجب القيام بما في وسعها، رفقة الأصدقاء اليهود، لدفع التوجّهات اللاّسامية، وذلك إيمانا ‏بالجذور اليهودية للمسيحيّة.‏
 لا ينبغي أن يكون السّلام والعدالة مصطلحيْن مجرّدين في الحوار؛ بل ينبغي أن يكونا ‏مفعّلين بشكل عملي. إذ يوفر الفضاء الاجتماعي المشترك حقلا ثريّا للنّشاط، لأنّ كلاّ ‏الضربين من الخُلق: الأخلاق اليهوديّة والأخلاق المسيحيّة، يضمنان حوافز لمعاضدة الفقراء ‏والضّعاف والمرضى. وعلى سبيل المثال، عملت لجنة العلاقات الدّينية مع اليهوديّة في الكرسي ‏الرّسولي واللّجنة اليهوديّة للتّشاور بشأن حوار الأديان ‏‎(IJCIC) ‎‏ معا خلال العام 2004 ‏في الأرجنتين، في الفترة التي كان يمرّ فيها البلد بضائفة ماليّة، لمدّ يد العون للفقراء وفاقدي ‏المأوى ولمساعدة الأطفال الذين يفتقرون لأيّ سند لارتياد المدارس، لأجل توفير المأكل لهم. ‏فمجمل الكنائس المسيحيّة لها منظّمات إنسانيّة، شبيهة بتلك التي نجدها داخل الأوساط ‏اليهوديّة؛ يمكنهما معا التّعاون لتقليص بؤس البشريّة. تعلّمنا اليهوديّة وصية السّير في كافة سُبل ‏الرّب (3) وهو ما يقتضي تقليد صفات الألوهيّة عبر العناية بالمحتاجين ‏والمعوزين والمعذّبين (4) . يلتقي هذا المبدأ مع تعاليم المسيح حول ‏ضرورة مساعدة المحتاجين (5). إذ لا يمكن لليهود والمسيحيّين أن يرضوا ‏بالفقر الذي يرهق البشريّة ولا بالعذابات المترتبة عنه؛ ينبغي أن يعملا معا لتخطّي تلك ‏المصاعب.‏
 حين يتكاتف اليهود والمسيحيّون لترسيخ التّعاون البشري، فإنّهما يساهمان معا في إرساء ‏العدالة والسّلام في العالم. وبذلك يقدّمان شهادة على محبّة الرّب، ليس عبر الخلاف، بل عبر ‏التّعاون جنبا إلى جنب، فاليهود والمسيحيّون ينبغي أن يتكاتفوا معا من أجل عالم أفضل.‏
الهوامش
(1) سفر العدد 23 : 19
(2) الرسالة إلى مؤمني روما 9: 4
(3) سفر التثنية 11: 22
(4) التلمود البابلي، سوتاه 14أ
(5) متّى 25: 35-46