حوارات

بقلم
التحرير الإصلاح
حوار مع د.ماهر الجويني : بنية الخطاب القصصي في القرآن الكريم - مقاربة إنشائية
 (1)
«بنية الخطاب القصصي في القرآن الكريم - مقاربة إنشائيّة» هو عنوان الأطروحة التي تقدّمتم بها لنيل شهادة الدّكتوراه، فما الذي حملكم على اختيار هذا الموضوع؟ وما هي دوافع هذا البحث؟
لا شكّ في أنّ اختيارنا للموضوع قد ارتكز على عدّة معطيات أوليّة مثّلت بالنّسبة إلينا البواعث ‏الرّئيسيّة أهمّها طرافة المادّة القرآنية التي نالت حظّها الوافر في دراسات عديدة، سواء أكانت قديمة أم ‏حديثة، إن لم نقل أصلا إنّ هذه المدوّنة قد أولاها العرب القدامى كلّ عنايتهم وربطوا القرآن بجميع ‏الظّواهر الفكريّة وكسوه هالة من القداسة جعلته محور الاهتمام الفكري عند المسلمين القدامى والمحدثين.‏
ولكنّ هذه الدّراسات تكاد تنصبّ جميعا في طريقة التفسير عدا بعض الدّراسات الحديثة التي تمّت ‏في إطار أكاديمي جامعي، وهذه الدّراسة تصبّ في القالب نفسه. فهناك من اهتم بالأسلوب أو الكلمة أو ‏الجملة وهكذا... فوقع اختيارنا إذن على القصّة لأنّنا نعتقد أنّ هذه المادّة لم تأخذ حظّها الكافي في ‏الدّراسات الحديثة بحثا وتحليلا خاصّة موضوع إنشائيّة الخطاب القصصي، وقد أفدنا في هذا البحث من ‏بعض هذه الدّراسات التي استطعنا أن نصل إليها.‏
إنّ تخيّرنا لهذا البحث تسوّغه مكانة الخطاب القصصي في النصّ القرآني وما يتضمّنه من ‏مقوّمات. فالخطاب عمومًا كلام يقوله قائل يتوجّه به إلى مخاطب. وإذا نزّلناه في سياق قصصّي قلنا إنّـــه ‏كلام يحمل مضمونا قصصيّا يقصّـــه راوٍ يسوقـــه إلــى مرويّ له. وهو إلى ذلك كلام لا ينفصل في تشكّله ‏عن أدوات السّــرد النّاهضــة به إذ لا يتصــوّر كـــلام أدبــيّ لا يشتمل على قرائن تكشف عن آثـــار صاحبه ‏وآثـــــار صنعته فيه. كمـــا لا يمكن لهذا الكلام ألاّ تكون له مقاصد يقصـــد إليها المتكلّمـــون وهم يتوجّهون بها ‏إلى المخاطبين.‏
ومن أهمّ مكوّنات الخطاب القصصي عنصرا الزّمان والمكان بأقسامهما المختلفة وما يتفرّع عنهما ‏من أنماط سرديّة متنوّعة الوجوه. ومن مكوّناته أيضا طرائق الرّاوي في تشكيل قصصه، وضروب الأقوال ‏التي تقولها الشّخصيّات المتكلّمة، وزوايا النّظر التي منها تدرك بها الأشياء.‏
إنّ تعلّق همّتنا ببنية الخطاب القصصي في القرآن الكريم من خلال مقاربة إنشائيّة يعزى إلى ما ‏لمسناه في القصص القرآني من تضخّم لحضور الخطاب ومن تعاظم العناية بصياغة هذه القصص ‏وتشكيل السّرد فيها على نحو جعل جانب هذا الخطاب وقد تفنّن فيه ضروبا من التفنّن يتساوى في ‏الأهمية مع الجانب القصصي.‏
(2)
ما هي أهم الأهــداف التـــي عملتــم علــى تحقيقهــا من خلال هذا البحث؟
أهمّ الأهداف التي سعينا إلى تحقيقها هي:‏
أ – تحديــد ملامـــح الخطاب القصصي القرآنــي من خلال مقاربة إنشائيّة لبنيته بمعنى تبيّن المنطق ‏الذي تخضع إليه هذه البنية والبحث عن أدبيّة هذا الخطاب وإبراز آليات وطرق التّأليف داخله.‏
ب – ضبط مقوّمات السّرد القصصي في القرآن الكريم ومدى مطابقته أو مغايرته لمقوّمات الجنس ‏القصصي عامّة وكيفيّة مزجه للأحداث والوقائع والشّخصيّات والحوارات والصّراعات مع الموضوعات ‏الأساس التي احتواها الخطاب القرآني.‏
ج – الكشف عن دلالات الخطاب القصصي القرآني ومدى ارتباطها بالتّجربة المعاشة وكيف ‏تنعكس حضورا وفهما في ذهن المتلقّي من خلال معايشته للدّلالة القرآنية وبحثه عن تلك المعاني ‏الإنسانيّة ذات الصّبغة الكونية.‏
(3)
 ما هي الخيارات المنهجيّة التي اعتمدتموها في بناء رسالتكم من أجل تحقيق الاهداف التي ذكرتموها..؟
اعتمدنا في هذا العمل مقوّمات المنهج الإنشائي الذي يحدّد في النصّ مستويين أساسيّين هما: ‏مستوى الخبر ومستوى الخطاب. أمّا الخبر فهو الأحداث في مظهرها الوقائعي قبل أن ينظمها الرّاوي في ‏بناء ويصوغها في شكل (...) وأمّا البناء فهو التّصرّف الذي يدخله الرّاوي على نظام الأحداث عند ‏تناوله إياها بالسّرد.‏
وإذا كان اعتمادنا المنهج الإنشائي في تحليل الخطاب القصصي (‏Discours narratif‏) لدى‏‏ «جيرار جنيت» وغيره يبرّره ما وقفنا عليه في هذه النّصوص من تضخّم لصورة الخطاب، فإنّ إجراءه ‏عليها يختلف من قصّة إلى أخرى بحسب اختلاف طرائق السّرد فيها. فتناولنا الخطاب في قصّة من ‏القصص إنّما يكون من جانب ما هو بارز فيها من أنماط سرديّة ولكن لم يكن اختلاف القصص موجبا ‏لتصريف المنهج على وجوه مختلفة فحسب. بل كان داعيا أيضا إلى تغيير وجهة المنهج نفسه. فإذا ‏كانت أشكال السّرد من أهمّ ما يؤدّي إليه النّظر في الخطاب القصصي القرآني، فإنّ تضخّم الذّات ‏المتكلّمة لمّا يقتضي الاهتمام بطرائق التلفّظ، وأعمال القول بإغناء المنهج الإنشائي في تحليل الخطاب ‏ببعض مكتسبات منهج التلفّظ. وهو منهج يولي أصحابه الذّات المتكلّمة والرّائية أهمية كبيرة خاصّة في ‏النّصوص التي لها فيها حضور بارز، ونفوذ واسع لا مناص من سلطتها. 
ولقد أدّى بنا النّظر في أفعال ‏التلفّظ إلى النّظر في ما يحصل بها من إعجاز في مستوى السّرد، إذ ما من خطاب ينجز إلاّ وهو موجّه ‏إلى طرف بقصد التأثير فيه بما يحتمله من مقاصد. وعندئذ يصبح التّعامل مع الخطاب على أنّه مجال ‏يحقّق المتكلّم فيه أعمالا مختلفة الوجوه. وهكذا يكتسي هذا الخطاب بعدا تداوليّا ويتّسع نطاقه ليشمل ‏جوانب مختلفة في النّصوص.‏
(4)
 ما هي الصّعوبات التي اعترضتكم خلال القيام ببحثكم؟...
طرحت علينا طبيعة هذا العمل صعوبات شتّى سواء أكان ذلك في مستوى المادّة شكلا ومضمونا ‏أم في مستوى المنهج تنظيرا وتطبيقا.‏
إنّ دراستنا هذه هي محاولة أوليّة في كلّ جوانبها، وما نطمح إليه هو أن نضيف إلى مدوّنتنا ‏الفكريّة دماء جديدة هي في طور النّشأة والكينونة، أي أن يتمّ النّظر في القرآن بأسلوب علمي محايد في ‏ضوء معطيات علميّة تصبح شيئا فشيئا أسسا للبحث العلمي في مثل هذه النّصوص.‏
ولعلّ اختيارنا للخطاب القرآني في حدّ ذاته مخاطرة يُعدّ عقبة كأداء لما اكتسب من مفاهيم ‏عقائدية ظلّت نسغا أساسيا للفكر العربي طوال قرون عديدة ناهيك أنّ المنهج المتبع فيه ظلّ هو المنهج ‏اللّغوي الخطّي التقليدي.‏ فكان أن استبعدنا كلّ ما هو غريب عن محتوى نصّنا وجنّدنا تجنيدًا وظيفيّا كلّ ما من شأنه أن ‏يتلاءم وطبيعــة النصّ شكلا ومضمونا. 
فالأمر إذن في الاستفادة المنهجية لا في الحشــو الكمّــي والمنطلق ‏هو النصّ لا المنهج. والأولوية تسند إلى كيفية تشكّل بنى النصّ وليس إلى ثوابت تقنيات المناهج ‏اللّسانية والبنيوية.‏
(4)
كلمة الختام
إنّ التّنظير في مجال الدّراسات الأدبيّة والفنيّة التي يشي بها المتن القرآني أمر غير بسيط بالرّغم ‏من أنّه الكتاب المُجسّد للظّاهرة الجماليّة والفنيّة على حدّ سواء، إذ يجب العودة إلى هذه المرجعيّة ‏المقدّسة وتقديمها على أساس أنّها باعثة تنهض على وتيرة استدعائيّة من شأنها إخراج هذا المُعطى ‏الإلهي من التّفعيل السّطحي والمقاربات البسيطة التي ظلّ مسرحا لها ردحا من الزّمن، إلى فضاءات ‏أرحب. 
ولعلّ عجز العرب آنذاك، عن إدراك القرآن - من الوجهة الأدبيّة - بوصفه وعاء انصهرت فيه ‏الأجناس جميعها، إضافة إلى قداسته وإعجازه، هو الذي جعل منه نموذجا مفروضا، وفي ذات الوقت ‏غير قابل للتقليد. وكان من ذلك أن تداخل الجميل والنّافع، وامتزج الفنّ بالمعرفة، كما أنّ تداخل الحقول ‏جعل التّمييز بين الأدبي وغير الأدبيّ صعبا جدّا. 
وأكثر من ذلك، فإنّ بنية الخطاب القصصي في ‏القرآن الكريم قد فرضت - في المستوى التّطبيقي- تقابلا شكليّا بين الشّعر والنّثر، بما منع بروز وعي ‏بتعميق البحث بخصوص قضيّة الأجناس، وبالتّوقف عند العلاقة بين الشّكل والدّلالة.‏