في الصميم

بقلم
عمر بن سكا
أزمة المدرسة وإشكالية إعادة الإنتاج بين النظام التعليمي والمجتمع (2/2)
 3) أزمة نظام مدرسي أم أزمة مجتمع: سبل الخروج من أزمة المدرسة؟
أ‌-‏ المدرسة في أزمة:‏
أجرى «دوبي» مقابلة ‏ مع أحد الباحثين في علم الاجتماع، من خلالها حاول تقديم جواب على هذه المشكلة. أكثر من ‏ذلك أتى على مجموعة من التّحديات التي تؤثّر على النّظام التّعليمي (الفرنسي على الخصوص). حول المعنى الذي يأخذه مفهوم ‏‏«أزمة المدرسة» في المجتمع الفرنسي. كما أتى على ذكر التّحولات العميقة التي تمسّ النّظام المدرسي والأسباب الثّقافية التي تدفع ‏إلى مقاومة إصلاح هذا النّموذج‎ ‎المصمّم لنخبة اجتماعيّة في الوقت الذي تعرف فيه نسبة المتمدرسين توسّعا وتنوّعا عريضين، ‏مفسّرا أيضا مبرّرات ودواعي تتعلّق بحقيقة كون «المدرسة قد وُرِّثت وظيفة الخلاص الخاصّة بالكنيسة»، وأيضا ما يتعلّق ‏بالذّهنية الجامدة والمؤسّسات‎ ‎المتحجّرة... ‏
يقول‎ ‎في هذا الصّدد، إنّه وبدون إجراء تعليلات إبستيمولوجيّة معقّدة حول مصطلح الأزمة، يبدو واضحا أنّ هناك ‏شعورا قويّا بأزمة داخل المدرسة، ويجب البحث له عن تفسيرات تاريخيّة. فهناك نوع من الرّواية الوطنيّة خاصّة برسالة المدرسة، ‏بكيفية ما: الفرنسيّون، المؤسّسات، النّقابات، المدرّسون، الآباء...لهم الإحساس المبعثر بأنّ الأمّة والمجتمع قد صنعت من طرف ‏المدرسة. هذا الاعتقاد يهيكل شعورا مزمنا بالأزمة، وأغلب الكتابات لا تتحدّث إلاّ عن أزمة المدرسة، عن تدنّي المستوى التّعليمي، ‏عن التّلاميذ الذين لا يحترمون هيبة المدرسة، وأحيانا يظهر أنّ المدرسة تعكس أزمة المجتمع. إذن هذه هي النّتيجة التي ينبغي ‏الإعلان عنها: النّقابات، المدرّسون، الآباء،السّياسيون... يلتحقون بطقس سياسي يؤكّد دون توقّف: «المدرسة يجب أن تنقذ ‏المجتمع».‏
ب‌-‏ مظاهر وتجليات الأزمة:‏
يذكر فرانسوا دوبي ثلاثة مظاهر سلبيّة تعكس ما أسماه بأزمة المدرسة. الأول: الذين يلجون المدرسة هم تلاميذ «غير ‏مؤمنين»، بمعنى تلاميذ لا يلعبون نفس لعبة المدرسة ولا يتماهون تماما مع خطابها. ويشير إلى أنّ بعض وسائل الإعلام والاتصال ‏تعكس آلام المدرسين، العنف المدرسي، أو «تيمة متوحّشي المدرسة»، الرّهان الفعلي هنا هو حصول ما عبر عنه بــ«الانشقاق ‏التّقليدي للمؤسّسة» وتدلّ عليه عبارة: «نحن، لا نعرف إلاّ تلاميذ، الأطفال والمراهقون ليسوا مشكلتنا».‏
رغم أنّ هذا النّموذج كان مقبولا حينما كانت المدرسة انتقائيّة ومتحكّما فيها، فاليوم حينما اختلف الوضع بعد ذلك لا ‏يمكن أن تشتغل بشكل اعتيادي وطبيعي، لأنّها صارت منهكة وغارقة بسبب المشاكل الاجتماعيّة التي تطوّقها، المشكلة الكبرى هي ‏أنّ تلك الآفات الاجتماعيّة صارت اليوم في قلب المدرسة بعدما كانت خارجها في الماضي. والمثال الذي يطرح نفسه هو مسألة «المراهقة» التي دخلت لا محالة المدرسة حينما تمّ إرساء الاختلاط الجنسي والاجتماعي، هذه «الظاهرة» حملت معها العديد من ‏الاختلالات والتي لا أحد يدري ما العمل إزاء النّموذج المدرسي الكفيل بحصن التّعامل معها، وعلى أساسها أيضا لا أحد فكّر في ‏العواقب قبل السّماح لهؤلاء بولوج النّظام المدرسي. من جهة أخرى، وهو تحوّل عميق، هناك مسألة المعايير والمقاييس التي في ‏ضوئها الجميع يستفيد من خدمات التّمدرس، فقد تغيرت كلّية طبيعة التّأهيل المدرسي حيث صار يقود إلى نوع من الحتميّة في ‏التّأهيل، لكن في هذه «اللّعبة» عدد الفاشلين والخاسرين مهول جدّا، ولا شيء قُدِّم لهم من أجل انتشالهم من تلك المشكلة. في ‏الواقع حينما كان التّمدرس محدودا أغلبيّة الأشخاص كانوا يدخلون عالم الرّشد والحياة المهنيّة بدون مساعدة من التّأهيل ‏المدرسي. اليوم، وبوضوح، يتشكّل في المدرسة سوق مدرسي حقيقي.‏
‏-التّحوّل الثّالث الذي يبدو معقّدا يتمثّل في وجود أزمة في الثّقافة المدرسيّة، تلك الثّقافة المدرسيّة التي كانت تفرض ‏نفسها كصورة للكوني ضدّ الثّقافة الدّينية بكلّ مشروعيّة ممكنة حينها، اليوم صارت تلك المشروعيّة أداتية ‏‎« instrumentale »‎لا أكثر. هذه الثّقافة المدرسيّة أيضا باتت خائبة بسبب الثّقافة الشّعبيّة السّلبية التي على أساسها يعيش ‏التّلاميذ والمدرسون كذلك. في السّابق كانت للثّقافة المدرسيّة القدرة على فرض نفسها كثقافة تنتزع الأفراد إلى «المجتمع ‏الصّغير» على حدّ تعبير دوركايم. أما حاليّا فهذه الثّقافة في أزمة.‏
‎يقول «دوبي» مجيبا عن سؤال لماذا عجزت المدرسة عن حل تلك المشكلات؟: «إنّ مدرستنا تحمل سلبيّات كثيرة، الأهم ‏فيها أنّها غير مرحِّبة؛ فحينما ندرس المقارنات الدّولية نلاحظ أنّ المدرسة الفرنسيّة من منظور التّلاميذ هي مكان يشعرون فيه ‏بسوء التّعامل وعدم الاكتراث.‏ 
‏-مشكلة التّحفيز: العنصر الأساسي في أزمة المدرسة يتمثّل بالأساس في «مشكلة قدرتها على التّحفيز»، فالعديد من ‏التّلاميذ يأتون إلى المدرسة ويطرحون سؤال لماذا المدرسة؟ اليوم نحن مستعمرون بظواهر العنف المدرسي، وليس هذا هو ‏المشكل الحقيقي للمدرسة، المشكلة الحقيقية تكمن في التّهديد الذي يفرض على المدرسة والمتمثّل في عدم الاهتمام واللاّمبالاة ‏بالمدرسة أو النّظام المدرسي...النتيجة إذن هي الانقطاع، التّغيّب المرتفع ، وفي أحسن الأحوال يذهب التّلاميذ إلى ما يسميه دوبي ‏بالقدّاس المدرسي ‏messe scolaire‏ دون أن يكون لهم به إيمان صادق. وعندما تدخل في «ذاتية» المتعلّمين ستدرك إلى أيّ حدّ ‏صارت المدرسة بلا معنى عند الكثير منهم ‏. ويجب أيضا التّنبيه على الشّعور بعدم الاكتراث الذي يبعث به النّظام المدرسي دون ‏التّوقف على بعث الرّسائل السّلبيّة التي توحي وتشعرك باستمرار بأنّك لست في حال جيدة، فلو تركنا جانبا التّلاميذ النّجباء، ‏ستكون لبقيّة التّلاميذ تجربة سيّئة مع النّظام التعليمي وبشكل جدّ مبكر.‏
4) التجربة الذاتية ورهان الخروج من أزمة المدرسة:‏
أ‌-‏ مفهوم ودور التجربة الذاتية:‏
من أجل معرفة المدرسة في حقيقتها لا بدّ أن ندرس ما يقوم به التّلاميذ والأساتذة وما يصنعونه بذواتهم داخل المدرسة ‏من خلال التّفاوضات والتّنافسات والتّفاعلات التي يخوضونها داخلها، وهذا ما يفتح المجال للتّجارب ‏الذّاتية التي تعنيهم. تلك التّجارب التي تعدّ الوِحدة الأوّليّة التي يمكن من خلالها التّفكير في المدرسة وقياس ما تنتجه في ‏الواقع. ودراسة تلك التّجارب تعني دراسة الأنشطة التي عن طريقها يبني المتعلّمون أنفسهم ويحدّدون مساراتهم في نظام تعليمي ‏معين.‏
إنّ التّركيز على التّجربة الذّاتية كما طرحها «فرانسوا دوبي» تقضي بأنّ المقاربات القديمة للمدرسة لم تعد مقبولة وخاصّة ‏أمّا التّحوّلات التي عرفها واقع التّعليم والتي يمكن إجمالها في «أزمة المدرسة»، هذه الأزمة التي لخّص دوبي أبرز معالمها في العناصر ‏التّالية:‏
‏-التّغيّر الجوهري في غايات التّربية نفسها، فهناك العديد من التّطورات التي جعلت «رواد» المدرسة يشكّكون في كونها ‏فعلا من أجل خلق ذوات حرّة ومستقلة، نظرا لما يحكم المدرسة من إشراط وتوجيه.‏
‏-المدرسة اليوم -بخلاف الماضي- لم تعد تدّعي أنّها الوحيدة التي تحتكر العلم والمعرفة والثّقافة، وذلك أمام صعود ‏وسائل الإعلام والاتصال ووسائل أخرى تعمل على إنتاج المعرفة وتداولها...الخ
‏-يقول دوبي أنّ ما عمّق أزمة المدرسة هو كونها قد دخلت إلى العالم الاجتماعي بكلّ تعقيداته وتناقضاته والصّراعات ‏التي تحكمه، ممّا جعلها تحت ضغط هذا العالم المحيط بها وما يفرضه من مطالب متعدّدة كالمهْنَنَة وتلبية حاجيات سوق ‏الشّغل وغيرها.‏
‏-لقد أضحت المدرسة اليوم خاضعة بدورها لمنطق السّوق، أي العرض والطّلب، وباتت الأسر تأتي إلى المدرسة من أجل ‏البحث عن الأرباح وجني الفوائد، وهذا «السّوق» يزداد تعقيدا وصعوبة حيث تصير الشّهادات والدّبلومات الممنوحة هي المحدّد ‏الرّئيسي لوضعية الأفراد الاجتماعيّة.‏
‏- ما عمّق من أزمة المدرسة هي أنّها انفتحت على فئات عريضة وبكثافة أكبر بكثير من السّابق وخاصّة من الإناث ‏وصارت أقلّ تجانسا في مكوناتها الاجتماعيّة والعرقيّة، وممّا عمّق أزمة المدرسة أيضا هو تضاؤل سلطتها وضعف الجانب ‏التّحفيزي فيها (ظاهرة العنف المدرسي، نسب التّغيب المرتفعة، تضاؤل هيبة ومكانة المدرسة في نظر التلاميذ...الخ). لقد صارت ‏المدرسة بالفعل عرضة للمدّ الجماهيري الشّعبوي الذي يؤثّر بشكل سلبي على العلاقات البيداغوجيّة داخل المدرسة، ويشوّش ‏على أدوار الفاعلين بداخلها. وبات التّلاميذ اليوم يطالبون بأن ننظر إليهم على أساس أنهم مراهقون وشباب وليس مجرد تلاميذ ‏فقط...ذلك وغيره يوحي بالفعل بأننا أمام أزمة مدرسة.‏
ب- كيف نواجه أزمة المدرسية؟
المفروض أنّه يجب علينا أن نتصوّر عالما مدرسيّا جديدا، ونغيّر نظرتنا للمدرسة وأدوارها، ويقترح دوبي أن يكون مفهوم ‏التّجربة الذّاتية مدخلا لحلّ معضلة «أزمة المدرسة». وذلك من خلال الاعتراف بكينونة المتعلّم واستقلاليّة ذاته وأنّه حرّ في ‏خوض تلك التّجربة الذّاتية من أجل رسم مساره داخل المدرسة، وهذا يحتم أخذ وجهة نظر التّلميذ والطّالب بعين الاعتبار الذي ‏ينظر إلى التّمدرس والتّعليم كمهمّة هو من يبنيها وهو المعني الأول بها، والذي غالبا ما لا يتماهى مع القواعد المنظّمة للعلاقات ‏داخل المدرسة، بل بإعادة بنائها بطريقة إضفاء معنى خاصّ به لها. مع مراعاة أنّ الذّات لها قدرة على التّفكير والتّأمل والتّأويل ‏وخلق هوامش للحرّية.‏
أمّا عن مستويات بناء هذه التّجربة الذّاتية التي يتحدّث عنها «فرانسوا دوبي» فيمكن إجمالها في النقاط الآتية:‏
‏-تحدّث أولا عن عامل «الهبتوس» المدرسي، ذلك الاستعداد القبلي المنقول للتّلميذ عن طريق الأسرة، وبه يمنح التّلاميذ ‏معنى لدراستهم لأنّهم تربّوا في أسر قادرة على أن تمنحهم هذا المعنى. وقد لاحظ دوبي أنّ هذا النّمط من التّنشئة عرف تراجعا ‏لدى الطّبقات الوسطى، أمّا عن الطّبقات الدّنيا المهمّشة فالمدرسة عالم غريب بالنّسبة إليهم.‏
‏-المنفعة الفرديّة لفعل التّمدرس: لأنّ المدرسة في نهاية المطاف استثمار في الجهد والوقت للحصول على منافع ‏وشواهد تأهيل، والفكرة هي أنّ المدرسة أساس التّرقي والحراك الاجتماعي، وإن كان هذا الأمر اليوم لم يعد بذلك التّحفيز ‏المطلوب، بسبب البطالة وتضخّم الشّهادات الجامعيّة وضبابيّة الأفق المدرسي أمام أعين الكثير من التّلاميذ...الخ
‏- التّحفيز الفكري عبر المعرفة نفسها، بحيث ينظر التّلميذ إلى التّعلم باعتباره سعيا وراء النّضج وبناء الذّات ‏والشّخصيّة. ولابدّ حينها أن يشعر التّلميذ بلذّة المعرفة ويجد فيها أجوبة عن أسئلته المتجدّدة، وأن يخلق لديه التّحفيز على ‏المعرفة باستمرار.‏
بواسطة العناصر المذكورة آنفا يمكن أن نعرف المنطق الذي يتحكّم في التّجربة الذّاتية للمتعلّم، ويؤكّد دوبي على أنّ ‏التّلاميذ مجبرون على أن يكونوا أحرارا حتّى ولو كانت المواد المؤسّسة عليها لا تعود للتّلاميذ، مع استحضار أنّ التّجربة الذّاتية ‏لكلّ تلميذ رهينة بمتغيّرات الوضع الاجتماعي من جهة تيسير تلك التّجربة أو تعقيدها.‏
الهوامش
(1) ‎‏ ‏François Dubet, « Sortir de l’idée de crise », Entretien avec Florence Giust-Desprairies. ERES | « ‎Nouvelle revue de psychosociologie »‎‏ ‏‎,2010/1 n° 9 | pages 131 à 147‎
‏» (2)‏Notre école a évidemment de grands inconvénients. Le plus important,‎‏ ‏de mon point de vue, est qu’elle est non ‎accueillante : lorsque l’on‏ ‏étudie les comparaisons internationales qui ont au moins le mérite, même‏ ‏si les outils ‎employés sont discutables, de mettre en évidence des écarts‏ ‏mesurés significatifs, on observe que l’école française, du ‎point de vue‏ ‏des élèves, est un endroit où on se sent maltraité et méprisé. Lorsque‏ ‏j’ai réalisé un gros travail d’enquête ‎dans 7 500 collèges français, je me‏ ‏suis rendu compte qu’il était ouvertement et unanimement admis qu’un‏ ‏tiers des ‎élèves n’avaient pas leur place à l’école. Comment, dans ces‏ ‏conditions, continuer de s’étonner qu’ils mettent le feu à ‎l’école ‎
(3)‏ ‏Enfin l’élément le plus important est ce que j’appelle, en reprenant l’expression de Habermas, « la crise des ‎motivations ». Bien des élèves vont à l’école en se demandant pourquoi. Actuellement, nous sommes envahis, dans les ‎médias, comme tous les mois de février et mars, par la violence scolaire. À mon avis, la véritable menace qui pèse sur ‎l’école n’est pas la violence scolaire, mais le désintérêt scolaire. Beaucoup se demandent en effet si cela vaut vraiment ‎le coup d’aller à l’école. Le résultat,‎
C’est le décrochage matériel, physique, l’absentéisme qui atteint des taux élevés et qui a comme effet, en particulier ‎dans les premiers cycles de masse à l’université, de ne voir qu’une moitié de ceux qui s’inscrivent‏.‏
(4) Du point de vue des élèves, ce problème est très complexe. En‏ ‏effet, alors que les bonnes raisons d’aller à ‎l’école apparaissent de plus‏ ‏en plus impératives, car ne pas aller à l’école signifie dans ce système‏ ‏être perdu ‎socialement, elles sont cependant en même temps de plusen plus faibles. En 1997, lors de la reprise économique, le ‎nombre de‏ ‏lycéens a baissé, car beaucoup ont préféré aller travailler à MacDo ou‏ ‏ailleurs, plutôt que de rester à l’école ‎à ne rien faire. Le jour où les médias‏ ‏cesseront simplement de relayer de manière systématique les violences‏ ‏à l’école, ‎on se rendra compte que le premier problème, c’est le manque‏ ‏de motivation