إقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
أي مستقبل للدّينار التونسي؟
 حين نتدبّر الآية 19 من سورة الكهف في القرآن الكريم « فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا » يمكن القول أن العملة تستمدّ قيمتها مما ‏تُمَكِّن به الإنسان من اقتناء ما زكا من الطّعام ومنه كلّ ما يُلبّي حاجاته الاقتصاديّة عموما (استهلاكا ‏واستثمارا)وذلك بهدف استمراره كنوع بشري وتطوره، كما يُمكن إدراك أن فاعليّة العُملة تُستمد من ‏عنصرين أساسيين الأول وجود المدينة كفضاء له مقومات تلبية حاجات الناس ماديا كان أو ‏لامادي(افتراضي) والثاني نوعية العلاقات السائدة بين المشاركين في عمليات التبادل السّلعي والخدماتي.‏
من جهة أخرى، تعكس قيمة عملة بلد ما، مقارنة بعملات بلدان أخرى ثروات ذلك البلد واحتياطاته ‏الطّبيعيّة، أي ما له من أصول وكذلك ما لديه من احتياطيّات نقديّة والتي تعكس بدورها قدرة ذلك البلد ‏الإنتاجيّة والتّصديريّة. ‏
فالقدرات الإنتاجيّة والتّصديريّة وما يمتلكه بلد ما من أصول هما المحدّدان لقيمة عملته مقابل عملات ‏أخرى، وكلّما تراجعت تلك القدرات كلّما أثّر ذلك سلبا على قيمة العملة والعكس بالعكس.‏
وترتبط فاعليّة القدرات الإنتاجيّة والتّصديريّة بعوامل سياسيّة وأخرى عسكريّة، داخليّة وخارجيّة، ‏وكذلك بنوعيّة العلاقات الدّوليّة بين البلد وبقيّة بلدان العالم، خاصّة صاحبة العملة التي تتمّ بها مبادلاتها ‏التّجارية وتدفقاتها الماليّة، على المستوى الدّولي، مثل «اليورو» و«الدولار» بالنسبة لعملتنا الدّينار التونسي.‏
فالعوامل السّياسية والعسكريّة وكذلك «الحرب» الاقتصاديّة بآليّة المضاربة (المخاطرة بالشّراء والبيع بناء ‏على توقّع أن يحدث تقلّبات في الأسعار بهدف الحصول على فارق الأسعار) دفعت العملة التّركيّة على ‏سبيل المثال إلى حافة الهاوية، كما أنّ العقوبات الأمريكيّة المفروضة على إيران على خلفيّة «الاتفاق ‏النّووي» أدّت إلى انخفاض الرّيال الإيراني انخفاضا كبيرا.‏
وفي هذا المقال نتساءل عن مستقبل الدّينار التّونسي في ظلّ الانزلاق المتواصل الذي يشهده، والذي ما ‏فتئ يثقل كاهل التّونسي مستهلكا ومستثمرا ويعسر عليه حياته ونشاطه الاقتصادي فيها وكذلك في ظلّ ‏المتغيّرات محليّا وإقليميّا ودوليّا، وما نتج عنها من تقلبات غير مسبوقة لقيمة العملات؟
النشأة والمآلات
بعد عام من ولادة الدّينار التّونسي والذي تزامن مع إحداث البنك المركزي التونسي أواخر 1958 ‏وحسب بيانات البنك العالمي، عرف انزلاق سعر الدينار منحى تصاعديّا كما يوضح الجدول التّالي ولم تفلح ‏السّياسات النّقدية المتعاقبة في كبح انزلاقه مقابل«الدولار» ثم لاحقا مقابل «اليورو» (أي انخفاض قيمته مقابل ‏عملات التّعاملات الرئيسيّة التّونسيّة التجاريّة والماليّة) ما عدا في الفترة المتراوحة مابين عامي 2001 ‏و2011 حين تمّ خفض قيمة الدّينار بصفة إرادية بنسبة 10 %.‏
ولم يفلح الفاعلون الاقتصاديّون التّونسيّون في الاستفادة من ايجابيّات هذا الانزلاق على غرار تنافسيّة ‏الأسعار بالنّسبة للصّادرات نظرا لعدم فاعليّة القدرات الإنتاجيّة والتصديريّة التّونسيّة ولتباطؤ نمو ‏الاستثمار،ممّا جعل النّمو الاقتصادي ضعيفا وكذلك مستوى الصّادرات ماعدا بعض المنتجات الفلاحيّة. ‏كلّ ذلك نتيجة التّجاذبات السّياسيّة الحادّة والحركات المطلبيّة العمّاليّة التي عمّت جلّ القطاعات بعد ثورة ‏‏2011 وكذلك التّفجيرات التي استهدفت القطاع السّياحي وارتفاع معدّلات البطالة.‏
وقد ساهم هذا الوضع في إضعاف الثّقة في كلّ من اقتصادنا وعملتنا باستثناء الانتعاشة الطّفيفة التي ‏عرفها الدّينار مقابل«الدّولار» مع إعلان الدّستور التّونسي الجديد في عام 2014 ومحافظته على قيمته ‏أمام «اليورو» تقريبا سنة 2015 بسبب تراجع هذا الأخير. ‏
وأمام استمرار تراجع قيمة الدّينار التونسي وبالتوازي مع عدم اتخاذ سياسات إنقاذ لها من طرف ‏السّلطة النّقدية، دعا صندوق النّقد الدّولي إلى إتباع سياسة مرنة مفادها تقليص تدخّل البنك المركزي ‏التّونسي لدعم الدّينار والتّدرج به إلى وضعه في مستواه الحقيقي.‏ ومعلوم أنّه تمّ تعديل سياسة صرف الدّينار منذ بداية تسعينات القرن الماضي وذلك بخلق سوق صرف ‏في تونس متجاوزين بذلك الطّريقة التّقليدية لتصبح القيمة تحتكم إلى قاعدة العرض والطلب بين البنوك، ‏وظلّ النّظام النّقدي كذلك إلى اليوم. ‏
مستقبل الدينار التونسي
ولتلمّس ملامح مستقبل الدّينار التّونسي لابدّ من التأكيد على أنّ المحدّدات الثّلاثة التي تفسّر تقلّبات قيمة ‏أيّ عملة هي أوّلا تطوّر سعر صرف «اليورو» و«الدولار» في السّوق الدّوليّة باعتبار أنّ مبادلاتنا التّجارية ‏وخلاص ديوننا رهن هاتين العملتين وثانيا حالة السّيولة للعملة الصّعبة في سوق التّبادل الدّاخلي وثالثا ‏توقّعات المرحلة القادمة على مستوى نشاط محرّكات النّمو الاقتصادي من استهلاك واستثمار وتصدير ‏لكلّ من الفاعلين الاقتصاديّين المقيمين ببلدنا وكذلك أولئك الذين يهمّهم الاستثمار فيها من الخارج أو من ‏لهم علاقة باقتصادنا عموما أو الجهات الدّائنة لنا دوليّا كصندوق النّقد الدولي والبنك العالمي.‏
أمّا ما يخصّ المحدّد الأول فإنّ عمق معرفته تمرّ عبر معرفة سعر صرف «اليورو» بالدّولار في السّوق ‏الدّولية، إذ تميز بالتّذبذب والتّقلب من اتجاه تصاعدي إلى آخر تنازلي بعد ما عرفه من اتجاه تنازلي ‏عام 2008 وبالرّجوع إلى الخبراء، فإنّ أغلب الظنّ يتّجه إلى أنّ أسوأ مراحل «اليورو» من سنة 2015 قد ‏تبدو على مشارف الانتهاء وأنّ لذلك مؤشّرات منها أنّ العملة الموحّدة انخفضت بنسبة 5.5 % مقابل ‏الدولار الأمريكي هذا العام.‏ ويرجع الخبراء ذلك إلى استفادة «اليورو» من ضعف«الدولار» الأمريكي وتباطؤ نمو الاقتصاد الأمريكي ‏نتيجة تلاشي الدّعم من الإجراءات الماليّة وتضييق سياسة النّقد لمجلس الاحتياطي الفيديرالي.‏
‏ وكتب كبار المحلّلين في بنك ‏JP‏ ‏Morgan‏ أنّ عملة «اليورو» ستستمد دعمها ومسارها التّصحيحي من ‏توقّعات رفع البنك المركزي الأوروبي لأسعار الفائدة في أواخر العام المقبل.‏
وقد يصل «اليورو» إلى 1.11 دولار في الرّبع الأول، بإنخفاض نسبته 2.2 % من المستويات ‏الحالية، قبل أن يعود إلى 1.18 دولار بحلول نهاية العام، وفقا لبنك ‏JP Morgan‏. و كتب ‏الاستراتيجيّون بما في ذلك جون نورمان و باول ماغياسي: «سيكون أكبر تغيير في عام 2019 هو ‏تلاشي الاستثنائيّة الاقتصاديّة الأمريكيّة» الذي سيصبّ في صالح إزدهار «اليورو».‏
ويتوقّع ‏JP Morgan‏ بعد أن تعهّد البنك المركزي الأوروبي بإبقاء تكاليف الاقتراض عند مستويات ‏معقولة على الأقل خلال صيف عام 2019. أن يقوم البنك الإحتياطي الفدرالي برفع أسعار الفائدة خمس ‏مرّات حتّى نهاية عام 2019، مع رفع أسعار الفائدة إلى مستويات محدودة بعض الشّيء في أواخر العام ‏المقبل.‏ بينما من المتوقّع أن يرفع البنك المركزي الأوروبي من سعر الفائدة مرّة أو مرّتين في هذا العام، فمن ‏المرجح أن يفضّل المستثمرون عملة «اليورو» في وقت متأخّر من الدّورة الاقتصاديّة. وعلى هذا الأساس، ‏سيتفوق «اليورو» على أداء الدّولار حيث تتمتّع المنطقة بفائض في الحساب الجاري يتوقّع أن يبلغ 3.1 % من النّاتج للعام المقبل، بينما يبلغ العجز في الولايات المتحدة 2.6 % (1).‏
وما يعني اقتصادنا أنّ «اليورو» بتحسن قيمته سيؤدّي إلى مزيد انخفاض قيمة الدّينار التّونسي من جهة ‏مادامت وارداتنا أكثر من صادراتنا بمعنى آخر ما دام عجز ميزاننا التّجاري مع الاتحاد الأوروبي ‏متواصل والأسوأ أن يزداد. أمّا تراجع قيمة«الدّولار» فسيمكّننا من خفض حجم دفوعاتنا لسداد الدّيون من ‏جهة أخرى ممّا يقلل من عجز ميزان الدّفوعات لدينا.‏
ولكن توقّعات المرحلة القادمة ببلدنا محدّدة أيضا لمعرفة مستقبل الدّينار خاصّة على مستوى نشاط ‏محرّكات النّمو الاقتصادي من استهلاك واستثمار وتصدير، فهي مشجّعة خاصّة مع استطاعة اقتصادنا ‏أن يتعافى خاصّة مع حالة الاستقرار المرتقبة في البلاد بعد إفراز رئيس جديد للدّولة وبرلمان شعب ‏جديد وإن استطاع الجميع دولة ومنظمات وطنيّة أن يشيعوا مناخا عامّا من الثّقة في اقتصادنا ويجعل منه ‏جاذبا للاستثمارات الخارجيّة المباشرة وغيرها فإنّ ذلك كفيل بجعل قدراتنا الإنتاجيّة فعّالة ومستوعبة ‏لأعداد مهمّة من العاطلين عن العمل والذي من شأنه أن يقوّي من قدراتنا التّصديريّة وعندها يمكن ‏الاستفادة من ايجابيات انخفاض عملتنا و بالتالي تحسين ميزاننا التجاري وميزان الدّفوعات.‏
وفيما يخصّ المحدّد الثّالث لمعرفة مستقبل الدّينار التّونسي متمثّلا في حالة السّيولة للعملة الصّعبة في ‏سوق التّبادل الدّاخلي، فإنّ تلك هي المعضلة الكبرى أمام تفشّي الاقتصاد الموازي وكذلك عمليّات تهريب ‏العملة المرتبطين شديد الارتباط بالفساد والسّيطرة على كلاهما مرتبطة شديد الارتباط بقدرة المسؤولين ‏الجدد على عدم الوقوع في شراك الفاسدين.‏
مناخ من الاستقرار والثّقة والعمل والتّعاون ومقاومة الفساد مع وضع سياسات تخدم استراتيجية وطنية ‏للنّمو والتّنمية هي وصفة انقاذ الدّينار التونسي من الانهيار وبالتّالي انقاذ الاقتصاد ومن ورائه البلاد والله ‏الهادي الى سواء السبيل.‏
الهوامش
(1) Source : https://www.bloomberg.com/news/articles/2018-11-23/jpmorgan-sees-euro-2019-‎rebound-versus-dollar-on-u-s-slowdown