بالمناسبة

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
رؤية في إصلاح التعليم
 مقدمة
لا يمكن تصوّر نهضة علميّة في شتّى الميادين بدون تعليم جيّد. ولقد خلق الله الإنسان وركّب في طبعه الخوف من ‏المجهول، وهيّأه للصّراع الدّائم معه، فلن تستسلم البشريّة للمجهول طالما كان فيها نفس يتنفس. وأهم أسلحتها في ذلك التّعليم ‏الذي يمثّل عمليّة نقل المعارف والمهارات والخبرات النّافعة وطرق الحصول عليها والتّأكد من صحّتها من جيل إلى جيل ليحوّل ‏المجهول دوما إلى معلوم، ويستطيع التّعامل معه دون خوف بل ويستفيد من وجوده. ومع زيادة العمران وتعقّد المدن وتشابك ‏العلاقات، يصعب جدّا تصوّر وجود عمليّة تعليميّة جيّدة بدون دولة قويّة، كما يصعب جدّا وجود تعليم مستقلّ مع وجود الدّولة ‏أصلا. فوجب المواءمة بينهما، فإن استطعنا أن نجعل الدّولة تحت سيطرة الأمّة، والتي من الممكن أن تمثّل بمنظمات المجتمع ‏المدني، وجماعات الضّغط غير الحكوميّة، والأحزاب السّياسيّة، والعلماء المناضلين، حينئذ يصبح ممكنا تحرير التّعليم من هيمنة ‏الدّولة وجعله في كنف الأمّة إنفاقا ورعاية ويكون ذلك سببا في نجاحه، ومن أمثلة ذلك الجامعات البريطانيّة والأمريكيّة الحرّة ‏الأكثر نجاحا في العالم. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين‎ «فإن استفهمنا التّاريخ عن سرّ تقدم الغرب في العلوم وجدنا من بين ما نجد ‏من أسباب، استقلال التعليم عن الدولة، واحتضان مؤسّسات خاصّة للمعاهد التي صبغت النبوغ والتّفوق‎[1]‎‏. أي حث القطاع الخاص ‏ومنظمات المجتمع المدني علي المشاركة في بناء وصياغة النهضة التعليمية، وتفعيل دورها في استقلال التعليم عن أيديولوجية أي ‏حكومة تأتي إلي البلد، حيث يجب أن يكون التعليم ومواده من المتفق عليه بين كل الفرقاء السياسيين، وذلك من خلال عقد جلسات ‏حوار مجتمعي بشكل دائم وموسع وجاد وعلني أحيانا للمهتمين بالقضايا التعليمية، وألا يكون حكرا علي أحد، ويستخلص منها ‏توصيات مستمرة للتطوير. الاتفاق العام مثلا علي نشر ثقافة حب العلم والعلماء، وأنه بالعلم وحده يكون خروجنا من الأزمات، ‏والتصدي لأي محاولة للحط من أقدارالمعلمين وخصوصا تلك التي تعرض في الميديا علي سبيل الدعابة والفكاهة، لأنها تستقر في ‏الوجدان.‏
إصلاح التعليم
يبدأ إصلاح التعليم أولا في رؤوس المفكرين الأحرار المستقلّين غير المؤدلجين، وغير المرتبطين بسلطة المستبدّين، لأنّ ‏العلاقة بين عدد ونوعيّة هؤلاء المفكّرين وبين درجة الاستبداد هي علاقة عكسيّة، فإذا ما كانت السّلطة غير مستبدّة، لا تحاكم ‏النّاس على التّصورات والرّؤي فسوف نجد من المفكّرين الأحرار الكثير والكثير حتّى ولو كانوا ممّن يعمل في دولاب الدّولة ‏الحكومي، لأنّه حينئذ لا يخاف من إبداء رأيه الحرّ، فيجب على هؤلاء المفكّرين الأحرار أن يبحثوا عن كلّ طفل أو شاب لديه ‏قدرات ومهارات عقليّة أو حتّى جسدّية يمكن تنميتها من خلال العلم النّافع، ومن ثمّ حثّ مؤسّسات المجتمع المدني لتبنّي مثل هذه ‏القدرات، والعمل على تنميتها وصقلها. بل ومحاولة استقطاب بعض الذين هم في السّلطة ولديهم نصيب لا بأس به من الإحساس ‏بأهمّية التّعليم وتوجيههم لتبنّي هؤلاء، فالتّعليم الجيّد والمعارف الحديثة غالبا ما تحتاج لجهد دولة بالأساس والأفضل أن يكون جهد ‏الأمّة. لقد كان السّاسة الإسرائليّون يبحثون في المدارس الثّانوية عن اليهود المتميّزين علميّا ويوجّهونهم لدراسة العلوم الحديثة ‏خصوصا الفيزياء والرّياضيات التي لها صلة رئيسة بالعلوم العسكريّة والتي تمكّنهم من حيازة القوّة، وذلك قبل تشكّل الدّولة ‏العبريّة. وعمليّا للتّعليم ثلاثة أعمدة رئيسة هي على التّرتيب المعلمون والطلاب والأدوات التعليمية، فيجب النّظر إلى كلّ منها ‏بحسب درجته لكي يتمّ إصلاحه. وقبل ذلك على الأسرة دور عظيم لكنّي أهتم في هذا المقال بإصلاح التّعليم كمنظومة فاعلة في ‏الأمّة. ‏
إصلاح المعلم
فسد التّعليم لما أصبح حرفة من لا حرفة له، ومن أحسن من رأيت في حياتي أولئك النّفر الذين استقر في نفوسهم ووجدانهم ‏حبّ شيء ما من العلم وهم صغار فصدّوا عنه، لكنّهم حاربوا من أجله حتّى حصلوا عليه، وذلك بين المعلّمين في ذاك الزّمن الآخر ‏قليل بل نادر جدّا.  لذلك وجب إصلاح المعلّم أوّلا لأنّه رأس العمليّة التعليميّة، وهنا أقترح هذه النّقاط لإصلاح المعلّم على سبيل ‏المثال لا الحصر:
-1 تأهيله علميّا في تخصّصه الذي سيقوم بتدريسه، وعدم تحويله إلى ما يشبه البائع الجائل، أو حاطب اللّيل، الذي يعرض ‏ما في جرابه ولا يعلم قيمته الأصلية. فهناك بالفعل الكثير من المعلّمين من ليس لديه درجة فهم أفقيّة أو رأسيّة في ‏تخصّصه، فيكتفي بعرض الشّكل دون المضمون الذي لا يعلمه فعلا، فيشوّه الجيل النّاشئ من تحت يديه.‏
-2 تنمية المعلّم ثقافيّا في كلّ فروع العلم والمعرفة ليسهل عنده ربط تخصّصه بتخصّص غيره، فكلّ منّا لا يعيش في جزيرة ‏منعزلة عن الآخر، وحتى يدرك قيمة ما لديه وما لدى الآخرين  فينتفع كلّ منهما بالآخر.‏
-3 إثبات أنّه ما يزال متّصلا بالعلم بشكل دوري، فأساتذة الجامعات مثلا عندهم التّرقية - التي لو أحسن استخدامها-  لربّما ‏تضمن الحدّ الأدنى من ذلك.‏
-4 نزع الخوف من نفوس المعلّمين بإعطائهم صلاحيّات معقولة وحمايتهم عند تطبيقها من تغوّل الإدارة، خصوصا التّلويح بفقد ‏الوظيفة أو بعدم التّرقية أو ما شابه خصوصا عند إبداء آراء معيّنة.‏
-5  كفايتهم ماليّا حتّى يتفرّغوا لاستفراغ وسعهم في تعليم الطلاّب والتّفكير في إبداع طرق تعليميّة جديدة تتوافق وروح العصر، ‏وكلّ ذلك يتطلّب وقتا كبيرا يجهد فيه العقل والذّهن. ولن يتحقّق ذلك إلاّ بالمطالبة بالاستقلال المالي للمنظومة التعليميّة ككلّ ‏من خلال منظومات تشبه الوقف سابقا. ‏
إصلاح الطالب
الطّالب هو المنتج النّهائي للعمليّة التّعليميّة وبإصلاحه تتقدّم الأمم، وهو ينقسم إلى ثلاثة شرائح عمرية لكلّ منها طرقها ‏الخاصّة في الإصلاح، أوّل هذه الشّرائح هم الأطفال الصّغار الذين لا يتعدّى عمر أحدهم عشر سنوات، والشّريحة الثّانية هم ‏الشّباب حتّى اقتراب الثّامنة عشرة أي قبل التّخصّص المهني، ثمّ الأخيرة وهم طلاّب الجامعات والذين بدؤوا أول سلّم التّخصّص ‏المهني، فيتعلّم كلّ منهم مبادئ عامّة لمهنته المستقبليّة، وكي يتخرّج الطّالب وقد انتفع حقّا من تعليمه يجب مراعاة الآتي:‏
-1 تدريب الطّالب الصّغير باللّين لا بالقهر على حب العلم والمعلّم، فلا غنى عنهما أبدا، والقهر غالبا ينتج الإنسان الجبان، قيلَ ‏للإسكندر: ما بالُ تعظيمك لمؤدِّبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟ قال: لأنَ أبي سبَبُ حياتي الفانية ومؤدِّبي سببُ حياتي الباقية‎[2]‎‏‎
-2 تعليم الطّالب أن يتكلّم لغة سليمة خالية من عيوب الصّياغة والأسلوب والمعنى والنحو، بأن يهتم باللّغة الأم ابتداء، فهي وعاء ‏التّخيل والتّصور والإبداع والتّفكير والنّقد، ثمّ باللّغات الأجنبيّة التي كتبت بها مواد العلم الحديث ليواكب التطوّر فيه.‏
-3 تدريب الطّالب الصّغير على طرح أيّ تساؤل دون خوف. وأنّ السّؤال هو باب العلم الأساسي. وعدم الخوف من طرح السّؤال ‏الخطأ فضلا عن تقديم الإجابة الخطأ، فكم من محاولة خطأ كانت بمثابة البداية الحقيقة لمعرفة واسعة، فالعلم من الممكن ‏اختصاره في أنّه تاريخ الخطأ، أي معرفة الأخطاء ومحاولة تصويبها.‏
-4 تعليم الطّلاب طرح إجابات على تساؤلات من المعلّم أو من زملائهم وتعويدهم على المحاورة ثمّ المناظرة باستخدام الحجج المنطقيّة ‏وقبول النّقاش بغير تعصّب والجدال بالتّي هي أحسن.‏
-5 تعويد الطّالب على الاهتمام بكلّ شيء من حوله وتفعيل حواسه كلّها دائما، فهذا هو مبدأ الملاحظة الذي قاد الكثير من العلماء ‏إلى الاكتشافات. وبانعدام الملاحظة تنعدم الإنسانيّة.‏
-6 تنمية قدرة الطّالب في إيجاد العلاقات بين مختلف الظّواهر ومحاولة الوصول إلى القوانين التي تحكمها. ‏
-7 تنشئة الطالب على إعلاء قيمة العقل جدا في العلوم بشكل عامّ والعلوم الطبيعيّة خصوصا والرّياضيات بالأخصّ، وعدم قبول أيّ ‏نتيجة إلاّ بالبرهان السّليم على صحّتها، وإذا كان البرهان عصيّا على الفهم في هذه السّن المبكّرة ينبّه على ذلك. ومع ذلك لا ‏يقلّل من شأن الحدس والتّخمين والفطرة، فالعقل الإنساني مهما بلغ من التّطور لن يستطيع أن يبرهن على كل شيء، فأغلب ‏الظنّ أنّ نقاط البدايات ستظلّ عصيّة على البرهان في كلّ العلوم الطّبيعية والإنسانيّة، وستقبل الفطرة صحّتها فقط.‏
-8 تعويده على التّحليل والتّركيب للمسائل ولا أقصد الرّياضيّة فقط بل كلّ مسائل العلم، فربّما تكون المسائل الاجتماعيّة ‏والسّياسية أكثر تعقيدا بكثير من نظيرتها الرّياضيّة.‏
-9 تعليم الطّالب المنهج في كلّ علم وكيفيّة ضبط أصوله وحدود تطبيقه وتقاطعاته مع المناهج الأخرى ليسهل بذلك تطويره.‏
-10 إرشاد الطّالب الجامعي إلى تأصيل معرفته بكلّ شيء يعرض عليه، وتدوين ما يصل إليه من فهم أو تحليل تدوينا علميّا ‏والاحتفاظ به، وإعادة النّظر فيه دوما. وعند بروز فكرة حتى ولو بدت أنّها فكرة مجنونة في العلوم الطبيعيّة، ينبغي عدم ‏رفضها، بل ينبغي إخضاعها للطّرق العلميّة المعروفة مع الاعتراف أحيانا أنّ في بعض هذه الطّرق قصورا في المعالجة، ‏وإن كانت إلى حينها تمثّل أفضل ما أبدعه العقل البشري. ‏
-11 تعليم الطّالب الجدّية في العمل والمسؤوليّة عن نتائجه، وأنّ العلم ليس ترفا، بل هو حلّ لمشاكلنا، وعدم التّسرع في الوصول ‏إلى النّتائج دون تمحيص، مع عرض أمثلة من كلّ الثّقافات التي تعلي قيمة الجدّية في العمل والصّبر .‏
-12‏ تدريب الطّالب على العمل الجماعي، خصوصا في العصر الحديث الذي تشعّبت فيه المعارف تشعّبا يصعب على فرد واحد أن ‏يتتبّع جزئيّات علم واحد بمفرده، فضلا عن استحالة إلمامه بكلّ العلوم.‏
-13 تعويد الطّالب بالتّدريج على أصول الكتابة العلميّة لكلّ ما يختلج في نفسه، بشكل يستطيع أيّ إنسان آخر أن يتابعه فيه دون ‏لبس، ودون وجوده معه في نفس الحيز.‏
-14 تنبيه الطّلاب على أهمّية التّعلم الذّاتي والمستمر، والتّفاعلي، وعدم الوقوف عند حدود الطّرق ‏التّقليدية، فربّما يختفي الشّكل الحالي من الجامعات مثلا ويحلّ محله جامعات افتراضيّة.‏
إصلاح الأدوات
الأدوات هي غير المعلم والطّالب، بل هي المقرّرات والمبنى المكوّن من القاعات الدّراسيّة وغيرها وتجهيزاتها التي تضمن سير ‏العمليّة التّعليميّة بدون معوقات مع الرّاحة، لأنّ البقاء فيها يمتدّ لمعظم ساعات النّهار، وأماكن ممارسة الرّياضة، ومواقف ‏السّيارات، والقواعد واللّوائح المنظّمة لسير العمليّة التّعليميّة وضمان جودتها. ولإصلاح ذلك أقترح هذه النقاط:
-1 تطوير وتنقية المناهج من التّكرار والحشو الذي لا فائدة منه سوى الإرهاق وإضاعة الأوقات، خصوصا كتب الدّراسات ‏الاجتماعيّة والإنسانيّة المصبوغة صبغا فاقعا بالأيديولوجيّات، والتي توجّه النّاس باتجاه عقائد كاتبيها. هذه التّنقية ربّما ‏تؤدّي إلى اختزال عدد سنوات الدّراسة ليتخرّج الطّالب للحياة العمليّة مبكّرا وليستكمل تعليمه بنفسه تعليما ذاتيّا وتفاعليّا.‏
-2 عدم عسكرة اللّوائح بجعل الصّلاحية الكبرى في يد مدير المؤسّسة، يأمر فيطاع، فنرى مثلا آراء المجالس الفنّية مجرّد ‏توصيات، ورأي المدير هو القرار، بل يجب إحترام آراء هذه المجالس وعدم التّعسف في استخدام السّلطة. ‏
-3 الاهتمام بالمنشآت التّعليميّة وصيانتها بشكل دوري ونشر ثقافة أنّ المال العامّ أشد حرمة من المال الخاصّ.‏
-4 السّعي الجادّ وراء الجودة الحقيقيّة، لا الورقيّة التي تستهلك الطّاقات في وضع الأصباغ على الوجه القبيح لتجميله.‏
-5 حثّ المدارس والجامعات على بث نشرات علميّة قصيرة وتتبّع أفكار علميّة من بداياتها حتّى وصولها إلى غاياتها. ونشر ‏القصص العلميّة التي قادت العلماء إلى الاكتشافات «خصوصا تلك التي كانت دون قصد» وهو ما نسميه الاكتشاف ‏بالصدفة، لأنّ ذلك يدعو الطّالب إلى حبّ العلم والاهتمام برصد كلّ شيء غريب ظهر أمامه ومن حوله ومحاولة تفسيره.‏
-6 مَلْء الفضاء الافتراضي بمواد علميّة مسلّية للصّغار وجادّة للكبار في كلّ فروع العلم، ومحاولة الردّ المؤصل والمبني على ‏القواعد العلميّة الصّحيحة على الأفكار المشوّهة أو الخاطئة، وذلك من خلال إنشاء قناة على اليوتيوب لكلّ مدرسة.‏
المراجع
‎[1]‎‏ عبد السلام ياسين، «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين» ص 139، مطبوعات الأفق – الدار البيضاء، المغرب، 1994م.‏
‎[2]‎‏ إبراهيم بن علي الأنصاري، أبو إسحاق الحُصري القيرواني، «زهر الآداب وثمر الألباب»، المطبعة الرحمانية بمصر‏‎