فواصل

بقلم
د.ناجي حجلاوي
المطالب العالية (6): الخوارق
 يقال تخرّق الفتى في الكرم إذا توسّع فيه، والخرقاء من الغنم الّتي يكون في أذنها خرق وهو الممرّ في الأرض عرضا على غير طريق، وسمّي الثّور الوحشي مخراقا لقطعه البلاد البعيدة، والتّخرّق من الكذب والاختلاق بغير علم، والنّاقة الخرقاء هي الّتي لا تتعهّد مواضع قوائمها والخرق هو الدّهش والبقاء في حيرة من همّ أو شدّة، والأخرق هو الأحمق والحماقة والحمق فساد الرّأي وقلّة العقل[1].
فجماع هذا التّعريف اللّغوي لمفهوم الخرق حينئذ هو التّوسّع اللاّمحدود في المعنى إلى حدّ التّيه والضّياع والادّعاء الكاذب وانعدام العلم ليحلّ محلّه الاندهاش والذّهول بفقدان الأرضيّة الصُّلبة الّتي يقع الاعتماد عليها والانطلاق منها، تلك من أهمّ خصائص الخوارق الّتي توغل في العجيب سعيا إلى تحطيم حدود المنطق والمعقول. ومهمّة هذا العنصر هي تتبّع ظلال هذه المعاني في تفكير المفسّرين.
لقد احتاج الأنبياء، على اختلاف رسالاتهم، إلى ما يؤيّد ما جاؤوا به، وهذا التّأييد غالبا ما كان مادّيا يقدّم المحسوس على المعقول وهو ينبع من خارج الرّسالة الّتي تقوم في جوهرها على عقيدة التّوحيد والتّجريد. والتّحدّي إنّما يكون في معجزة هي بمثابة الحجّة، وحتّى تكون هذه الجحّة بالغة ذات قدرة إقناعيّة دامغة تُبكت المتحدّين وتُفحم المعارضين وجب أن تكون من جنس ما نبغ فيه القوم، فقد تحدّى موسى السّحرة بعصاه الّتي تحوّلت ثعبانا تلقّف جميع الحيّات وأكلها، وتفوّق عيسى في الطّبّ فأبرأ الأعمى والأكمه والأبرص وأحيا الميّت.
ولم تندّ معجزة الرّسول محمّد عن هذا المبدإ، إذ كانت كلاما فصيحا يُقرأ ويُسمع، لأنّ القوم عُرفوا بالملاسنة والبلاغة، وهذه المعجزة كانت من نوع خاصّ لأنّها كانت جزءا من الثّقافة السّائدة ومكوّنا من مكوّناتها، فهي معجزة داخليّة معنويّة مدلولها من جنس دليلها[2]، ومعنى ذلك أنّ القرآن هو التّصديق والنّبوّة معا، وهي معجزة تقدّم المعقول على المحسوس، وهي بذلك قابلة للتجدّد والامتداد في الزّمن عبر فهم نصوصها المستجدّة في ضوء ما يستحدثه العقل البشريّ من معارف طالما كان هو المعنيّ بخطابها، يقول ابن كثير في معرض تفسيره للآية الأولى من سورة الكهف 18 منوّها بالكتاب المعجزة الّذي أُنزل على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم :«إنّه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظّلمات إلى النّور حيث جعله كتابا مستقيما لا اعواج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بيّنا جليّا نذيرا للكافرين، بشيرا للمؤمنين »[3]. وهذه المعجزة على خلاف المعجزات النّبويّة الّتي سبقتها، إذ كان الإعجاز فيها ماديّا خارقا للعادة الجارية محدودا بالآنيّة الّتي يظهر فيها[4]، فالتّصديق بالمعجزة في هذه الحالة يكون مفصولا عن محتوى النّبوءة لأنّهما متغايرتان من جهة النّوع.
إلاّ أنّ حركة التّفسير ولا سيّما المتأخّرة منها بدلا من أن تعمّق هذه الرّؤية وتسير في الاتّجاه الّذي يُقرّب الفجوة بين النّصّ والواقع، فإنّها سارت في طريق الولع بكلّ ما هو عجيب يتجاوز حدود العقل، فتحوّلت المعجزة من مستوى الحجّة الدّاعمة للرّسالة إلى نسق في الفهم أو قل استحالت إلى نمط من التّفكير يقبل بها ويقرّ بحدوثها في أحايين مطّردة، تتجلّى مظاهرها في التّفسير كلّما سمحت الآيات بذلك إذ صار المفسّر لا يرى حرجا في ذكر الخوارق وما يتجاوز حدود المنطق من أحوال وأقوال وأعمال.
إنّ المعجزات الماديّة الّتي تخرق القوانين الطّبيعيّة قد وقعت تغذيتها بالجدل الدّائر بين المسلمين ومن خالفهم الاعتقاد دعما لإثبات المعجزة المحمّديّة، وقد كانت المعجزات ذات الطّابع المادّي منتشرة لدى اليهود والنّصارى ولم يستطع المسلمون أن يتخلّصوا بسهولة من هذا الإرث ولم يتقبّلوا أن يكون القرآن وحده معجزة النّبيّ الوحيدة وطفقوا يضخّمون معجزاته الأخرى كتخلّل الماء من بين أصابعه حتّى يروى منه أربعمائة رجل وإطعام الجماعة الكثيرة من يسير الطّعام، وهي في الحقيقة معجزات مستوحاة من الدّيانات الكتابيّة الأخرى[5].
وفي فضاء التّفسير لهذه المعجزة المتمثّلة في القرآن انبرى المفسّرون يكشفون عن خبايا مضامينها ويسعون إلى تبيان معانيها عبر القصص المستخدمة في إخراج أسباب النّزول والموظّفة في النّاسخ والمنسوخ، فكان موضوعَا أسباب النّزول والنّسخ مدخلين مناسبين لحبْك الحكايات المطوّلة والمشوّقة بتفاصيلها الّتي تُغرق القارئ أحيانا في بحار من التّخيّل والابتعاد عن أرض الواقع، ولا سيّما أنّ طبيعة هذا النّصّ الإشاريّة والرّمزيّة تسمح تماما بالإضافة والحبكة والإخراج والتّفنّن في إضفاء عناصر الزّينة على ما ترويه من القصص المستفادة من أهل الكتاب الّذين كثيرا ما كان يُستعان بهم في استبانة أخبار الأوّلين وما تحتوي عليه من عجائب لمعرفتهم بالتّوراة والإنجيل[6]. وهذه اللّغة تجنح في كثير من الأحيان إلى مسايرة السّنن الثّقافيّة والأعراف اللّغويّة لغاية تواصليّة، إذ خوطب الرّعيل الأوّل من المسلمين بما يتخاطبون به ليفهموا[7].
إنّ ولع ابن جرير بإيراد الرّوايات، وذكر الأخبار المتعدّدة والمتنوّعة، إلى حدّ الاختلاف والتّناقض فيما بينها يكشف عن السّلطة الّتي تمارسها الرّواية بوصفها منهجا في الكتابة سواء تعلّق الأمر بذكر أسباب النّزول أو تعديد الطّرائق التّأويليّة لكلّ آية من آيات القرآن، وهذه السّلطة الضّاغطة على ابن جرير جعلته ينزع إلى التّجميع فيورد ما يوافق رأيه وما لا يوافق إن تفسيرا أو تأويلا، ولا يرى حرجا في أن يورد الرّأي وضدّه. وفي أحسن الأحوال، ينحاز إلى رأي من الآراء الّتي يذكر فيرجّحه مشيرا إلى أنّه الصّواب أو الأكثر رجحانا أو الموافق لما يراه صوابا، حتّى « صار العالِم المتأخّر مجرّد جامع للرّوايات، وحين يحاول الاجتهاد فإنّما ليضيف إلى هذه الرّوايات رواية من عنده»[8].
ولئن بدت هذه الطّريقة في التّأليف حريصة على الموضوعيّة والحياديّة في عرضها لمختلف الرّوايات السّابقة لها وإيراد عديد الآراء ما يوافق منها رأي المؤلّف وما يخالفه، فإنّ هذا الإجراء يتضمّن موقفا، وإن ضمنيّا، يتمثّل في أنّ استدعاء الآراء بتفصيلاتها سندا ومتنا ومجرّد الاستشهاد بها يدلّ بمقدار غير قليل على أنّها جزء من عقل ناقِلها وكاتِبها، يُقرّ بها، ويعترف بما فيها من وجهة نظر، كما أنّها قد أضحت جزءا من كتابه، ولا سيّما أنّ الطّبري لم يتّخذ منها موقفا نقديّا صريحا يكشف عن أثرها السّلبيّ في تغذية الأوهام التّي تحول دون إدراك جواهر الأشياء وحقائقها، ولعلّ هذه النّزعة التّجميعيّة لدى ابن جرير هي الّتي كانت سببا مباشرا في جمع الغثّ والسّمين، ما يقبله العقل وما لا يقبله، فهي كتابة من قَبيل جمع البيض في السلّة الواحدة، يقول عدنان زرزور معلّقا على منهج الطّبري في الكتابة:«إنّه عُني بلمّ شعث التّفسير بالمأثور من جميع الرّوايات والطّرق، وأثبته بإسناده إلى أصحابه»[9]، وهذا المنهج في الكتابة يجعل الدّارس أمام إشكال يتمثّل في التّساؤل عن المنتج الحقيقي للمؤلَّف وإلى من ينتسب محتواه لأنّه في الحقيقة إنتاج جماعيّ يتعدّد فيه الرّوّاة على اختلاف أزمنتهم، فمن العسير حصره في فرد بعينه إلاّ باعتباره مدوّنا لجملة من الآراء ومنسّقا بينها وهو ما يحيل على أنّ المعرفة منتوج جماعيّ ينمو عبر التّراكم وليس عملا فرديّا[10].
وعلى النّقيض من هذا المنهج التّجميعي في الكتابة لا يلفي الدّارس في تفسير أبي علي الجبّائي، بصفة تكاد تكون كلّيّة، أثرا للإسناد والرّوائيّة رغم انطباع السّنّة الثّقافيّة بهذا التّقليد، فبدا فهم الآيات نابعا منه عائدا إليه، منه يرد وإليه يصدر فانطبق عليه ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد من أنّ « المعتزلة حاولوا جاهدين ربط النّصّ بالفهم الإنساني وتقريب الوحي من قدرة الإنسان على الشّرح والتّحليل»[11]. ويتجلّى التّقليل من شأن الأساطير والحكايات المضخَّمة الّتي يغذّيها الخيال فيجعلها فوق طاقة البشر فعلا وإنجازا وأكبر من ذهنه تصوّرا وهي الخوارق الّتي تطلق العنان للتّخيّل فلا يعرف له حدّ. ولا غرو في أن يقف أبو عليّ الجبّائي من الخوارق موقف النّاقد المحترس وهو المعروف بإعمال عقله في المرويّات واستخدام نظره في الأخبار مواصلة للمنهج الّذي أرساه من قبلُ إبراهيم النّظّام. وآية ذلك موقف أبي عليّ الجبّائي من بعض شعبذات الحلاّج، إذ أنّه حضر متعمّدا بعض عروضه المجسّدة لشطحاته وإحراجه إحراجا شديدا، فقد قيل إنّ أبا عليّ الجبّائي قد حُدِّث بافتتان النّاس في الأهواز وكورها بالحلاّج وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة في غير حينها والدّراهم التّي سمّاها دراهم القدرة، فقال الجبّائي لهم: هذه الأشياء المحفوظة في منازل يمكن الحيل فيها ولكن ادخلوه بيتا من بيوتكم لا في منزله وكلّفوه أن يُخرج منها خرزتين سوداوين فإن فعَل فصدّقوه فبلغ الحلاّجَ قوله وأنّ قوما قد عملوا على ذلك فخرج من الأهواز[12].
إنّ هذا التّقابل الحاصل بين نمطين من الكتابة، أحدهما يعتمد النّظر والآخر يتوخّى الأثر، أنتج بينهما علاقة متوتّرة دفعًا وجذبًا حدت بأهل الرّواية إلى نعت المعتمدين على العقل بكونهم أهل بدع يفسّرون كلام الله بأهوائهم متّبعين آراءهم المذمومة بحسب عقائدهم وأصول مذاهبهم متناسين أنّ الرّأي إنّما هو ثمرة إعمال العقل وحصيلة مجهود فكري يُبذل عبر التّفهّم والتّدبّر.
وهكذا تمثّل الخوارق والقصص العجيبة حلقة أساسيّة وعصبا حيويّا في تفسير الطّبري، حتّى وإن ذكرها ابن جرير على سبيل التّوسّع والإثراء والمقارنة، وضمن هذه الرّوايات يوجد الغثّ والسّمين من الأفكار والمعاني الّتي تتجاوز حدود المنطق بما تضمّنته من شطحات خياليّة وشحنات أسطوريّة، وهي من نسيج المفسّر وخياله يملأ بها ما اتّسع من دوائر اللّغة القرآنيّة الرّمزيّة القائمة على التّجريد والتّعميم، ممّا جعلها تنخرط فيما يسمّى بظنيّ الدّلالة أو المتشابه ممّا حدا ببعض المتكلّمين إلى اعتبار أنّ النّصوص القطعيّة نادرة ضمن ما وقع توارثه.
إنّ اللّغة من شأنها أن تحيل بالضّرورة على السّائد من المفاهيم والتّصّورات في الثّقافة المنتجة للتّفسير القرآني، فهي تضطلع بتحويل الواقع الموضوعي إلى محمولات صوتيّة أو كتابيّة، وذلك ما يفسّر انخراط عديد الرّوايات المحتوية على تصوّرات تتجاوز حدود العقل في ثنايا التّفسير القائم على الأثر، وحتّى لا يبقى الكلام حول مسألة الخوارق نظريّا فإنّه يحسن بنا أن نستعرض جملة من الأمثلة الحكائيّة الدّالّة على هذا المنحى في التّفكير والمنزع في الكتابة ولعلّ أجدر ما نبتدئ به هو ما حام حول القصّة الأولى، قصّة آدم وحوّاء من ضروب التّصوّر والتّخيّل، فممّا أورد وهب بن منبّه نستعرض روايته التّالية المتمثّلة في أنّه لماّ أسكن الله آدم وذرّيته، أو زوجته الجنّة ونهاه عن أكل الشّجرة وكانت شجرة غصونها متشعّبة بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلودهم وهي الثّمرة الّتي نهى الله آدم عنها وزوجته، فلمّا أراد إبليس أن يستزلّهما دخل في جوف حيّة وكانت للحيّة أربع قوائم كأنّها بختيّة من أحسن دابّة خلقها الله. فلمّا دخلت الحيّة الجنّة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشّجرة الّتي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حوّاء، فقال: انظري إلى هذه الشّجرة ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها، فأخذت حوّاء فأكلت منها، ثمّ ذهبت بها إلى آدم، فقالت: اُنظر إلى هذه الشّجرة ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فأكل منها آدم فبدت لهما سوءاتهما، فدخل آدم في جوف الشّجرة، فناداه ربّه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هذا يا ربُّ، قال: ألا تخرج، قال: أستحي منك يا ربّ، قال: ملعونة الأرض الّتي خُلقت منها لعنة يتحوّل ثمرها شوكا، قال: ولم يكن في الجنّة ولا في الأرض شجرة كان أفضل من الطّلح والسّدر، ثمّ قال: يا حوّاء أنتِ الّتي غررت عبدا فإنّك لا تحملين حملا إلاّ حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارا، وقال للحيّة: أنت الّتي دخل الملعون في جوفك حتّى غرّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تتحوّل قوائمك في بطنكِ، ولا يكن لكِ رزق إلاّ التّراب، أنت عدوّة بني آدم وهم أعداؤكِ حيث لقيتِ أحدا منهم أخذتِ بعقبه وحيث لقيك شدخ رأسكِ، قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء[13]، والمتأمّل فيما ورد ثِني العهد القديم[14] يلفي تشابها يكاد يكون حرفيّا بيـن الرّوايتين. ولا غرو في ذلك، فالرّاوي الّذي قصّ الحكاية في تفسير الطّبري هو وهب بن منبّه بن كامل بن سيج أبو عبد الله الصّنعاني، ويقال له الذّماري نسبة لذمار في اليمن. وكان هذا الرّاوي من أبناء فارس، أصلهم من خرسان من هراة، عليما بالكتابة والكتب، فبدا بالنّسبة إلى محاوريه مطّلعا على أخبار الأوّلين خبيرا بما ورد فيها ودارسا للكتب وهو على معرفة قبْليّة بكونه يخاطب أميّين حديثي العهد بالكتاب، تتفاوت درايتهم بالكتابة وتتضاءل إذا ما قيست بمعرفة أهل الكتاب بها، فقد « قامت الإسرائيليّات في الخطاب الدّيني العربي الإسلامي مقابلا للأمّيّة، كانت بنت الكتاب، فقامت في وجه اللاّكتاب»[15]. وقد بدا ولع هؤلاء المتلقّين الشّديد ورغبتهم المتزايدة في كنه الدّقيق من الأمور المغيوبة والغريبة، في سؤالهم إيّاه عمّا تأكل الملائكة ليملؤوا به فراغا دلاليّا في أذهانهم فاحتاجوا إلى إشباع هذه الرّغبة بمضامين قصصيّة شديدة التّفصيل لا تخلو من خوارق تغذّي المخيال أكثر ممّا تقارب الحقائق. 
وعموما فإنّ مساءلة أهل الكتاب والأخذ عنهم إنّما ينهضان على مرتكزات ثلاثة: المرتكز الأوّل صحّة الرّواية، والثّاني موافقة ما يؤخذ عنهم للشّريعة، والثّالث طبيعة الموضوع المنقول إن كان عقديّا أو تشريعيّا[16]، إلاّ أنّ الخطر فـي هذه المسألة هو أن تسير هذه النّزعة القصصيّة في شعاب مضادّة لمقاصد الملفوظ القرآني وتسوق المفسّر إلى مناقضة الآية من حيث شعر أم لم يشعر، فالخطاب القرآني صريح في تسويته بين آدم وحوّاء انطلاقا من الضّمير والأفعال الّتي تحمّلهما المسؤوليّة أمرا ونهيا[17]، وهذا المعنى القائم على التّسوية والنّديّة بين آدم وحوّاء يضيع في القصّتيْن إن في التّوراة أو في تفسير الطّبري، ليورّط حوّاء في سرعة استجابتها للخطيئة ثمّ في غوايتها لآدم، ومن ثمّة تُعمَّق النّظرة الدّونيّة للمرأة ويُشَرْعَن استغلالها باسم الدّين، فيكون التّفسير حجابا للخطاب القرآني وطمسا لمعانيه بدلا من توضيحه.
وبعيدا عن هذا المنزع القصصي يستنبط أبو عليّ الجبّائي من الآية ذاتها أنّ الأنبياء ومنهم آدم لا يجوز عليهم ارتكاب الكفر والكبيرة زمن النّبوءة، أمّا قبل ذلك فجائز[18]، ممّا يكشف أنّ ذهن أبي عليّ الجبّائي يشتغل بطريقة تُنسّب الأمور، فيفرّق في مستوى عمر النّبيّ بين فترتين: ما قبل البعثة، ويكون فيها النّبيء شخصا عاديّا يجري عليه ما يجري على بقيّة النّاس فيما يتساوى معهم من الأحوال والأقوال والأفعال، وفترة يتمّ فيها اصطفاؤه فيتميّز فيها بما شمله من الرّعاية الإلهيّة المخصوصة.
ولقد اختلف أهل العلم والتّفسير في تحديد المعنى المقصود من الخطاب الوارد في الآية 176 من سورة الأعراف 7 « الّذِي أَتَاهُ الله آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ». وفي هذا الإطار يورد ابن جرير قصّة طريفة مرويّة عن محمّد بن عبد الأعلى عن المعتمر عن أبيه عن سيّار أنّه كان ثمّة رجل يقال له بلعم بن باعور أوتي النّبوءة والدّعوة المستجابة، ولمّا قدم موسى ومعه بنو إسرائيل يريدون أرض الشّام حيث كان بلعم، ذُعر النّاس ذعرا شديدا وهرعوا إليه طالبين منه أن يدعُوَ ربّه على الغازين ليستريحوا من البلاء الّذي يداهمهم، فشاور بلعم ربّه في الأمر فلم يأذن له لأنّ نبيّه موسى ضِمْنهم، فأخبر قومه بذلك، ولكنّهم عاودوه فاستجاب لهم ودعا ربّه على موسى ومن معه، إلاّ أنّ الدّعاء كان يجري على لسانه ضدّ قومه بدلا من أن يكون ضدّ موسى وأصحابه، فآخذه القوم واحتجّوا عليه، فقال: إنّ لساني لا يجري إلاّ على هذا الشّكل وبناء عليه فإنّي سأدلّكم على حيلة يكون فيها هلاكهم. إنّ الله يبغض الزّناء وأنّهم إن ارتكبوه هلكوا وذلك ما نرجوه، فاخرجوا نساءكم فخرجن متزيّنات متآمرات على موسى، إلاّ أنّه استعصم، ووقع أحد جنوده في الخطيئة، فأنزل الله على بني إسرائيل الطّاعون، فمات منهم سبعون ألفا وقيل عشرون، وركب بلعم حمارة له حتّى إذا أتى المعلوليّة أو جبل حسّان الذّي يُطلعه على عسكر بني إسرائيل جعل يضربها ولا تتقدّم وقامت عليه، وقالت: علام تضربني أما ترى هذا الذّي بين يديك؟ فإذا الشّيطان بين يديْه فنزل فسجد له[19]. 
وهكذا تتمّ المطابقة بين مغزى الحكاية وما تشير إليه الآية، وعلى ما انتهت إليه القصّة يتحقّق انسلاخ البطل من الآيات الّتي أوتيها من الله بمقتضى اتّباعه لخطوات الشّيطان والسّجود له فكانت النّهاية المأساويّة متمثّلة في أَنّه أضحى من الغاوين، وأمّا ما تعلّق من كلام الحمير فلم يأت به نصّ من القرآن ولا من الحديث وحتّى عجائب القصص الّتي تدور حول الحمير في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدّميري لم تنصّ على أكثر ممّا يُحدثه الحمار من النّهيق وما يصدره من أصوات[20].
وليس هذا هو الموطن الوحيد الّذي تكلّمتْ فيه البهائم ثني تفسير الطّبري بل إنّ قوم النّبيّ صالح لمّا خالفوه وعقروا النّاقة ندموا وقالوا: عليكم الفصيل، فصعد الفصيل القارّة وهو الجبل حتّى إذا كان اليوم الموعود وهو الثّالث كما حدّده النّبيّ صالح استقبل القبلة وقال: يا ربّي أمّي يا ربّي أمّي ثلاثا، وعند ذلك أُرسلت الصّيحة وحلّ العذاب وكان ابن عبّاس يقول: لو صعدتم القارّة لرأيتم عظام الفصيل[21]. وهكذا يتحوّل الحيوان إلى كائن مُتماه مع الإنسان مثله يتكلّم ويفكّر ويناقش، ممّا يدلّ على إقامة المفسّر لتواصل بينهما عن طريق التّحويل وهما في الحقيقة لا يتواصلان[22].
إنّ الولع بالقصص الغريبة طبيعة ضاربة في الإنسان لسهولة مأخذها وطرافة أحداثها وعدم تطلّبها لمجهود ذهنيّ كبير في إصابتها، حتّى غدت سمةً تلاحق السّنّة الثّقافيّة كي تستسيغ كلام الحيوان. وقد شقّت هذه الظّاهرة تراث العديد من الفرق على اختلاف مشاربها العقديّة، ففي التّراث الشّيعي يورد الكليني ما يلي: « إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد ذكر: إنّ أوّل شيء من الدّواب توفّي، عفير ساعةَ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله قطع خطامه ثـمّ مرّ يركض حتّى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها فكانت قبره. وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ ذلك الحمار كلّم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمّي إنّ أبي حدّثني، عن أبيه، عن جدّه، عن أبيه أنّه كان مع نوح في السّفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثمّ قال: يخرج من صُلب هذا الحمار حمار يركبه سيّد النّبيّين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار »[23].
وإذ لم يتضمّن تفسير الجبّائي هذه التّفاصيل ولا أخبار الفصيل فإنّه يرجع الصّيحة المشار إليها في الآية « وَأَخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ»[24] يرجعها إلى حدوث صوت في فم حيوان وحلقه[25]. وأمّا الزّمخشري، باعتباره معتزليّا، فلم يتعرّض في كشّافه إلى نطق الفصيل وقيله ممّا يحيل على أنّ هذه القصص هي من وضع الإخباريّين ومن إضافة الرّوّاة لإضفاء عناصر التّشويق على ما تجود به مخيّلتهم من حـكايات[26]، في حين أنّ النّصّ القرآنـي صريح في الإشارة إلـى أنّ القوم عقروا النّاقة دون غيرها فأصبحوا نادمين[27].
 والملاحظة الّتي يتوجّب إبداؤها في هذا المجال هي أنّ الدّارس يتعيّن عليه أن يفرّق بين مستويين من نطق الحيوان الأوّل مستوى الإعجاز مثلما تكلّم الهدهد ونطق النّمل الّلذيْن أيّد الله بكلامهما نبوءة سليمان وحكمته. وأمّا المستوى الثّاني فيتمثّل في قصص مضافة للقيل القرآني، هي من نسج المفسّرين تلقّفوها من أفواه المحدّثين والإخباريّين ولم يصرّح بها القرآن لا جملة ولا تفصيلا، ولربّما أشار إليها مجرّد إشارة عامّة، ومن أمثال هذا النّسيج المضاف اعتبار الطّبري أنّ بنوح أنفسا عشرة[28].
وقد وجد الخيال متّسعا ومجالا حيويّا في تأليف قصّة يأجوج ومأجوج بمختلف فصولها فجاد بأوصاف تخرج عن حدود المنطق وتتجاوز المعقول استنادا إلى الرّاوي ذاته وهو وهب بن منبّه اليماني ذو الاطّلاع الواسع على الأخبار القديمة والعلم الغزير بالإسرائيليّات وصحف أهل الكتاب، فذو القرنين قد وجدهم على مقدار واحد ذكرا وأنثى يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرّجل المربوع لهم مخالب في مواضع الأظفار وأضراس كأضراس السّباع وأحناك كأحناك الإبل قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل، وهم هلب لهم من الشَّعر في أجسادهم ما يواريهم، ولكلّ واحد منهم أذنان عظيمتان إحداها وبرة ظهرها وبطنها تسعانه، إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، ويصيّف في أحداهما ويشتّي في الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلاّ وقد عرف أجله الّذي يموت فيه ومنقطع عمره وذلك أنّه لا يموت ميت من ذكورهم حتّى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت أنثى حتّى يخرج من رحمها ألف ولد، وهم يرزقون التّنّين أيّام الرّبيع ويستمطرونه إذا تحيّنوه، فيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فيأكلونه عامهم كلّه إلى مثله من العام القابل، فيغنيهم عن كثرتهم ونمائهم فإذا أمطروا أخصبوا وعاشوا وسمنوا ورؤي أثره عليهم فدرّت عليهم الإناث وشبقت منهم الرّجال الذّكور وإذا أخطأهم هزلوا وجفرت الذّكور وحالت الإناث وتبيّن ذلك عليهم وهم يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتفاسدون حيث التقوا تفاسد البهائم[29].
 وقد ورد فـي العهد القديم ذكر هؤلاء الأقوام، ففي كتاب التّكوين من العهد القديم[30]، ما نصّه:« وَهَذِهِ مَوَالِيدُ بَنِي نُوحٍ، سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثٌ، ووُلِدَ لَهُمْ بَنُونَ بَعْدَ الطُّوفَانِ، بَنُو يَافِثٍ جُومَرُ وَمَاجُوجَ وَمَادَاي وَيَاوُانَ وَتُوبَالَ وَمَاشِك وَتِيراس ». 
وفي كتاب حزقيال[31] حيث يرد ذكرهم أيضا: « وَكَانَ إِلَيَّ كَلامُ الرَّبِ قَائِلاً: يَا ابْنَ آدَمٍ اِجْعَلْ وَجْهَكَ عَلَى جَوْجٍ أَرْضِ مَاجُوجَ رَئِيسِ رَوْشٍ مَاشِكَ وَتُوبَالَ وَتَنَبَّأْ عَلَيْهِ، وَقُُلْ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ. هَا أَنَا أَنْقَلِبُ عَلَيْكَ يَاجُوجُ رَئِيسُ رَوْشٍ مَاشِكٍ وَتُوبَالٍ، وَأَقْهَرُكَ وَأَضَعُ شَكَائِمَ فِي فَكَّيْكَ وَأَطْرُدُكَ أَنْتَ وَكُلُّ جَيْشِكَ خَيْلاً وَفُرْسَاناً كُلُّهُمْ لاَبِسِينَ أَفْخَرَ لِبَاسٍ جَمَاعَةً عَظِيمَةً مَعَ أَتْرَاسٍٍ وَمَجَانَّ كُلُّهُمْ مُمْسِكِينَ السِّيُوفَ، فَارِسٌ وَكُوشٌ وَفُوطٌ مَعَهُمْ كُلُّهُمْ بِمَجَنٍ وَخَوْذَةٍ، وَجُومَرَ وَكُلَّ جُيُوشِهِ وَبَيْتَ تُوجَرْمَهُ مِنْ أَقَاصِي الشِّمَالِ مَعَ كُلِّ جَيْشِهِ شُعُوباً كَثِيرِينَ مَعَكَ». 
كما ورد ذكر ياجوج وماجوج في كتاب الرّؤيا من العهد الجديد[32]، نجد ما يلي «ثُمَّ مَتَى تَمَّتِ الأَلْفُ سَنَةٍ يُطْلَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ سِجْنِهِ. فَيَخْرُجُ لِيُضَلِّلَ الأُمَمَ فِي زَوَايَا الأَرْضِ الأَرْبَعِ جُوجَ وَمَاجُوجَ وَيَجْمَعَهُمْ لِلْحَرْبِ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا مِثْلُ رَمْلِ البَحْرِ». وأمّا أبو عليّ الجبّائي فلم يزد في هذا المجال على القول:«  إنّ ياجوج وماجوج قبيلان من ولد آدم وأنّهما من ولد يافث بن نوح ومن نسلهم الأتراك »[33].
ومازالت الرّواية تترسّم خطى التّفسير وتحبك نسجه ليستقيم خطابا حول الخطاب وإن لعب في أحيان كثيرة دور التّعمية وحجب الرّؤية عن حقائق الأشياء، ومصداق ذلك ما ذهب إليه حمّادي المسعودي من القول:«إنّنا نظلّ إزاء نصوص ابتعدت كثيرا عن النّصّ الأصل أي نصّ الوحي لأنّ هذا النّصّ إذا ما كان قائما على الحذف الافتراضي، فإنّ مصنّفات التّراث قد سعى أصحابها إلى ملء هذا الفراغ »[34]. 
ففي خصوص تفسير الرّعد وما يصدر عنه من دويّ يورد الطّبري عديد الرّوايات تكاد تتّفق في أنّ الرّعد اسم ملك موكّل بالسّحاب يجمعه ويؤلّف بين أجزائه ويسوقه كما يسوق الحادي الإبل وهو ينعق بالغيث كما ينعق الرّاعي بغنمه يسبّح، ودويّه تسبيح وتكبير، به يزجر السّحاب، وكلّما خالفت سحابة سحابةً صاح بها، فإذا اشتدّ غضبه طارت النّار من فيه وهي الصّواعق، وقيل: إنّ الرّعد ريح تختنق تحت السّحاب فتصّاعد فيكون منه ذلك الصّوت[35]. 
وفي رواية مرفوعة إلى عليّ بن أبي طالب تقول إنّ البرق مخاريق من حديد بأيدي الملائكة يزجرون بها السّحاب ويضربون، وقيل: البرق سوط من نور يزجي به الملك السّحاب، وقيل: البرق ملك، أو هو ماء، وفي كتاب الله الملائكة حملة العرش لكلّ ملك منهم وجه إنسان وثور وأسد فإذا حرّكوا أجنحتهم فهو البرق، وتذكر رواية أخرى إنّه ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع[36] بأجنحته فذلك البرق[37].
وحول الآية107 من سورة الأعراف نسج المخيال صورا حول عصا موسى الّتي تحوّلت إلى ثعبان مبين آية من الله تؤيّده ضدّ فرعون المتألّه، وفي هذا الإطار يورد الطّبري أنّ العصا تحوّلت إلى حيّة عظيمة قيل هي مثــل المدينــة وأنّهــا ثعبــان مبين وهو الذَّكر من الحيّات، فاتح فاه واضع لحيه الأسفل في الأرض والأعلى في ســور القصــر وأنّ ما بين لحييه أربعون ذراعــا، ثمّ توجّه نحو فرعون ليأخذه فلمّا رآه ذعر منه ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك، إنّها حيّة وضعت فقما لها أسفل القبّة وفقما لها أعلى القبّة وأنّها حملت على النّاس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتّى دخل البيت[38].
ومن الخوارق الّتي يذكرها الطّبري عن ابن جريج أنّ بني إسرائيل عندما عصوا ربّهم واجترحوا ذنوبا كبيرة وقتلوا الأنبياء وقعوا في الكفر على اختلاف فرقهم تبرّأت قبيلة منهم ممّا ارتكبوا ودعوا ربّهم أن ينجيَهم من القوم الظّالمين، فاستجاب لهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصّين حيث استقرّوا[39].
 ومن الأمثلة التّي نختم بها هذه النّماذج المتجاوزة لحدود المعقول العقلي نذكر ما يتعلّق بتحديد هويّة الشّاهد في قضيّة يوسف مع امرأة العزيز يذهب الطّبري إلى أنّه صبيّ تكلّم في المهد، فأنصف يوسف وبرّأ ساحته من آثار الاعتداء على امرأة العزيز، استنادا إلى خبر يذكر عن النّبي من أنّ « أَرْبَعَةَ صِغَارٍ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ: اِبْنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَعِيسَى بنُ مَرْيَمَ». وقد عدّد الطّبري جملة من آراء المفسّرين وذكر رواياتهم المختلفة ثمّ رفض أن يكون الشّاهد من غير الإنس أو أن يكون القميص ذاته أو شيخا حكيما[40]. في حين أنّ الجبّائي قد اشترط أن يكون هذا الشّاهد عاقلا أوّلا ومن قرابة المرأة وجهتها ثانيا، وبذلك تكون شهادته أكثر بلاغة وإقناعا، ولو انحصر الشّاهد في الصّبي لكانت معجزة، والمعجزة لا يُحتاج معها إلى تفسير وتفصيل واستدلال بأحداث القضيّة وفصولها[41]. فالعقل حينئذ أمام دليلين أحدهما ظنّي وهو القميص الممزّق وكلام الصّبي قطعي، فلماذا وقع العدول في سياق الآية عن الدّليل القطعي وتمّ اتّباع الدّليل الظّنّي؟ وبالنّظر إلى تفسير الزّمخشري نلفيه يكتفي باستعراض كلّ الرّوايات المعبّرة عن الوجوه الممكنة في آداء الشّهادة فقد يكون الشّاهد ابن عمّ لامرأة العزيز وقد يكون جليس زوجها لدى الباب وقد يكون حكيم الملك أو بعض أهلها أو صبيّا في المهد. والمهمّ في كلّ ذلك أنّ الزّمخشري قد تقاطع مع ما ذهب إليه الجبّائي من تأويل[42].
إنّ اعتبار هذه المرويّات الّتي وقعت الإشارة إليها في كلّ ما سبق ذكره من النّماذج المتنوّعة انطلاقا من الآيات المذكورة، جزءا من تفسير القيل القرآني أو تأويله، سواء تعلّق بظاهره أو بباطنه، أمر يضع الدّارس أمام أسئلة خطيرة، لعلّ من أهمّها إلى أيّ مدى يصحّ رفع هذه المرويّات إلى الرّسول أو حتّى الصّحابة والتّابعين؟ وفي صورة صحّتها هل تُعَدّ ملزمة إلى أجيال وقرون أتت بعد هذه الفترة دون انتباه إلى ما يحقّقه التّقدّم العلمي من إنجازات وما يصل إليه العقل البشري من كشوف عبر ضروب التّحوّل في مستوى الزّمان والمكان؟ وهل النّصّ القرآني هو الصّالح لكلّ عصر ومصر أم تفسيره؟ ولا سيّما أنّ هذا التّفسير هو خلاصة عمل بشريّ يتأثّر ضرورة باللّحظة الثّقافيّة الّتي ظهر فيها وانخرط، فكان ثمرة لسياقها التّاريخي، ومن ثمَّ ليس له أن يستجيب لمشكلات من المعرفة ندّت في عصور متتالية ومتباعدة، يقول نصر حامد أبو زيد في هذا الإطار إنّ « التّمسّك بهذا التّفسير بوصفه التّفسير الوحيد الصّحيح استنادا إلى سلطة القدماء يؤدّي إلى ربط دلالة النّصّ بالأفق العقلي والإطار الثّقافي لعصر الجيل الأوّل من المسلمين، وهذا الرّبط يتعارض تعارضا جذريّا مع المفهوم المستقرّ في الثّقافة من أنّ دلالة النّصّ تتجاوز حدود الزّمان والمكان»[43].
 لقد اتّخذ أبو عليّ الجبّائي موقفا نقديّا من الخوارق بإقراره أنّ ظهور الآيات الخارقة للعادة لا تجوز إلاّ للأنبياء دون غيرهم[44]، ولذلك خلا تفسيره من الأخبار المحتفلة بالخوارق وعجيبها. وعلى النّقيض من ذلك عجّ تفسير الطّبري بالكثير من هذه الأخبار ولم يشكّك في صدقها بل سرد آثارها إلى حدّ التّفنّن في عرضها. وعلى اعتبار أنّ القدرة الإلهيّة تفعل ما تشاء وأنّ المتلقّي يسلّم جدلا بهذا الأمر فإنّ السّؤال يظلّ ملحّا على الدّارس حول فائدة ذكر هذه المسائل التّي تدهش المرء بدلا من أن تقنعه أو تحفّزه إلى القيام بعمل ما ولا سيّما في عصور تولي قيمتيْ العقل والعمل منزلة لا تضاهى.
الهوامش
[1] وردت هذه المعاني في لسان العرب لابن منظور، مج10، مادّة خَرَقَ، ص ص 73- 78.
[2] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النّصّ دراسة في علوم القرآن، ص 137.
[3] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص84.
[4] ذكر Olivier Carré أنّ القرآن، حتّى فـي مقاطـعه النّصيّة، يمثّل المعجزة الدّائمة المُعطات لكلّ الأجيال على اختلاف لغاتها، وليس لهذه المعجزة علاقة بما سبقها من المعجزات المادّيّة المرتبطة بفترة زمانيّة محدودة لنهوضها على شواهد معزولة.  Voir Olivier Carré, Mystique et politique, p 41. i
[5] محمّد توفيق صدقي، الإسلام هو القرآن وحده، مجلّة المنار، مج 9، ص 912.
[6] على سبيل المثال، نذكر ما جاء في كتاب «أسباب النّزول» للواحدي، ص 289 أنّ سبب نزول الآية 16 من سورة الحديد 57 أنّها نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم، فقالوا: حدّثْنا عمّا في التّوراة فإنّ فيها العجائب فنزلت.
[7] انظر الواحدي، أسباب النّزول، ص262.
[8] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النّص، دراسة في علوم القرآن، ص127.
[9] عدنان زرزور، الحاكم الجشمي ومنهجه في التّفسير، ص 153.
[10] عالج حمّادي المسعودي هذه الفكرة في كتابه «الوحي من التّنزيل إلى التّدوين»، ص 21.
[11] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النّص، دراسة في علوم القرآن، ص 147.
[12] ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم، ج13، ص203.
[13] الطّبري، جامع البيان، مج1، ص ص342- 343.
[14] سفر التّكوين، الإصحاح{2}، الشّجرة المحرّمة، 15-17 وخلق المرأة 18-25. الإصحاح{3}، سقوط الإنسان 1-15، وعقاب الإنسان 16-19 وطرد الإنسان من الجنّة 20-24.
[15] وحيد السّعفي، في الإسرائيليّات وإكساب الخطاب الدّيني العربي الإسلامي الشّرعيّة، حوليّات الجامعة التّونسيّة، عدد51، ج2، سنة 2006، ص 299.
[16] انظر محمّد حسين الذّهبي، الإسرائليّات في التّفسير والحديث، ص 47 وما بعدها.
[17] انظر الآيتيْن 35 و36 من سورة البقرة 2.
[18] الجبّائي، ت 1، ص72.
[19] انظر الطّبري، جامع البيان، مج5، ص3708.
[20] ومن أمثال الأحاديث الّتي تعرّضت لهذا الحيوان: « عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» حديث عدد 3303 من صحيح البخاري، باب كتاب بدء الخلق، ص690. وذكره الدّميري في الجزء الأوّل من حياة الحيوان الكبرى، ص217.
[21] انظر الطّبري، جامع البيان، مج6، ص 4363.
[22] انظر حمّادي المسعودي، فنّيّات قصص الأنبياء في التّراث العربي، ص423.
[23] الكليني، الكافي، ج1، باب ما عند الأئمّة من سلاح الرّسول، ص237.
[24] هود11/ 67.
[25] انظر الجبّائي، ت 1، ص 310.
[26] جاء في جامع البيان للطّبري، مج 6، ص4365 أنّه لمّا عُقرت النّاقة أتى رجل النّبيّ صالحا، وقال له: أدرك النّاقة فقد عُقرت فأقبل وخرج قوم يعتذرون إليه. فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه ولمّا رأى الفصيل أمّه تضطرب أتى جبلا يقال له القارّة قصيرا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطال في السّماء حتّى ما تناله الطّير، وورد في قصص الأنبياء لابن كثير، ص119: «  أنّ عبـد الرّزّاق روى عن معمّر عمّن سمع الحسن أنّ الفصيل قال: يا ربّي أين أمّي؟ ثمّ دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال بل اتّبعوه وعقروه أيضا». وقد جاء في «قصص الأنبياء» للثّعلبي، ص70 ما يلي:«لمّا رأى السّقبُ النّبيّ صالحا بكى حتّى سالت دموعه، ثمّ رغا ثلاثا، وانفجرت الصّخرة فدخلها»، علما بأنّ بعض الرّوّاة في جامع البيان لا يبخلون بالإشارة، من حين لآخر، إلى ما يفيد أنّهم يشعرون بالغرابة كقول ابن حميد:«فيما بلغني، والله أعلم ». أو قوله:« فيما يزعمون». الطّبري، جامع البيان، مج 5، ص ص 3556 - 3557.
[27] تشير كلّ الآيات التّي تناولت قصّة النّبيّ صالح إلى النّاقة دون غيرها، انظر الآيات التّالية: الأعراف7/ 77 وهود11/ 65 والشّعراء26/ 157 والشّمس91/ 14.
[28] الطّبري، جامع البيان، مج5، ص 3545.
[29] الطّبري، جامع البيان، مج7، ص ص5421 - 5422.
[30] الإصحاح{10}، سلالات أبناء نوح، الآيات1-3.
[31] الإصحاح{38}، مؤامرة جوج الشّرّيرة، الآيات1-7.
[32] الإصحاح{20}: التّمرّد الأخير، 7-9.
[33] الجبّائي، ت.1، ص368. فلا إسهاب لديه في الوصف، ولا إطناب في القصّ.
[34] حمّادي المسعودي، فنّيّات قصص الأنبياء في التّراث العربي، ص251.
[35] انظر الطّبري، جامع البيان، مج1، ص ص241 -242.
[36] مصع: حرّك.
[37] م.ن، ص ص 244-245. وقد ذهبت السّبئيّة إلى أنّ الرّعد هو صوت عليّ وأنّ البرق سوطه
 la serte chiite extrémiste des saba‎‘‎iyya, parlant, elle, de ‎‎Ali, disait que le tonnerre était sa voix et l‎‘‎éclair son fouet. Daniel Gimaret, Dieu à l‎‘‎image de l‎‘‎homme, p275.
ومن المفيد أن نشير إلى رأي رشيد رضا الوارد في تفسير المنار، ج 1، ص176، الّذي يعتبر فيه أنّ هذه الأقوال ممّا كان يذيعه كعب الأحبار ووهب بن منبّه بين المسلمين من الصّحابة والتّابعين، أمّا حقيقة الرّعد والبرق فليست من مباحث علم القرآن لأنّه من علم الطّبيعة وحوادث الجوّ الّتي في استطاعة النّاس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقّف على الوحي.
[38] الطّبري، جامع البيان، مج5، ص ص 3586-3587.
[39] م.ن، ص 3667.
[40] م.ن، مج 6، ص 4517.
[41] الجبّائي، ت 1، ص ص320-321.
[42] الزّمخشري، الكشّاف، ج2، ص132.
[43] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النّصّ دراسة في علوم القرآن، ص222.
[44] الجبّائي، ت1، ص127.