مواقف وآراء

بقلم
يسري بوعوينة
ثلاثة ورابعهم تجمّعيّ

هؤلاء هم الذين يعرقلون الثورة و يشوّهونها أو ينحرفون بها عن مسارها أو يسعون للإنقلاب عليها. صحيح أن الثورات لا تحقق أهدافها بين عشية و ضحاها و أن المسيرة نحو التقدم و النماء و الإزدهار بدأت لتوّها بخطوات بطيئة (و لكنها ثابتة). صحيح أيضا أن الإرث الإستبدادي الثقيل (الذي يعود إلى عهد البايات و ليس فقط إلى بورقيبة الذي لم يكن سوى "بايا جمهوريا" في الأخير) مازال متغلغلا في نفوس أكثرنا تحرّرا و إنفتاحا و تعلّقـــا بالديمقراطيـــة. كل هذا صحيــح و لكن الثورة أيضا تئنّ اليوم تحــت ضربات موجعة تأتي أساسا من أربعة محاور:

 

(1) الإنفلات الأمني:

 

إذا تتبعنا إحصائيات وزارة الداخلية فمعدّل الجرائم بقي تقريبا هو نفسه قبل الثورة و بعدها (مع تراجع طفيف). هذه الإحصائيات المتفائلة يفنّدها الواقع التونســـي الذي يشهــــد تململات وقلاقـــل بين الحين و الآخر. لنكون واضحين فالمواطن التونســي غير متعوّد على الإعتصامات و لا الإضرابات و لا المظاهـــرات لأن فترة حكــم المخلوع جعلتــــه يعيش بعيدا عن هذه الأجـــــواء التي لا يراهـــا إلا عبر شاشات التلفيزيـــون. في كل أرجاء العالم فإن مظاهرة سلميـــــة تمــرّ مرور الكـــــرام و أحيانــــا تقابل بإبتسامــــة و لكن في تونس ما إن يسمــع الناس بمظاهرة حتى تغلق المحلات التجارية و تقفــــل المغــــازات و يهـــــرع النـــــاس إلى ديــــــارهم أو على الأقــــلّ يغيّروا من طريقــهم ليتجنبوا هذه المظاهــــرة. نحتاج إلى سنوات لتترسّخ فينا فكـــــرة أن المظاهرات هي فرصة لإبلاغ الصوت و ليست فرصة للنهب و السلب والتكسير.

تقوم بين الحيـــن و الآخر أعمـــال فوضى و شغب في بعض المدن وأحيانا يفرض حظر التجول. الإعتصامات متتالية و الإضرابات شملت تقريبا كل القطاعات و زاد قرار الرئيس المرزوقي بالإفراج عن أكثر من عشرة آلاف سجين على دفعتيـــــن من حالة الاحتقــان والخوف لدى المواطن العادي لأن وزارة الداخلية التي كانت تعوّدنا بسيطرتها المطلقة و التي كانت تحسب علينا أنفاسنا أصبحت تمارس دور المتفرّج في أغلب الأوقات رغم مظاهر التحسّن الطفيف.كل هذه الأوضاع الأمنية تسبب حالة من الرعب و الخوف لدى المواطن يكاد ينسى معها لذّة طعم الثورة.

 

(2) غلاء الأسعار:

 

إذا كان هناك ثورة فهي بحق ثورة السوق هذا المكان الذي أصبح يخشاه المواطن العادي و يمشي إليه برعب و السبب هو الأسعار. للأمانة نحن لم نكن نعيش في رغد و حبور في "الزمن النوفمبري" الرديء فالأسعار وقتها كانت ترتفع شيئا فشيئا و المواطن يكتفي بالنظر سائلا الله السلامة. اليوم و نحن في زمن الثورة الجميل فالأسعار أبـــــت إلا أن تتضاعف و تتعملـــق أمام رواتبنا المتقزّمة والمصابة بمرض ضعف النمـــــوّ.

 لا أستطيع تحديد الأسباب التي جعلت الأسعار تقفز برشاقة إلى أعالي السماء فهي عديدة و متشابكة و لكني أطالب بمجهودات أكبر في التصدي لهذا الغلاء الذي عمّ الأسواق كالوباء الفتاك جاعلا من المواطن مجرّد زائر للسوق يتفرج بعيون حالمة و يقفل عائدا بقفة خاوية. الإنفلات الأمني يضاف إليه التجويع و تدهور القدرة الشرائية الرهيب كل هذا يجعل المواطن حائرا في أمره و متوجّسا في أمر هذه الثورة.

 

(3)  السلفيون :

 

أنا أعتبر السلفيين هم النيران الصديقة التي تصيب حركة النهضة. حتى لا أتّهم بالتعميم فالسلفيون الذين أقصدهم هم أولئك الذين "نبتوا" بعد الثورة ليجعلوا مطلبهم الوحيد الشريعة و تحكيم الإسلام ولو بالقوة (أي بعبارة أخرى الخطاب الديني الراديكالي).أما لماذا أصفهم بالنيران الصديقة فلأنهم ظاهريا يحسبون على حركة النهضة و هم في الحقيقة أول من يسيء إليها بقصد أو عن غير قصد.

طبعا إيماننا بالحرية يجعلنا نقبل إختيار كل إنســـــان لطريقة تفكيره و منهجه في الحياة لكن الشيء اللافت للإنتباه هنا في ما يخصّ السلفية في تونس هو تركّزها في الأحياء الفقيــــرة و المهمّشة فأنا شخصيا لم أسمع بجماعة سلفية من القنطاوي أومن الأحياء الراقية بقرطاج و حي النصر. هذا أولا و ثانيا السلفية في بلادنا مازالت إلى حد الآن مربوطة بالشكل فيكفي توفر لحية و جلباب أو قميص أفغاني أو نقاب حتى تعدّ من الجماعة ولو كنت لا تحفـــظ من القرآن آية واحدة.

مطالب الحركة السلفيـــة في تونس هي إقامة حكم الإسلام و تطبيـــــق الشريعـــــة و التنصيص عليها فــــي الدستور. ما نلاحظه في هذه المطالب هو غياب شعارات الحرية و الكرامة و التشغيل و مقاومة الفساد و السبب واضح وهو إعتقاد السلفيين أن إقامة الحكم الإسلامي هو الحل السحري الذي سيحقق كل هذه المطالب التي يجب طبعا أن تخضع للشرع فلا نتحدث إلا عن حرية إسلامية وعن كرامة للمرأة حسب التصور الإسلامي و هلم جرا.

للردّ سريعا على هذه الأحلام نقول أنه تاريخيا فأغلب الخلفاء الإسلاميين كانوا طغاة فاسدين استحلوا الأموال العامة و قهروا الناس و استضعفوهم و جاؤوا بظلم مبين رغم إدعائهم تطبيق أحكام الله. القرآن يخلــــو من أي إشـــــارات لنظام الحكم و آلياتـــه والدليل اختلاف الصحابة في ما بينهم بعد وفاة الرسول و استلهام المسلمين في تكوين دولتهــــم مــن النظم الإداريــــة الفارسيــــة و البيزنطية (الدواوين) أما مسألة الرد على تطبيق الشريعة فسأتركها لوقت لاحق.

عوّض السلفيون شعار "أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" بشعار "أوفياء أوفياء لشريعة السماء" (منحرفين بذلك عن أولى أهداف الثورة) و قاموا ببعض التجاوزات في الشارع أدخلت الهلع في نفوس بقية المواطنين مثل حادثة الإعتداء على "سينما أفريكارت" أو على المسرح البلـــــدي بتونس أو حادثـــــة العلم بكليـــة منوبة أو التورّط في أحداث بئر علي بن خليفة إضافة إلى الخطاب المنغلق الرافض لمفاهيم الديمقراطية و المتعصّب لرأي دون غيره..كل هذا يجعل التيار السلفي محلّ جدل دائم و في هذا مضيعة للوقت و لنا في قدوم الداعية المصري وجــــدي غنيم إلى تونس خير دليل حيث إنشغل الجميع بمواضيع لا تمتّ لا من قريب و لا من بعيد إلى واقعنا و إلى مشاكلنا و همومنا الآنية.

 

(4) التجمعيون:

 

إضافة إلى ثالــــوث الإنفلات الأمني (المقصــــود) و غلاء الأسعار و الخطاب الديني المتطرّف و المنغلــــق يأتي العنصـــــر الرابع وهو الماسك إلى حدّ ما بالخيــــوط التي تربـــــط بين هــــذا الثالوث و أنا أقصد هنا التجمعيين و لا أحد غيرهم. خلال أكثر من 23 سنة مــن حكم المخلــــــوع أكيد أنـــــه تكوّنت طبقـــة من الإنتهازييــــن و المستفيدين و المنتفعين من نظام بن علي و كانت وسيلتهم الوحيدة هي الإنتســـــاب إلى "التجمع الدستـــــوري الديمقراطـــــــــــــي" و هـــــؤلاء الذيــن إمتصــــوا دمائنــــــا وأموالنــــا و عاثوا في بلادنا فسادا و إفسادا سيواصلون حربهم المقدّسة ضد الحرية و الديمقراطيـــة و ضد الثورة التي سلبتهم إمتيازاتهم التي كانوا ينالونها بغير حـــــــقّ.

بعد فترة صمت طويل أطلّ علينا عجوز السياسة الباجي قايد السبسي بمبادرة ظاهرها مصلحة البلاد و باطنها خدمة الأجندا الحزبية للدساترة و لمّ شملهم من جديد في إجتماع أطلق عليه "نداء الوطـــــن" و كـــــان من الأولى في الحقيقــــة أن يسمى "نداء التجمـــــع" و بالفعل تداعى أنصار الحزب المقبور إلى مدينة المنستير أين إجتمعوا برموز العهــــــد السابق من كمــــال مرجان ومحمد جغام و حتى من رموز الحقبة الســــــوداء لبورقيبــــة كمحمد الصياح.

التجمع لم يكن حزبا و لكنه عقلية إنتهازية و مريضة معشّشة في رؤوس البعض الذين لم يستوعبوا بعد أن تونس قامت بثــــورة وقدمت شهدائها قرابين للحرية و العدالة و الكرامة و لتكنس أمثال التجمع من الوجود و لن تقدر قوة في الأرض أن تعيده للحياة ألم يكن تونسيا ذلك الشاعر الذي ملأ الآفاق بصيحته 'إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" و قد أراد الشعب الحياة و ألقى بالتجمع و قادته إلى مزابل التاريخ فلترحلوا إلى هناك إن كنتم لا تستطيعون العيش بدونه. بودي أن أسأل الباجي سؤالا واحدا ماذا لو أفرزت إنتخابات 23 أكتوبر 2011 فوز الدساترة ب89 مقعد في المجلس التأسيسي فهل كنا سنراه يجمع طيف الإسلاميين و بقية الأحزاب ليعيد التوازن إلى الساحة السياسية في تونس التي تشتكي حسب رأيه اليوم من هيمنة حركة النهضة و كأن تونس عرجاء تمشي على ساق واحدة. الإجابة هي طبعا لا و لنعد بذاكرتنا إلى أولى سنوات التسعينات حين ما بسط التجمع الدستوري الديمقراطي سيطة مطلقة بالحديد و النار على المشهد السياسي التونسي و يومها لم يكترث الباجي بذلك و آثر السلامة و عاد إلى مدينة المرسى مستمتعا بالشمس و البحر و الراحة تاركا المناضلين لوحدهم في ساحة المعركة اللامتوازنة مع السلطة يخرجون من سجن إلى سجن و من إضراب جوع إلى إضراب جوع.

56 سنة من حكم الدساترة (بشقيها البورقيبي و النوفمبري) أظنها جدّ كافية و لا نطمع في المزيد.

عقارب الساعة لا تسير أبدا إلى الوراء و عبير الحرية الذي نستنشقه اليوم لن نفرّط فيه مهما إختنقنا بالغاز المسيّل للدموع و مهما أصابنا الجوع و مهما آلمنا فراق الأحبّة و مهما أبكانا أنين الجرحى و مهما كان حجم الدسائس و المكائد..متى تعلمون أننا من طينة من يبذل أنفاسه بلا ثمن…حتى يراك كما يهواك يا وطن.