في الصميم

بقلم
د. محمد نجيب بوطالب
التهميش التنموي طريق الى الاغتراب والاحساس ‏بظلم الدولة: معتمدية الصمار مثالا (2/2)
 الأولويات التّنموية بالصّمار
رغم أنّ جميع القطاعات تشكو من نقصان كبير ‏في الموارد والدّعم والإمكانيّات الّا أنّنا سنكتفي بالتّركيز على المجالات التي ‏تشكو نقصا كبيرا ولا تنتظر التّأجيل والإرجاء، و‏نلخّصها فيما يلي :‏
في المجال الصحي : 
تأخّر البدء بإنجاز المستشفى المحلّي الجديد لأكثر من عشر ‏سنوات من الإعلان على إقراره. وبعد اقتناء قطعة الأرض يتبيّن أنّ التّأخير ليس ‏له مبرّر بعد تدهور وضعيّة المستشفى المحلّي وتجهيزاته المهترئة. إنّ كل تأخير ‏في المجال الصّحي ينجر عنه ضحايا وخسائر بشريّة خاصّة في مجال الإسعاف و‏التّدخل الطّبي الاستعجالي. ولا يجد المواطنون سبيلا لتبريرات التّأجيل سوى أنّ ‏منطقتهم منسيّة ومهمّشة ومسؤولوها عاجزون أمام غيرهم، فهم لا يفتكّون ‏حقوق منطقتهم إذ لا نكاد نعثر على أيّ موقف احتجاجي ودفاعي لتنمية جهتهم  ‏في المجال الصّحي .‏
في مجال التجهيز : 
رغم التّحسّن النّسبي في السّنوات الأخيرة في مجال توسّع ‏شبكة الطّرقات بالمعتمديّة، فإنّ حصّة المعتمدية من برامج التّهيئة والتّعبيد من ‏الولاية لا تزال متواضعة ومتأخّرة من خلال عدم تمتّع العديد من التّجمعات ‏السّكانية بالمنطقة بالطّريق المعبد وربطها بمركز المعتمديّة مثل حي الغليظ وشعبة الزّيتونة والمدينة والقطعاية والشّارب وعدم إعادة تعبيد طريق الصمار قلب ‏الرّخم، فضلا عن تأخّرإعادة تهيئة وتعبيد طريق الصمار بنقردان والحاجّة الى ‏تطوير عمليّة ربط المعتمديّة بالجهة السّاحليّة والطّريق السّريعة. كما أنّ ‏الوضعيّة الحالية لطرقات وشوارع المدينة تحتاج الى عمليّات تعبيد وإعادة تهيئة ‏وإقامة الأرصفة ومخفّضات السّرعة .‏
مجال النقل و المواصلات و الاتصالات:‏
اذا كانت المواصلات والاتصالات تشكّل شريان التّنمية المحليّة والجهويّة، فإنّ ‏الواقع الحالي بمعتمدية الصمار لا يرتقي الى تحقيق هذا الهدف التّنموي . ‏فالمؤشّرات الموجودة لا ترتقي الى مستوى التّنمية الحديثة لا كمّيا ولا كيفيّا، ‏فالمنطقة شبه معزولة عن محيطها الحضري من مدن تطاوين وبنقردان و‏جرجيس وجربة ومدنين. ورغم أنّ المسافات بين الصمار كمركز حضري ناشئ ‏وبين هذه المدن التي تربط المعتمدية بها علاقات وطيدة إداريا واقتصاديّا و‏اجتماعيّا وثقافيّا. 
ينتظر السّكان إقامة خطّ نقل يومي بالحافلة بين الصمار و‏تطاوين لأنّه  ثمّة ما يقارب المائة موظف وعامل يتنقلون يوميّا الى هذه المدن للعمل ‏وخاصّة مدينة تطاوين وثمّة ما يقارب المائتي عائلة اضطرّت للاستقرار بالمدن ‏المجاورة بسبب عدم توفّر وسائل نقل ملائمة لمعيليها. ثمّة أيضا مئات المقيمين ‏بالصمار للعمل من قطاعات الأمن والتّعليم والصّحة والجيش والدّيوانة أو من ‏قطاع المقاولات، لا تتوفّر لهم ولعائلاتهم سبل التّنقل  الملائم إلى المدن المجاورة‏‏. أمّا  سكان المنطقة من المقيمين  بالعاصمة والمدن والجهات الأخرى، فهم مجبرون على التنقّل إلى المدن المجاورة للصمار من أجل السّفر الى العاصمة ولا ‏يزال المواطنون ينتظرون تنفيذ وعود ظلّت حبرا على ورق من قبل مسؤولي شركة ‏النقل البرّي بين المدن بتخصيص سفرة تربط الصمار بالعاصمة يوميّا.‏
قطاع التكوين و التشغيل :‏
‏لئن كانت برامج الدّولة الحالية في هذا المجال تتّصف حسب مؤشّرات التّقييم و‏المتابعة العلميّيـن Evaluation et suivi)‎‏ ) بالعشوائيّة والتّسرّع، فإنّ الدّلائل ‏على ذلك كثيرة منها ارتفاع معدّلات تسرّب اليد العاملة المحلّية الى الخارج، و‏منها فقدان اليد العاملة المتبقية الى التّكوين الملائم لحاجيّات التّنمية المحلّية إذ ‏يجد الباحث عن عمّال مهرة ومتخصّصين في أعمال البناء والحدادة والسّباكة و‏النّجارة والخدمات صعوبة كبيرة بما أدّى الى الاستعانة باليد العاملة في قطاعي ‏الفلاحة والبناء من جهات أخرى مثل الصّخيرة والحامّة وقبلّي وسيدي بوزيد و‏قفصة. ومن مظاهر الاغتراب التّنموي والاجتماعي والاقتصادي استمرار أغلب ‏شباب المنطقة في البحث عن سبل الهجرة السّريّة الى أوروبا وتجميع البعض ‏منهم لمبالغ مالية معتبرة لخوض مغامرة الهجرة بمباركة في أغلب الأحيان من ‏آبائهم وأمّهاتهم رغم كلّ ما يرونه ويسمعونه من مآسي الهجرة السّريّة.‏
قطاع الخدمات :‏
‏أمام ازدياد النّشاطات الاجتماعية والاقتصاديّة والثقافيّة والسّياسيّة و‏التّرفيهيّة في جهة الصمار، فقد بات من الضّروري تقريب الخدمات الى المواطن ‏الذي يتكبّد أتعابا مادّية ومعنويّة كثيرة جرّاء التّنقل الى مركز الولاية لدفع فواتير ‏الكهرباء والماء والأداءات في القباضات والفحص الفنّي والقيام بالمعاملات ‏المالية مع البنوك. لذلك ينتظر منذ سنوات عديدة تركيز فروع بالصمار للإدارات والمؤسّسات التالية : القباضة الماليّة، البنوك، قباضة خدمات شركة الكهرباء والغاز، ديوان التطهير، تطوير فرع الشّركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه، تطوير إدارات الفلاحة والتجهيز، إحداث إدارة محلّية للنّقل، إحداث مكتب ‏سياحي،إحداث فرع لخدمات السّفر الجوّي والبحري، إحداث مكتب خدمات ‏عدليّة، إحداث محكمة ناحية ..الخ.‏
المجال الثقافي و السّياحي:‏
‏ تزخر معتمدية الصمار بموروث ثقافي وتراثي وأثري غنيّ  يتمثل في ‏ستّة قصور سهليّة وعديد المواقع الأثرية بالمدينة وقلالة وقلب الرخم وقصر ‏القاعة ووادي الماجل وغيرها، كما يوجد بالصمار متحف يحتاج الى التّطوير و‏الاستغلال. وتوجد بالمعتمدية مواقع سياحيّة متميّزة لها مستقبل زاهر في المجال ‏السّياحي إذا ما استغلّت ووظّفت توظيفا تنمويّا ملائما مثل موقع سطح القمر و‏واحات كرشاو وجسر البابور وجسر العواديد والهيشة، كما تتوفّر بالمنطقة ‏مجموعة من السّباخ والجبال والكثبان الرّمليّة وهي قابلة للاستغلال السّياحي و‏الثّقافي. ويقترح المثقفون  وبعض الجمعيّات النّاشطة في المجال التّراثي و‏الثقافي بالجهة إدماج هذه الثّروة البيئيّة والسّياحيّة في المسلك السّياحي لقوافل ‏السّياحة القادمة إلى جهة تطاوين من القطب السّياحي جرجيس - جربة. ويتميز ‏هذا المسلك المقترح والجاهز بتنوع وثراء مكوّناته التّراثيّة والسّياحيّة و‏البيئيّة وقربه من المنطقة السّياحية المذكورة. وتبدو الحاجة ملحّة لتشجيع  ‏مبادرات القطاع الخاصّ وتسهيل تدخّلاته لاستغلال هذه المواقع وتقريبها من ‏السّياحة الدّاخليّة والخارجيّة .‏
سنكتفي بهذا القدر من النّقائص ذات الأولويّة رغم أنّ القطاعات الأخرى تحتاج ‏بدورها الى المزيد من الاهتمام كالمجال الأمني بمعناه الجنائي، حيث يشتكي ‏المواطنون منذ سنوات قليلة من كثرة السّرقات لممتلكاتهم وحصول اعتداءات ‏على الملك الخاصّ من قبل عصابات مجهولة تبدو الحاجة ملحّة لكشفها و‏محاسبة فاعليها من الذين أقضوا مضجع السّكان ونغّصوا معيشتهم (بطء ‏التّحقيقات وتواضع إمكانيات البحث المادي والبشري عن مرتكبي مجموعة ‏السّرقات المتكرّرة بالمدينة ).‏
خاتمة :‏
‏إنّ وضعية هشاشة التّنمية بهذه الرّبوع وشبيهاتها لن يثنينا عن القول ‏بوجود فرص عديدة للنّهوض بها وتثمين مواردها وتأمين مستقبلها التّنموي. و‏لكن ذلك سيكون مشروطا بحضور فعّال للدّولة ووجود مؤسّسات تابعة لها، دولة  ‏غير منهكة، تعتمد التّخطيط الاستراتيجي والتّوزيع العادل للخدمات و‏الثّروات. كما يتطلّب ذلك القضاء على مخلّفات الماضي ليس بعقلية التّعالي و‏الاكتفاء بلعن التّخلف أو من خلال نزعات التّخوين والتّشفّي، أو بنزعات المطلبيّة ‏المشطّة، أو بأحلام الأوهام، بل بعقلية العمل وحب الوطن والذّود عليه ‏وبسياسات الواقعيّة والشّفافيّة. بمعنى آخر دولة تبدأ التّنمية من الأسفل لا من ‏الأعلى، الاسفل والأعلى بكلّ ما تعنيه الكلمات من المعاني الجغرافيّة و‏الاقتصاديّة والسّياسيّة. 
تساءل أحد المواطنين من سكان ‏المنطقة مرّة على سبيل المزح الجادّ قائلا : «هل من الممكن أن تبدأ مذيعة النّشرة الجوّية نشرتها من ‏الجنوب الى الشّمال ؟؟»‏
‏وليس بالهيّن خلال عمليّات التّغيير الاجتماعي والاقتصادي المنشودة  للمجتمع ‏التّونسي المعاصر التّحكم في سلبيّات التّنمية وعوائقها، خاصّة في تاريخيّة ‏علاقتها بالدّولة. إن قرونا من التّحكّم الأجنبي بسلطة أجنبية لغالبيّة المجال ‏الدّاخلي التّونسي وقرونا من فقدان الأمن، وتغير الأدوار بين جاذبيّة السّاحل و‏الدّاخل وبين المركز والمحيط  قد أدّت الى هيمنة عقليّة المخزنة في علاقة الدّولة ‏بالجهات ( أنظر : محدّدات العقل السّياسي العربي لدى الجابري )، ونحن نرى ‏أنّ حلّ هذه المشكلة التّاريخية يتطلّب خططا استراتيجيّة بعيدة المدى تساهم في ‏صياغتها النّخب العلميّة العارفة بمسارات التّطور التّاريخي للمجتمع التّونسي و قضاياه العميقة .فما هو حيز توظيف المخطّطين من السّياسيين والإداريين ‏للدّراسات المنجزة حول منطقة الدّراسة، بحدّ أدنى يصل حسب اطلاعنا الى ما لا ‏يقلّ عن ثلاثين أطروحة جامعيّة في مستوى الدّكتوراه وأكثر من مائتي رسالة ‏ماجستير أنجزت حول ولاية تطاوين لوحدها وقد غطّت مجالات التّاريخ و‏الاجتماع والانتربولوجيا والجغرافيا والاقتصاد والتّنشيط الشّبابي والثّقافي وفي علوم التّربية بالإضافة الى اختصاصات علميّة أخرى كالفلاحة والجيولوجيا و‏الهندسة والطبّ وغيرها ..هذا فضلا عن التّقارير حول الدّراسات المنجزة من قبل ‏المنظّمات ومراكز البحث والدّراسات المنشورة في المجلاّت العلميّة المتخصّصة ‏في الدّاخل والخارج؟ 
تبدو نتيجة الإجابة عن هذا السّؤال مؤسفة لعلمنا أنّ الدّولة لا تمتلك مكتبة في هذه الأعمال العلميّة المنتجة حول الجهات وهي ‏تفتقد أكثر من ذلك الى بنك معطيات موثوقة حول الجهات . ليست لنا في تونس وفي جهة الدّراسة تقاليد الاعتماد على نتائج البحث العلمي في مخطّطات وبرامج ‏التّنمية لأنّ الاعتماد على المعطيات الإحصائية الدّورية لوحدها لا يكفي ولا يفيد ‏في بناء خطط استراتيجيّة ملائمة. ومن هنا تسود فوقيّة القرار وارتجاليته، و‏هو أمر خطير إذا ما استبعد العلم والعلماء والخبرة والخبراء في ظلّ الاعتماد ‏على مسؤولين تنقصهم الخبرة والكفاءة.‏
وأخيرا فإنّ الاستمرار في تهميش منطقة الصمار تنمويّا والتّأخير المشبوه في ‏إنجاز ما برمج لهذه الجهة من «فُتات التّنمية» عبر ما يعبر عنه محلّيا ‏بـ «لكلكة العظام» يدفعنا الى التّنبيه الى أنّ المنطقة مرشّحة في قادم الأيام الى ‏ظهور بؤرة توتر واحتجاج. ورغم أنّ الملاحظ يقرّ بالقول أنّ سكان منطقة ‏الصمار - حتّى الذين شاركوا منهم في حراك الكامور - تميزوا خلال السّنوات الماضية بالانضباط وعدم الاضرار بالملك العام والخاصّ وكانت احتجاجاتهم سلميّة. 
‏تتميز هذه الجهة بوجود نسيج اجتماعي متضامن يقوم على السّلوك المدني لكنّه ‏إذا ما استمرت الدّولة في تهميش منطقته فهو قادر على أن يتحوّل في وحدته و‏تضامنه وتعقّله ووطنيته العالية الى أسلوب جديد في المطالبة بالتّنمية عن ‏طريق وسائل الاحتجاج والتّمرّد في ظلّ التّجاهل المستمر لمطالبه والتّراجع عن ‏مشاريعه المبرمجة وتجاهل انتظاراته ومطالبه المشروعة. حتّى الإعلام مشارك ‏في هذا التّجاهل فلا تصل قنوات التّصوير والمراسلون الى الصمار ويحتجّ سكّان ‏المنطقة قائلين : «حتى اسم بلادنا ينطقوه غالطا».‏
إن منطقة قاوم سكّانها الاستعمار بكلّ أشكاله ببسالة وتحمّلوا مخلّفات الجهل و‏المرض والأمية والاحتياج على مدى عقود، سكّان تمرّسوا على الصّبر و‏المكابدة حيثما حلّوا وترحّلوا سواء في عمليّات  بحثهم عن لقمة العيش  ‏بمواطنهم  خلف  قطعانهم في الصّحاري والفيافي أو في المهاجر مضحّين ‏بأسرهم متحمّلين غربة  مدن الصّفيح، منطقة مثل هذه من حقّها أن تطالب بحقوقها و‏تأخذها بلا منّة ولا مزيّة. إنّها تطالب باقتطاع جزء يسير من عائدات جهتها ‏في البترول والغاز وغيره من ثروات حبا الله بها جهتها. سكّان من هذا النوع ‏تشبّعوا بقيم الكرامة والاباء وورثوا قيمها عن آبائهم وأجدادهم لقادرون على ‏عيش الكفاف ورفض فتات تنمية هزيلة تعتمد الوعود الكاذبة وتتوسّل بوسائل ‏التّسويف والإرجاء، في انتظار عدالة جهويّة ومحليّة لازالت غائبة عنهم.‏