شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
محمد المنصف باي الباي الذي أزعج المستعمر وتحدّاه
 أطلق عليه البعض تسمية «آخر البايات الوطنيين في تونس» ولقّب بـ «حبيب الشّعب»، و«الملك الشهيد» وكان حقّا علامة بارزة في تاريخ البلاد التونسيّة بما تمتّع به من خصال الشجاعة والوطنية واحترام الشّعب، ورغم قصر مدّة حكمه التي لم تتجاوز سنة واحدة، غيرأنّه ترك أثرا مهما في التّاريخ السّياسي الوطني وهو الشمعة المضيئة الوحيدة في تاريخ بايات تونس المظلم، عرف بمواقفه الوطنيّة ووقوفه إلى جانب الشّعب في وجه المستعمر الفرنسي ومساندته لزعماء الحركة الوطنية؛ مما أدى إلى خلعه من الحكم ونفيه خارج البلاد، إنه «المنصف باي» الذي صرّح عندما تهاطلت عليه ضغوطات المستعمر وحلفائه قصد تركيعه كسابقيه بأنّه «مستعد لقضاء بقيّة حياته في قفص، ولا يأكل سوى الخبز والزيتون، إذا أتاح ذلك للتونسي أن يلبس شاشيّته (طربوشه) بعزّة وكرامة»، هذه العبارة كفيلة لوحدها بأن تجعل من المنصف باي (1881 ـ 1948) رمزا وطنيا وحاكما استثنائيا من العائلة الحسينية التي حكمت تونس طيلة ثلاثة قرون.
ولد محمد المنصف بن محمد الناصر بن المشير الثاني محمد باي، في الـرابع من شهر مارس1881، قبل شهر من فرض «الحماية الفرنسية» على تونس، تلقى تعليمه في المعهد الصادقي وكان مقيما بالمعهد ممّا سهّل له الاختلاط بأبناء الشّعب منذ الصغر.
خلال فترة دراسته بالصادقية، استرعى المنصف باي انتباه أساتذته وأقرانه لحسنُ سلوكه وإقباله على طلب العلم، فرغم كونه ابن البايات عرف في المعهد بتواضعه وعدم تكبره والتصاقه بأبناء الشعب الذين يدرسون هناك.وفضلاً عن دراسته في الصادقيّة ، كان الأمير يتلقى بالقصر في أيام الراحة دروسًا خصوصية في اللغة الفرنسيّة على يد الأستاذ خير الله بن مصطفى وفي اللغة العربية والعلوم الشرعية على أيدي عدد من شيوخ الزيتونة، الأمر الذي مكنه من اكتساب علوم كثيرة وزادٍ مُفيدٍ من الثقافة الأساسية باللغتين العربية والفرنسية.
كان للأمير المنصف باي حسّ وطنيّ جعله في اتصال دائم بزعماء حركة الشّباب التونسي بوساطة بعض أفراد الحاشية، وكان للشاعر محمّد الشاذلي خزنه دار الضابط في سلك الحرس الملكي دور كبير في تنمية هذا الحسّ وغرس الروح الوطنية في هذا الأمير. فهو الذي أقنعه بالانضمام إلى الحركة الوطنية، في الرّسالة التي وجّهها إليه في سنة 1947، لمّا كان مقيما في المنفى بمدينة بو الفرنسيّة لاعلامه باعتزامه نشر الدّعوة الاسلامية، وقد جاء فيها بالخصوص ما يلي: «هذه بشارة أزفّها إليك... وأنا الذي عرفت من ذي قبل مبلغ قوّة إيمانك، وأنا الذي دعوتك من قبل لخدمة وطنك بالسّياسة واستحلفتك على الكتاب المقدّس مرتين وقد بررت بيمينك، فها أنا اليوم أدعوك، ليس لخدمة وطنك فقط، بل لخدمة الأوطان كلّها باسم الدين المحمّدي». 
فلا غرابة حينئذ في أن يكون الأمير المنصف باي في طليعة المتعاطفين مع الحزب الحرّ الدستوري التونسي منذ انبعاثه سنة 1920. فهو الذي فتح باب القصر الملكي بالمرسى في وجه وفد الأربعين الذي زار الباي يوم 18 جوان 1920 برئاسة الشيخ الصادق النيفر وقدّم إليه العريضة الدستورية. ولم يكتف المنصف باي بهذا الموقف الذي أثار غضب السّلط الاستعمارية بل بادر إلى الانخراط في الحزب. وقد نشر السيد المنجي خزنه دار صورة من بطاقة انخراط الأمير في الجزء الثالث من ديوان والده، الذي نشره في جوان 1991 تحت عنوان «المنصفيّات». 
مثّلت فترة حكم المنصف باي، التي لم تدُم أكثر من عام (1942 ـ 1943) أفضل فترات حكم البايات الحسينيين تحت ظل الاستعمار الفرنسي، فقد كان معظمهم تحت يد المستعمر، أداة طيّعة له ينفذون ما يريده، إلا المنصف باي، فقد اتسمت علاقته مع المستعمر بالتوتر منذ عهد والده الناصر باي.
تولى المنصف باي العرش سنة 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، بعد هزيمة الفرنسيين أمام الألمان، الذي قلص من هيمنة المستعمر الفرنسي العاجز عن حماية نفسه. 
حين اعتلى المنصف باي العرش كان الشّعب التّونسي يئنّ تحت وطأة الاجراءات القمعيّة المسلطة عليه منذ حوادث أفريل 1938. وسرعان ما رجع الأمل إلى النّفوس بعد أن قام الباي الجديد بإبعاد بعض الأشخاص المعروفين بعلاقتهم الوثيقة بالسلطة الاستعمارية عن بلاطه، وتأليف مجلس خاصّ لمساعدته على تدبير شؤون الدولة، يضمّ نخبة من الشّخصيات الوطنية أمثال محمد شنيق، والدكتور الماطري كما قام بإلغاء بعض العادات البالية مثل عادة تقبيل يد الباي التي عوّضها بالمصافحة بما يؤكّد تواضع الرّجل واحترامه لشعبه. تميز المنصف باي بقربه من الشعب التونسي، فلم يستنكف عن الاتّصال المباشر بالشّعب حيث روى المؤرخون أنّه سافر الى عديد المناطق داخل الجمهورية، وحاول الارتقاء بالوضع المعيشي للتونسيين، رغم ان الظرف حينها كان صعبا بوجود الحرب الدائرة في الأنحاء وكان يستقبل ممثّلين عن الشعب ويستمع إلى مطالبهم، ويحثّهم على الكدّ والجدّ ونبذ الخلافات والتمسّك «بالوحدة الوطنيّة» الكفيلة وحدها بالنّهوض بالشّعب وتحقيق مطامحه. 
مباشرة بعد توليه السلطة، قدم المنصف باي مذكرة بـ 16 نقطة لفرنسا، طالب فيها المستعمر بحريات أوسع للسلطة التونسية وحاول تخفيف قبضة الاحتلال على البلد. ومن أهمّ هذه المطالب  تكوين مجلس تشريعي تونسي، وتمكين نوّاب الشعب التونسي من المشاركة في المجالس البلدية، وقبول التونسيين في كل الوظائف والمساواة في المرتبات بينهم وبين الموظفين الفرنسيين، وإقرار إجبارية التعليم ونشر اللغة العربية في جميع معاهد التعليم وإلغاء الأمر المؤرخ في 1898 والمتعلّق بالتفويت في أراضي الأوقاف لفائدة المعمّرين، وتأميم جميع المؤسسات ذات المصلحة العامة، كما طالب بإطلاق سراح كلّ المساجين السياسيين التونسيين، سواء منهم المعتقلين بتونس أو المعتقلين بفرنسا والجزائر. 
وقد أتبع المنصف باي هذه الرسالة بتشكيل حكومة تونسيّة دون استشارة السّلطات الفرنسيّة، وهو ما اعتبره الفرنسيون شكلا من أشكال التمرّد فتمّ خلعه عنوة من منصبه بمقتضى قرار صادر عن القائد الأعلى للجيوش الفرنسية لشمال إفريقيا وعوّض بوليّ عهده محمد الأمين باي ونفي إلى مدينة الأغواط بالجنوب الجزائري حيث فرضت عليه الإقامة الجبريّة.
كما كان لهذا الباي الوطني، موقف حاسم تجاه الإجراءات العنصرية التي أرادت الإقامة العامة الفرنسية الموالية آنذاك للألمان فرضها على اليهود التونسيين، بوضع نجمة صفراء لتمييزهم عن بقية السكان، فما كان منه إلا أن أجاب بأنّ اليهود مثلهم مثل كلّ المواطنين التونسيين المسلمين.
كانت فترة حكم المنصف باي صعبة بحكم تواجد كل من القوى الفرنسية والألمانية في تونس إلى جانب احتدام الصراع العالمي بين قوات المحور والحلفاء، إلاّ أنّه كان من أنصار الحياد وعدم الانحياز لأي طرف.
ولعلّ من أهمّ وأصعب القرارات التي اتخذها المنصف باي فترة توليه العرش، رفضه طلب الرئيس الأميركي فرانكلين روزفيلت، السماح لقواته وقوات حلفائه في التنقل داخل تونس للقضاء على قوات المحور في شمال أفريقيا، رغم أنها المرّة الأولى منذ الاستعمار التي يعامل فيها الباي كرئيس للدولة خاصّة من طرف قوة عظمى في العالم.
وفي 6 جويلية 1943 أجبر تحت الضغط على إمضاء وثيقة التنازل عن العرش ونقل إلى مدينة تنّس الواقعة على الساحل الجزائري. وإثر تحرير البلاد الفرنسيّة من القوّات الألمانيّة في سنة 1945، نقل إلى مدينة «بو» بالجنوب الفرنسي.
وقد تأثّر التّونسيّون بالغ التأثّر بإقدام السلطة العسكرية الفرنسية على خلع الملك الشرعي رمز السيادة التونسية. وأجمعت على المطالبة بإرجاعه إلى عرشه كلّ التيارات السياسية التونسية باستثناء الشيوعيين. وتألفت هيئة وطنية تحمل اسم «لجنة الدفاع عن المنصف باي»، وتضمّ ممثلين عن الحزب الدستوري الجديد والحزب الدستوري القديم والحركة الزيتونية ووزراء المنصف باي وأعضاده، وعددا من أمراء العائلة الحسينية. 
ظلّ المنصف باي، طوال مدّة المنفى، مؤمنا بحق وطنه في الحريّة والاستقلال حتّى وافته المنيّة سنة 1948. فنقل جثمانه إلى تونس وأعلن الحداد في كامل البلاد، ونظّمت له جنازة وطنية حاشدة، شاركت فيها جموع غفيرة من التونسيين الذين أبوا إلاّ أن يشيّعوه إلى مثواه الأخير اعترافا له بالجميل ووفاء لروحه الزكيّة. وقد تمّ دفن جثّته بطلب منه بمقبرة الجلاّز، مقبرة عامة الشّعب، وليس بالمقبرة الخاصة بالبايات من العائلة الحسينية. عاش المنصف باي مع الشّعب وتحمّل إهانات المستعمر من أجل الشعب ودفن في مقبرة الشّعب والتصق اسمه بعد موته بأكبر سوق شعبي بالعاصمة «سوق المنصف باي» لذا يحق أن يطلق عليه تسمية «ملك الشّعب».