قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
طفولة مقتولة
 لم تكن ثمة كاميرا لتوثيق الحدث ولا كان بالإمكان توقّع حدوثه أو الإستعداد له بأي وسيلة وإن كانت آلة تصوير. أُغلق المكان بإحكام وتسلّل المسلحون إلى المخيم المضاء عمدا بالكشّافات وبدأت المهمة ليلا لتنتهي صباحا ولم تكن تلك المهمّة سوى القضاء على عدد هائل من البشر بوحشية غريبة عن منطق العصر والحصيلة ما بين خمسة آلاف وثلاثة آلاف شهيد، لا فرق ولا تفريق في القتل سوى بحجم البشاعة والتنكيل الذى لا يكشف سوى عن متاهة الإنسان ودناءته حين ينحدر الى أسفل المراتب حقارة وخسّة. 
ظنّ الذي أضاء بالكشّافات أنه المستفيد من كل ما تمّ من قتل، أما الذى قتل بيده وسيفه وبندقيته وفأسه فلم يكن إلا قاتلا بالوكالة عربي يقتل عربيا مثله بلا ذنب ولا فائدة ولا موجب أصلا، غير أن القاتل إكتشف أخيرا أن المطلوب قتله لا ينتمي إلي الدين نفسه أو الوطن نفسه رغم طول الجوار والعشرة فأي غباء هذا ؟
مر على مذبحة «صبرا وشاتيلا» زمن طويل حتى كاد ينساها الناس  ولكن الباقين على العهد لم ينسوا تلك المذبحة وأنى لهم نسيانها وقد تعاقبت بعدها المذابح فما أرخص دماء المذبوحين ويا حسرة على أمة يذبح أبناؤها ما بين حين وآخر عربا كانوا أو مسلمين، فهما ينتميان الى الحضارة نفسها . ألم نكن شاهدين على مذبحة ملجأ العامرية ومذابح أخرى في الجزائر وفي البوسنة وفي العراق ولبنان وأخيرا في سوريا ومصر.القتل واحد وبلا سبب في المذابح كلها، فقط يزداد عدد الضحايا الأبرياء في كلّ مرّة ونتأكّد نحن من كوننا أمّة قد ضحكت من جهلها الأمم.
لقد انتابني إحساس بالغبن والكآبة وأنا أشاهد صور الأطفال الملفوفين في الأكفان بالعشرات وربما بالمئات استعدادا لدفنهم وكأنهم متاع فائض عن الحاجة، وقد ضاع دمهم بين حاكم قاتل ينفي عن نفسه تهمة القتل وضحية لا قبل لها بردّ المصيبة أو حتى منعه من مزيد من القتل. أطفال كالزّهور تخطف أرواحهم بلا ذنب، وأيّ ذنب يمكن أن يرتكبه طفل يكون جزاءه القتل ؟. لقد اعتصرني الألم ليس من قتلهم بهذه البشاعة  فقط ولا حتى من صمت العالم الذي يدّعي التمدّن وينسج بين حين وآخر قوانين غايتها حماية الطفولة، وإنما تألّمت غاية الألم لكوننا مانزال نهدر طاقاتنا البشرية ونؤسّس لمزيد من التخلف لأن هؤلاء الأطفال المقتولين غيلة من ضحايا «صبرا وشاتيلا» وصولا الى ضحايا القصف الكيميائي كان يمكن أن يكونوا الآن طلاّب علم في مدارسهم قادرين لخدمة أوطانهم بعد أن يكونوا قد حصلوا على كامل حقوقهم في التّعليم والتّنشئة السليمة.
إننا نعيش هذه الأيام على وقع العودة المدرسية في بلاد كثيرة من بلدان هذه الأمّة الممتدّة طولا وعرضا، أفلا يحقّ لنا التّساؤل إن كان من المفيد الإكتفاء بإدانة قتل الأطفال؟ وأن نسأل عن أيّ مستقبل مرجو لأمّة تأخذ أطفالها إلى المقابر بدل أخذهم إلى قاعات الدّرس؟  ألا يجدر بكلّ واحد منّا أن يفكّر بمشاعر الآباء والأمّهات الذين أصابتهم مصيبة الموت اللّعين في أبناء لهم هم كلّ حياتهم لا يعوّضهم عن فقدهم شيء؟ وإلى متى سنظلّ كما نحن الآن أمّة قد سخرت من شدّة حمقها كلّ الأمم؟ 
إنّنا، ويا للمفارقة، لا نضيع أطفالنا بالقتل والتشريد فقط وإنّما نحن مبدعون في أشياء أخرى كثيرة تنذرهم بمزيد من الضّياع، فالبرامج التعليمية تعاني قصورا حضاريّا منذ نشأة دولة الإستقلال، هكذا نكاية في لغة الضّاد التي يزداد تحقيرها عاما بعد آخر حينا أو نكاية في الدّين وأهله وحربا عليه من طرف نخبة وريثة للإستعمار حينا آخر، إذ لا ترى هذه النخبة ضرورة لوجودها إن لم ترفع لواء الحرب على كل مقومات الحضارة العربية الإسلامية التي هي الوعاء الحافظ لوجودنا منذ مئات السنين. 
إننا نزداد تيها وتخلّفا بتتالي الأعوام والأنكي أنّنا نخرج من مدارسنا وجامعاتنا أجيالا لا تحمل أي إحترام للغتها ولا ترى فيها إلا شيئا من الماضي وعبئا تعليميا، بل ثمة من يدّعي بلا مواربة أن لغة العرب لا تصلح للعلوم ولا رابط بينها وبين التقدّم الحضاري، ولا أدل على تدهور مكانتها من كونها الآن في أدنى الترتيب بعد الفرنسية والإنقليزية وقد توقفت جهود التعريب.
إن الأرقام المفزعة التي تصدر عن عدد المتسرّبين من المدارس والمعاهد وهم بالآلاف كلّ سنة، إنما تدلّ على الفجوة الهائلة بين ما نطمح إليه من تمكين لحقوق الأطفال في الرعاية السليمة والتعليم الراقي وبين ما نحققه في الواقع من نفور من التعليم وتحقير للعلم والتعلّم، أليس في هذا قتلا للأطفال على نحو آخر؟ إذ ندفعهم إلى الإنحراف والتشرد والجريمة  أو نسرق منهم أعمارهم وهم أطفال فلا يجدون حاجة في الحياة بلا أي زاد وانظروا إن شئتم إلى حجم ما فيه شبابنا من مأزق.؟
لا يوجد في حياتنا أروع من الأطفال وكلّنا ذريّة بعضها من بعض وإن يألم المرء من مرآى الأطفال المقتولين أو المشرّدين، فهذا أقلّ القليل في هذا الزمن الذي ابتلينا فيه بكل هذا الحجم من البشاعة. غير أن ذلك لن يمنعنا أبدا من الأمل، فنحن أمّة تداعت عليها من قبل أمم كثيرة إحتلت أرضها وقتلت نساءها وأطفالها ولكنها كانت في كل مرة تخسر جولة لتربح مابعدها من معارك ولن يدوم الحال على ما هو عليه فما نلبث أن نصبح أمّة قد عجبت من فعلها الأمم، خير أمّة حافظة للأطفال ليس منها من لم يوقّر كبيرها ويرحم صغيرها ومن يعش يرى عجبا.