نفحات

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
مقاصد الخلق في القرآن الكريم
 إنّ القرآن الكريم إذ «يحضّ على النّظرة الشّاملة الكاملة حين يقول «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ...» (الأعراف: 185) ويقسم هذه النّظرة الشّاملة حين يقول «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(فصّلت: 53) ويختار من آياته في الآفاق وفي أنفسنا ‏أشياء يخصّها بالذّكر»(1) إنّما يدعونا على تفاوت قدراتنا وتباين عزائمنا إلى تبصّر أنوار الجمال ‏والتّفكر في أسرار الجلال، وهي تشعّ من الذّرة إلى المجرّة، صادرة عن مشكاة الحقّ ملابسة ‏لها «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ..» (الأنعام: 73) والحق في هذا السّياق الوارد لفظا ومعنى في غير ما آية من آيات الخلق، يفيد فيما يفيد ‏معنيين متداخلين أولهما أعمّ من الثّاني‎:
الأول مرادف لمطلق الحكمة‎ (2) ‎التي هي على الحقيقة فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي ‏بالقدر الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي. فأمره سبحانه في الخلق مناف للعبث واللّعب ‏والباطل «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(الدخان: 37-38). 
ويندرج تحت هذا المعنى ‏مقصدان عظيمان (3) ‏‎ :‎
أ) ‎قصد النظام‎ : ‎إذ الباري سبحانه يخلق ما يشاء ويختار بالقصد، مجريا له على نظام، ‏ناصبا عليه علامات ودلالات، في الذرات والنواميس والأشكال والمقاييس والأوضاع والألوان ‏والأجواء والأزمان… إلى غير ذلك مما جاء به العالمون عبر الأبحاث في ظواهر المادة ‏والحياة، فوجدوا الله عنده، وقذفوا بما عقلوا فيه من أسمى آيات الحق باطل القول ‏بالمصادفة والاتفاق فإذا هو زاهق. «..وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ..»(الرعد : 8) «مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ»(الملك : 3)‏‎  ‎
ب) ‎قصد الإكرام: ‎إذ مما هو معتبر ابتداء من جعل الخلق على نظام قصد الإكرام، وذلك ‏بتفضل المولى سبحانه على الإنسان دون مخلوقات الأرض، بتزويده بأدوات الاهتداء إلى ‏أسرار النظام، مما هو متاح له باختياره  وعلى قدر جهده، للانتفاع به في جلب مقومات ‏وجوده وتحسين وسائل معاشه وتطوير أشكال حضارته، وفي ذلك إكمال لحسن إيجاده كما ‏قد يستفاد من اقتران مفهوم الإكرام بالخلق، سواء باللفظ كما في أوائل العلق «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ » او بالقرينة كما في قوله سبحانه «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..»(البقرة : 28)‏‎.‎
وأمّا المعنى الثّاني للحقّ فهو أخصّ من الأول، لكنه لا يخرج عمّا صدق الحكمة. ولعلّه ‏يفيد ما أودع سبحانه في كلّ نوع من أنواع المخلوقات من القابليّة لبلوغ كمالها المتيسّر لها ‏المناسب لشأو قوّتها وطاقتها، قال الشّيخ ابن عاشور رحمه الله في تفسير قوله سبحانه «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى»(الروم : 8) «والحقّ هنا هو ما يحقّ أن يكون حكمة لخلق السّموات والأرض وعلّة ‏له، وحقّ كلّ ماهية ونوع هو ما يحقّ أن يتصرّف به من الكمال في خصائصه وأنّه به حقيق… ‏وإنّما يعرف حقّ كلّ نوع بالصّفات التي بها قابليته، ومن ينظر في القابليّات التي أودعها الله ‏تعالى في أنواع المخلوقات يجد كلّ الأنواع مخلوقة على حدود خاصّة بها إذا هي بلغتها لا ‏تقبل أكثر منها… حاشا نوع الإنسان فإنّ الله فطره بقابليّة للزّيادة في كمالات غير محدودة ‏على حسب أحوال تجدّد الأجيال في الكمال والارتقاء»(4) .ويندرج تحت هذا المعنى ممّا له ‏صلة بالإنسان مقصدان عظيمان أيضا: ‏
أ) ‎قصد الابتلاء: ‎إذ المولى سبحانه إنّما جعل الإنسان محلّ إكرام خاصّ بما هيّأ حوله من ‏جمال مناسب لحسن تقويمه، وأودع فيه من سلامة العقل ما يفضي إلى تصحيح اختياره ‏وتسديده، ليتيسّر له خلافة الله في أرضه وفق هداه وتكليفه، باستباق الخيرات والتّنافس في ‏الصّالحات. وفي الجمال الخلقي ومنه الجمال النّفسي امتحان للقلب في كسب الإيمان، ‏وللجوارح في تحصيل ثمرات الكمال والإحسان. فما جعل الله على الأرض من آيات الحسن ‏إنّما يوقظ العقول إلى التّفكير في خالقها وصانعها، ويثير النّفوس للتّدافع جلبا لطيبات زينة ‏الأرض ومحاسنها، على أنّ ابتلاء القلب عند التّفكير بين دفّتي الكفر والإيمان، وابتلاء ‏الجوارح عند التّدافع بين دفّتي الفجور والإحسان. «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(الكهف : 7)‏
ب) ‎قصد الجزاء‎: ‎إذ لمّا كان الإنسان متفاوت الأداء عند الابتلاء في مدى احترام النّظام ‏وحفظ حرمة الإكرام، بحيث «خاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى ‏فاجترح واكتسب»(4)، كان من تمام الحقّ الملابس للخلق إقامة موازين القسط للأعمال، حتّى ‏لا يذهب حقّ المظلوم هدرا، ولا ينتهك العبث للعدل سترا، فكانت الحدود والزّواجر قبل ‏الموت، والهناء والشّقاء في البرزخ قبل البعث، والنّعيم والجحيم عند الحساب «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (الجاثية : 22)‏‎.‎
وبعد، فهذه المقاصد الأربع من مقاصد حسن الإيجاد، مكمّل بعضها لبعض، متكامل بعضها ‏مع بعض، وهي تقع تحت مسمّى الحقّ بالسّوية عند إطلاقه في كلّ آية من آيات الخلق، إلاّ ‏أنّ الاهتمام ببعضها دون بعض متفاوت بحسب ما يقتضيه السّياق من مغزى المقام، وما ‏يعطف على لفظ الحقّ ذاته من ضميم الكلام، بحيث إذا كان الغرض بالأولى إظهار عجائب ‏قدرته وألطاف منّته سبحانه، ردف لفظ الحقّ الإخبار بتفصيل الآيات وبتعاليه جلّ وعلا ‏عن شرك المشركين ونحو ذلك ممّا له صلة بمزيد الاهتمام بقصديّ النّظام والإكرام.
وأما إذا كان الغرض امتحان خلقه وإبراز عدله سبحانه عطف على لفظ الحقّ غالبا الإخبار ‏بالجزاء والأجل المسمى وبإتيان السّاعة ونحو ذلك ممّا يدلّ على فائق الاهتمام بقصدي ‏الابتلاء والجزاء(5)
ثمّ إنّ هذه المقاصد أيضا طرق سابلة إلى العلم بالله وفقهها، طامس لعزم إبليس في قوله «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ»(النساء : 118)، إذ في تغيير خلق الله اجتراء على مقصوده ‏سبحانه من خلقه، وذلك بالخروج عن النّظام إلى الفوضى والصّدام، وعن شكر الكريم إلى ‏اللّؤم والكفران، وعن التّوفيق عند الابتلاء إلى السّخط والشّقاق، وعن الإيمان بالجزاء إلى ‏التّكذيب والهلاك‎.‎
‏«رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» (آل عمران:8)‏‎.‎
الهوامش
(1) قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن، ترجمة الشيخ نديم الجسر ص 303 ‏.
(2) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير - ج 7،  ص.ص 306-307 .
(3) بخصوص قصدي النّظام ‏والإكرام ينظر فيما ينظر الثلث الأخير من قصّة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن.
(4) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير - ج 21 ، ص.ص 52 - 54‏
‎ (5)‎المرجع السابق ج 25 ص 356‏