قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
المرأة في عيدها
 (1) 
لا  يمكن المقارنة بين المدوّنات القانونيّة القديمة والحديثة منها في أيّ مجال من المجالات سواء من حيث التّطور المتزايد أو من حيث الشمول، ورغم ما يجري على لسان العامّة والخاصّة من تمجيد للقديم وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالإسلام مثلا فإنّنا نستطيع بسهولة أن نتبيّن مدى الفرق بين ما هو معاصر وما هو قديم في مسائل عدّة ومنها مسألة المرأة.
(2)
يحتفل العالم كلّ سنة باليوم العالمي للمرأة كما تضع جلّ بلاد العالم في قائمة أعيادها عيدا خاصّا بالمرأة وما يلفت انتباهي الشّخصي كلّما اقترب الاحتفال بعيد المرأة في تونس مثلا أنّنا لا نلامس شؤون المرأة إلاّ من منظور المقارنة بين القديم والجديد ومن منظور الحقوق التي اكتسبتها المرأة فى سياق حضاري غربي محض وسط مفارقة قديمة جديدة تصدمنا كلّ عام مفعمة بالتّناقض البغيض بين واقع المرأة الفعلي ومدوّنات الحقوق وتنظيرات المنظّرين من كلّ اتجاه. 
(3)
لا أستطيع أن أدّعي إلماما بكلّ ما يتعلّق بشأن المرأة قديمه وحديثه، كما أنّني لست بمنآي عن رواسب النّشأة في بيئة هي في عمومها لا تحترم المرأة ككيان فضلا عن التّشبع بما لها من حقوق، ولا شكّ عندي في أنّ الأمر ليس خاصّا بشخصي وإنّما هو شأن عام ينسحب على الجميع، إذ أنّنا لم ننشأ على احترام المرأة ككيان إنساني ولا على الاعتراف بما لها من حقوق أوجبها الشّرع أو جاءت بها مدوّنات الحقوق الحديثة.
وبغضّ النّظر عن أيّ قصور معرفيّ أو رواسب ثقافيّة قد تعيق من يتصدّى لموضوع حسّاس كموضوع المرأة، تظلّ مقاربة الموضوع في حدّ ذاتها أمرا في غاية الأهمّية في مجتمع نصفه من النّساء ويعاني ما عانته المجتمعات المتقدّمة من إشكاليات قبل وبعد الطّفرة المعرفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عرفتها.
(4)
هل الشّأن النّسائي شأن ديني ؟ أم أنّه شأن سياسي ؟ أم هل لهذا الشّأن بعد اجتماعي محض ؟ أم هل هو في النّهاية شأن اقتصادي؟
في اعتقادي لا يمكن الفصل بين شأن وآخر إذ يتعلّق الأمر هنا بالدّين والاجتماع والاقتصاد كما يتعلّق بالسّياسة والحقوق. وإذا سلّمنا بأنّ المرأة كيان إنسانيّ قبل كلّ شيء، فإنّنا سنخلص في النّهاية إلى كون هذا الكيان إنّما يتشكّل ضمن بيئة سياسيّة دينيّة ليكون له دور اقتصادي يمارسه كما غيره من الرّجال في إطار ما يسمح به القانون وتقتضيه الأعراف الخاصّة بمجتمع دون آخر.
إن المشكلة الرّئيسية في مقاربة موضوع المرأة هي محاولات الاستغلال التي دأب عليها السّياسيون والمفكّرون والمهتمون بقضايا المجتمع، حيث ينبري كلّ طرف لاستغلال الشّأن النّسائي من أجل غايته السّياسية أو الايديولوجيّة ليقدّم الأمر على مقاس ظرفي ضيّق أو ليطوّع قضيّة المرأة تطويعا لخدمة غرضه السّياسي أو الفكري قافزا في كثير من الأحيان على مقتضيات الواقع أو حتّى على رغبات النّساء.
(5)
لقد كان موضوع المرأة مثار جدل دائم وما زال وهو لذلك مثار للصّراع الفكري والسّياسي فى المجتمعات المتقدّمة أو النّامية على حدّ السّواء، غير أنّه أصبح مجالَ استقطاب حادّ في المجتمعات يثير من الصّراع أكثر ما يثير من التّوافق . 
لقد كان الرّئيس بورقيبة مثلا حريصا على تقديم نفسه حاميا لحقوق المرأة منذ بواكير عهده، وهو من أصدر مجلّة الأحوال الشّخصيّة التي كان يعدها بمثابة الكنز الحقوقي لامرأة ما بعد الاستقلال. ولكنّ الحرص البورقيبي على حقوق النّساء كان ضمن مقاربة سياسيّة وفكريّة حديثة، ولكنّ الجدل بشأن هذه المجلّة استمر رغم ما لاقته وتلاقيه من قبول في أوساط المجتمع ورغم التّحوّل الهائل الذي أحدثته في المجتمع التّونسي على مدى عقود طويلة.
وكمثال على الصّراع الدّائر بشأن المرأة ما تعلّق بقضيّة الإرث، إذ حاولت بعض النّخب بدافع سياسي وفكر معيّن إحداث تغيير في المواريث ومقاديرها لينفجر بذلك جدال بلغ مدى مخيفا من الحدّية انتهي بسقوط ما قدّم على أنّه ثورة تحديثيّة في مجال الحقوق، بعد أن اصطدم بنصّ ديني غائر في وجدان النّاس ما كان يمكن فسخه من وجدانهم رغم ما قدّم من تبريرات . 
(6)
لا يتعلق الأمر بالاستغلال السّياسي والفكري ولا بالتّناقض بين النّخب التي تدّعي الحداثة وتلك التي تقدّم على أنّها نخب محافظة وإنّما يتعدّاها إلى ما هو ديني واجتماعي واقتصادي.
لقد حاول المفكرون المسلمون حديثا التّأكيد على أنّ الإسلام كرّم المرأة كما الرّجل وأعطاها من الحقوق الكثير ولهم في ذلك أمثلة عديدة على هذه الحقوق، كما دأب معظمهم على تقديم قضيّة المرأة ضمن إطار عام يتعلّق بالحقوق الإنسانيّة في الاسلام عامّة دون تخصيص، معلّلين ذلك بالقول أنّ الإسلام لا يجزئ القضايا على أساس الجنس أو النّوع وإنّما يعطي الحقوق نفسها للرّجال والنّساء. ولقد تعرّضت النّخب الفكريّة الإسلاميّة إلى ضغط شديد من طرف النّخب المناوئة لها ما جعلها تضطرّ في معظم الأحيان إلى نوع من التّلفيق الذي لا يؤسّس مقاربة خاصّة وإنّما يلفّق بين القديم والحديث على نحو متهافت غير مستساغ.
(7)
دأب الغرب على تقديم نفسه كداعم للحقوق الاقتصادية للنّساء ولا شكّ أنّ ما فعلته المدوّنة الحقوقيّة الغربيّة في مجال الحقوق الاقتصاديّة النّسائيّة يعدّ ثورة حقوقيّة جبّارة لا يمكن إنكارها، ولكنّنا ما نزال نلاحظ خللا في تنزيل هذه الحقوق في الواقع، حيث ما تزال المرأة تعاني من الحيف والتّمييز في المجال الاقتصادي من حيث الأجر والاستغلال الاقتصادي. 
ولئن استطاع الغرب مواءمة الحقوق النّسائيّة مع الواقع الاجتماعي للمرأة رغم بعض القصور الذي تعانيه، فإنّنا ما نزال بعيدين جدّا عن مقاربة القضيّة النّسائيّة مقاربة تحفظ للنّساء حقوقهنّ دون تناقض مع الواقع ودون السّقوط في الجدال الفكري العقيم أو استغلال قضيّة الحقوق النّسويّة في الصّراع السّياسي الذي يضرّ المجتمع أكثر ممّا ينفعه.