في الصميم
بقلم |
د. محمد نجيب بوطالب |
التهميش التنموي طريق الى الاغتراب والاحساس بظلم الدولة: معتمدية الصمار مثالا (1/2) |
مقدمة :
تشير أغلب نظريّات علم اجتماع التّنمية من نظريّة التبعيّة الى نظريّة العنف الرّمزي مرورا بنظريّة التّنمية المندمجة ونظريّة المركز والمحيط ونظريّة المخالطة الفارقة ونظريّة التّهميش الاجتماعي وغيرها الى أنّ الإفراط في تهميش المناطق والجهات والجماعات في برامج التّنمية الاجتماعيّة و الاقتصادية ومخطّطات التّنمية في الدّول الحديثة لا يؤدّي إلاّ إلى تنامي مشاعر الغبن لدى سكّان تلك المناطق وانتشار مظاهر العنف والهجرة وانتشار مختلف الانحرافات الناتجة عن إحساس الشّباب بانعدام العدالة في التّنمية مع الجهات والجماعات الأخرى. ورغم تنبّه بعض الدّول الى هذه الإخلالات في مخطّطات التّنمية التي برمجت بعد الاستقلال وبناء الدّولة الوطنيّة التي ورثت أعباء ثقيلة من الاستعمار، فإنّ الصّورة الحالية التي يستخلصها المتابع للتّنمية في تونس بعد 2011 يلاحظ تناقضا صارخا بين الخطاب الرّسمي وبين الواقع في الجهات الدّاخلية في الأطراف وخاصّة في جهتي الجنوب الشّرقي والشّمال الغربي للبلاد. وسنقدم في هذا المقال - الذي سيكون على جزئين - مثالا معبّرا وصارخا رغم صمته وتهميشه بحثيّا وإعلاميا وسياسيا، حتّى داخل جهته وإقليمه.
هذا المثال هو منطقة الصّمار التي ترتقي كنموذج للتّهميش التّنموي الى نموذج مثالي بالمعنى السّوسيولوجي الفيبري يمكن أن يكون ملائما للتّدريس والتّطبيق على إشكاليّة «التّنمية المهمّشة» في البلدان النّامية رغم بعض الأوهام بتحقيق التّنمية المثاليّة التي يروّج لها أغلب الفاعلين السّياسيين بالمنطقة.
ثنائية التهميش و وفرة الموارد
تتّفق أغلب الدّراسات العلميّة للتّهميش التّنموي في البلدان النّامية على أنّ المناطق المهمّشة والتي توصف بالفقر وضعف الموارد وهشاشتها إنّما على العكس من ذلك هي مناطق غنيّة بمواردها الطّبيعية والاقتصاديّة والبشريّة وهي قادرة على النّهوض بذاتها إذا ما اعتمدت الدّولة في تنميتها على التّخطيط العقلاني بعيد المدى أي التّنمية المستدامة. وفي هذا المجال فمثالنا التطبيقي «الصمار» غنيّ بحسب المختصّين بموارده الطّبيعية والسّياحية والاقتصاديّة والثّقافيّة والبشريّة ويكفي الرّجوع إلى الاحصاءات حيث تحتلّ فيها جهة الصمار المراتب الأولى جهويّا في بعض الموارد الفلاحيّة، كتربية الماشية والمراعي والموارد المائيّة والأراضي الصالحة للفلاحة، فضلا عن الموقع الجغرافي المتوسّط بين السّاحل والمراكز الحضريّة بالجنوب الشّرقي وبين الحدود مع ليبيا والمناطق السّياحيّة الجبليّة والصّحراويّة ومرتفعات الجبال الثّرية بمواد الجبس والطين والرّخام وحجارة التّزويق واحتوائها على ثروات استراتيجيّة في سباخها من الأملاح ومشتقّاتها.
تبدو عمليّات الاستثمار الرّاهن لهذه الموارد محتشمة جدّا. وقد زاد من تهميش التّنمية بالجهة أنّ المناطق المحيطة لم تستفد من تدخّلات المستثمرين الخواص الذين كان همّهم استنزاف الثّروة دون تخصيص أقساط من أرباحهم للسّكان المحليّين عبر التّشغيل وتقديم مساعدات اجتماعيّة وخدمات لهم (منطقة وادي الغار الغنادريّة حيث معامل صناعة الجبس ومنطقة قصر عون حيث مصنع انتاج الأملاح). تبدو الدّولة في هذا المجال مجرّد وسيط يخدم مصالح المستثمرين الوافدين من خارح المنطقة ومن خارج البلاد. ويبدو الأمر أخطر حينما تتحوّل الدولة بأجهزتها الجهويّة والمحلّية الى مجرد خادم وميسر للرّبح الفاحش والسّريع لهؤلاء المستثمرين دون القدرة على وضع شروط دنيا لتحقيق تنمية محليّة تنعكس ايجابيا على حياة السّكان. هذا ما يؤكّده غياب حركيّة اقتصاديّة فاعلة بالمنطقة.
الدولة الواعدة - الدولة «الكاذبة»
إنّ أخطر ما تواجهه الدّولة اليوم في أغلب الدّول العربيّة بعد موجة « الرّبيع العربي» هو فقدانها لمصداقيتها وقدرتها الفائقة على «الكذب والصّلف» أمام منظوريها بفعل النّزعة الشّعبويّة التي قادت خطاب نخبها الجديدة متسلّحة بوعود ومندفعة برغبة جامحة في تغيير لا يراعي هشاشة الإمكانات المتاحة، مع فقدان فاضح للخبرة السّياسية وعجز كبير في مجال التّسيير الاداري وتدبير الشّأن العام بعقلانيّة الممكن والمتاح ومعرفة بتفاصيل إشكاليّات التنمية في المنطقة(الجنوب الشرقي) مثل : إشكاليّة الأراضي الاشتراكية وإشكاليّات المياه والمراعي والقطيع، وإشكاليّة العلاقة التاريخية والجغراسياسيّة بالجار الشّرقي وإشكاليّات التّشغيل والصّحة والتّعليم وغيرها .
لعلّنا بمعايشتنا الواقع وقيامنا بعديد الدّراسات الأكاديميّة حول جهة الجنوب الشّرقي واطلاعنا القريب على حيثيّات هذا الواقع، لعلّنا نضيف في هذا المجال المعرفي مفاهيم ومصطلحات جديدة تعزّز رصيد المنظومة المفاهيميّة حول خطاب التّنمية في البلدان النّامية يتجاوز ما ساد في خطاب مدرسة التّبعيّة في السّتينيات من القرن الماضي، والكذب هنا ليس توصيفا أخلاقيّا نطلقه جزافا أو مجرّد تهمة تطلق بلا سبب بل هو وصف يفرضه التّحليل السّوسيولوجي العلمي. فتوصف المؤسّسات والهياكل والمنظّمات بالكذابة والنساية والملفقة وغيرها من الأوصاف التّحليلية، وهو توصيف ذو بعد قانوني تعريفه الاجرائي هو التالي:عدم القدرة على الايفاء بالوعود، من قبل مسؤولين على مستوى رفيع، أو هو تصميم على فعل أشياء وإنجاز مشاريع دون توفّر مصادر التّمويل وغياب الدّراسات والجدوى. وحتّى لا نقع في طائلة الإحراج المفاهيمي، يمكننا استخلاص هذا السّلوك الذي يقود الى الحكم على الدّولة ومؤسّساتها بالتّملص من وعودها والتّهاون في أداء واجباتها بعبارات دالّة مثل: التّخلّص – التّراجع – التّلكؤ - التّهرب – التّناقض – التّأجيل – التّواكل -رمي الكرة للآخر - النّكران.. كما أنّ الوعود بمشاريع تنمويّة محلّية تعطى في كثير من الأحيان قبل مرحلة القيام بالدّراسات وبمجرد التّوقع وفي سياق الخطاب السّاخن الذي يلهب في العادة عاطفة الجمهور المتعطّش للتّنمية بجهته .. كثيرا ما تصدر هذه الوعود عن وزراء وكتاب دولة، وزيارات هؤلاء الى منطقة الصّمار نادرة جدّا فبمقارنة بين عدد زيارات الوزراء وكتّاب الدّولة الى معتمديات ولاية تطاوين يتبيّن أنّ الصمار لا تحظى بسوى زيارة واحدة لوزير في السّنة رغم أنّ معظمهم يمرّون حذو المعتمديّة في ذهابهم وإيابهم الى العاصمة عبر مطار جربة ...وهذا اغتراب آخر لا نجد له تبريرا مقنعا. ومن المفارقات أنّ مهرجان الجزّ الأقدم في مهرجانات الجهة لم يحظ بافتتاح أو اختتام وزاري منذ سنوات. أمّا الولّاة والمدراء العامّون، فلا يكاد ذكر منطقة الصمار يصدر عنهم كلاما أو حضورا بما في ذلك نواب جهة تطاوين في مجلس النّواب، وحتّى إذا ما تعرّض بعضهم للتّنمية بالصمار، فإنّ وعودهم ودفاعهم على الجهة كثيرا ما يأتي في سياقات وضعيّات خاصّة أي خلال ظرفيّات الضّغط الاجتماعي بعد الاحتجاجات والاعتصامات والاجتماعات كما هو الشأن في جهات عديدة كجهة الحوض المنجمي وجهة بنقردان وجهة تطاوين وغيرها .
إنّ كثيرا من هذه الوعود ناتج عن سياسات شعبويّة جاءت تحت الضّغوط أو في ظرف الاستعداد للانتخابات والمنافسة السّياسيّة. لكن الأخطر من كلّ هذا أنّ الوعود والعجز عن تحقيقها متكرر، وهذا ما أضعف من مصداقيّة الدولة، وهو ما يسمّى في الخطاب السّائد بـ «غياب هيبة الدّولة» الذي يتّفق عليه الجميع سلطة ومعارضة. ولعلّنا نشير هنا الى أنّ اقتراب المسؤول من المواطن وتفاعله معه وإصغاءه اليه وإلى مشاغله أمر واقع ولكنّه مع ذلك (أي المسؤول) لم يتمكّن في مواصفات تكوينه من حلّ المشاكل بل يزداد الطّين بلّة حينما تتحوّل إدارة الشّأن العام من قبل المسؤولين الى سلوكات مرتجلة نابعة من الخوف والمجاملة والتّخلص من الإحراجات، فضلا عن أنّ مقارنة بين طرق تكوين المسؤول الإداري تبدو متعجّلة في التّجربة الجديدة إذ كثيرا ما تخضع الى المحاباة والغنم السّياسيين أو التّرضية العائليّة والقبليّة والجهويّة إن لم تكن «ترضية نضاليّة». هذا هو الواقع وهذا ما جعل الدولة تتحوّل في السّنوات الماضية الى رهينة بيد «مواطنيها» و«مجتمعها المدني» خاصّة.
ولعل المشكل المحلّي كان متأثّرا بشكل كبير بالإجراءات والسّياسات المتّخذة على الصّعيد المركزي بدوافع سياسيّة تعتمد منهجيّة القطيعة بدلا من منهجيّة التّواصل في التّعامل مع إرث الدّولة الوطنيّة ودولة الاستقلال بنجاحاتها وإخفاقاتها. وسنسوق هنا مثالا معبّرا على ذلك التّسرع والتّنكيل بالإدارة التونسيّة وإرثها المشهود له بالقدرة والحكمة. لنأخذ مثالا مؤسّسة العمادة التي تمّ تهميشها بعد «الثّورة» بداعي الأدوار الأمنيّة المشبوهة التي كان يقوم بها العمدة سابقا والتي يبدو أنّها أضرّت ببعض المواطنين المعارضين للدّولة، هذا على المستوى العام والوطني، هذه المؤسّسة مرّت منذ الاستقلال بعدّة مراحل منها انّها تحوّلت من مؤسّسة المشيخة الى العمادة وتغيّر الوضع الإداري والقانوني والاجتماعي للعمدة الذي ظلّ يلعب أدوارا هامّة في التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة بمنطقته وظلّ يرث تجربة كبيرة لها ثقلها الاجتماعي ساعدت الدّولة على تحقيق تواصلها وتجسيد تمثيلياتها المحلّية والجهويّة مساعدة كبيرة الى اليوم، ومع ذلك تمّ تهميش هؤلاء وتمّت الإساءة إليهم، وتبيّن لدى الخبراء الذين يسمّون العمد بـ «مفاتيح التّنمية» في مناطقهم أنّ هؤلاء أصبحوا آخر من يستشارون في القضايا التي تهمّ منظوريهم ومناطقهم. وقد بينت التّجربة أنّهم حينما لا يستشارون فإنّ التنمية تتعطّل في مناطقهم والأمثلة عديدة مع مشاكل المواطنين مع المقاولين العاملين بالمنطقة في مجالات الفلاحة ومدّ الطرقات وغيرها .
لقد ظلت هذه الفئة الإدارية دون دعم مادّي ولم تحظ بدعم تنظيمها النّقابي الذي ظلّ بدوره مهمّشا، ولم يعر السّياسيون والإداريّون لهذه الوضعيات والمشكلات انتباههم، أنّهم لا يستطيعون القيام بدور العمدة كشخصيّة وسيطة بين إدارة عصرية ومجتمع أهلي مشبّع بالتّاريخ والأعراف.
التنمية بالصمار نموذجا
تعتبر معتمدية الصمار بعد بعثها في عام 1980، مع انفصال ولاية تطاوين عن ولاية مدنين، من المناطق النّموذجية في المدن النّاشئة والتّجمعات المندمجة التي تطوّرت بعد الاستقلال تطوّرا كبيرا حولها الى منطقة استقرار للسّكان الذين كانت تعتمد حياتهم على الاقتصاد البدوي الفلاحي وعلى فائض معتبر من عائدات الهجرة الى فرنسا. ومع سياسات الدّولة في التّوطين وخاصّة عن طريق التّعليم وتوفير الخدمات للسّكان الرّيفيين تمكّنت المنطقة من أغلب مرافق الحياة الحضريّة من ماء وكهرباء وصحّة ومسكن واتصالات ومواصلات وغيرها. لكنّ التّنمية بالجهة توقّفت عند تلك الخدمات وظلّ مشكل التّشغيل يمثّل المشغل الأساسي للسّكان ممّا جعل الصمار تحتل المراتب الأولى في الولاية والاقليم مقارنة بعدد السّكان في ممارسة شبابها للهجرة السّرية من جهة والهجرة الى المدن الكبرى من جهة ثانية، فضلا عن احتوائها لأعلى معدّلات البطالة (30 %). كما ظلّ القطاع الفلاحي رغم تشجيعات الدّولة يفتقد الى ديناميكيّة واحكام العلاقة بين الاحتياجات والموارد الذّاتية فضلا عن استمرار انعكاسات الجفاف والاستغلال الجائر للأرض والماء والمرعى على تدهور التّنمية المحلّية بالمنطقة وخاصّة إشكاليّات العلف وترويج الانتاج الفلاحي والوقود .... وممّا زاد الطّّين بلة اعتماد الدّولة على تنظيم مجالي جديد «يحذف» مفاهيم المناطق الريفية ومجالات الرّعي من قاموس الدّولة واستبداله بمفهوم البلديّات التي شملت المناطق الحضريّة والرّيفية والرّعوية والبدوية دون تخصيص أو تنسيب. ومعروفة هي الأسباب التي أدّت الى ذلك لدى المختصّين في علم اجتماع الرّيف وعلم الجغرافيا . فقد طغى على هذه السّياسات الجديدة كثير من التّسرع الذي وضع تلوينات التّقسيم المجالي للبلاد في سلّة واحدة لحلّ مشكلات الإدارة وتعويم التّنمية بها بصور تبدو جميلة وشاملة ولكنّها تفتقد الى أبسط الامكانات والنّجاعة.
كيف لبلدية ناشئة بآلات تنظيف قليلة ومهترئة أن تستطيع توفير النّظافة وصيانة منشآت التّنوير وتوزيع المياه والخدمات الأخرى من مصبّات وتهيئة وغيرها في مجال شاسع يتميّز بالتّشتت السّكنى؟.
كيف يمكن لمجال جغرافي تتداخل فيه الوظائف الحضريّة والرّيفية والإدارية أن يحقّق أهدافه التّنموية في ظلّ إمكانات مادّية وبشرية محدودة لا يبرّرها سوى التّرضية والمحاباة ؟
للحديث بقيّة
|