نفحات

بقلم
عبد الحق التويول
من مظاهر الإعجاز في حفظ القرآن الكريم
 «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)، هي الآية التي أعلن الحفيظ سبحانه من خلالها عن تكفله ‏بحفظ كتابه من فوق سبع سموات قاطعا العهد على نفسه سبحانه بتحقيق ذلك، وهو الوعد الذي تأتى به فعلا ‏حفظ هذا الكلام الذي فاق أيّ كلام والذي جاء فوق معهود العرب في التّخاطب إلى يومنا هذا ولا يزال كذلك ‏محفوظا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.‏
بالرّجوع الى تاريخ الإسلام، نجد أنّ حفظ كلام الله بدأ منذ نزول أوّل آية على قلب الحبيب المصطفى صلى ‏الله عليه وسلّم حيث كان صدره وعاءً حافظا لكلام الله طيلة ثلاث وعشرين سنة، وعنه تلقفه الصّحابة بلهفة ، فكثرت الأوعية الحاوية لكلام الله جلّ في علاه، ثمّ سرعان ما ‏زاوجوا بين الحفظ الصّدري والحفظ السّطري وذلك بتدوينه ابتداءً في الرّقاع والجلود ..، إلى أن يسّر الله تعالى ‏حفظه وجمعه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه في مصحف واحد عرف بالمصحف الإمام وهو هذا ‏الذي بين أيدينا إلى اليوم.‏
وكلّما ابتعدنا عن عهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وكثر الحفظة وتنوّعت طرق الحفظ  لديهم  نتيجة ‏للارتباط الوثيق بين المسلم وبين هذا الحبل المتين والذكر الحكيم، والصّراط المستقيم، هذا الكتاب الذي لا ‏تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تفنى عبره، حتّى وجد في أصقاع الأرض من المسلمين من يحفظ كلام الله عن ظهر قلب صغيرا كان أو ‏كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، بل قد تقف مشدوها في هذا الزّمان أمام آيات من الحفظ أبطالها براعم صغار ‏وشيوخ كبار ونساء قد بلغن من الكبر عتيّا ولربّما أصبن بأمراض خاصّة تلك التي تصيب الذّاكرة فتنسيهنّ كلّ ‏شيء إلاّ القرآن، إنّها معجزة من معجزات الرّحمان، ولا زلنا نرى يوميّا كيف أنّ أعاجما لا يفقهون في لغة ‏العرب شيئا إلا أنّهم يضبطون القرآن ضبطا ويحفظونه حفظا، بل إنّنا نجد حتّى أصحاب العاهات والإعاقات ‏يتنافسون في حفظه وترتيله، وهذا أمر معروف والواقع يشهد له ويؤكّده، وهذا الأمر وإن كان يثير شيئا من ‏الدّهشة والانبهار إلاّ أنّه لا ينبغي له ذلك باعتبارنا أمّة مسلمة وحبّ القرآن يجري في عروقنا ولهذا فقد تواتر ‏حفظه منذ عهد رسولنا ونحن على ذلك سائرون إلى أن يشاء ربنا.‏
لكن لعلّ ما ينبغي أن يثير استغرابنا حقّا في مسألة حفظ القرآن ويجعلنا نقف مشدوهين صدقا هو عندما نرى ‏كيف تحقّق وعد الله بحفظ كتابه وكيف أنّه لم يسخّر لذلك المسلمين فقط كما قلنا، بل سخّر لذلك حتّى غير ‏المسلمين  خاصّة في عصرنا هذا، عصر التكنولوجيا والثّورة الرّقميّة التي أفرزت الحواسيب والهواتف الذكيّة ‏والألواح الإلكترونيّة والشّرائح المعدنيّة والمواقع الإلكترونيّة وغيرها من الوسائل والتقنيات غير المسبوقة، ‏وهي في أغلبها كما يعلم الجميع نتاج غير المسلمين من الأوروبيين والأمريكيين بل وحتّى البوذيين فهم من ابتكر‏هذه الوسائل وطوّروها وحازوا قصب السّبق في ذلك، ولو تأمّلنا وسيلة واحدة منها مثلا وهي الهاتف ‏لوجدنا أنهم ركبوا فيه برامج كثيرة ومتنوعة تتيح إمكانيّة حفظ القرآن الكريم بجودة عالية، إذ أصبح بالإمكان ‏وبضغطة أو لمسة واحدة أن يحصل المسلم على ما لذّ وطاب من التّطبيقات التي تفتح الشّهيّة لقراءة القرآن أو ‏الاستماع إليه بمختلف القراءات مع الوقوف على كلّ الشّروحات لكلّ آية وما اشتملت عليه من أحكام ‏ومقاصد ومعانٍ، وأغرب ما في الأمر كما قلنا أن هؤلاء المبتكرين هم على عقائد ومذاهب لا علاقة لها بالإسلام بل قد تجدهم في مواقفهم السّياسية أو غيرها ‏من أشدّ المُعادين والمعارضين للإسلام لكن أطماعهم المادّية في التكنولوجيا طوعتهم لخدمة كتاب الله وحفظه من ‏حيث لا يشعرون بما يضمن لهذا الكتاب البقاء والمواكبة لكلّ عصر ولكلّ تطور، وهذا مظهر معجز من الله ‏سبحانه وتعالى يبرهن بالملموس والمشاهد على معنى حفظ الله لكتابه حين قال جلّ في علاه «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» ليرى الكلّ قدرة الخالق سبحانه على حفظ ما توعّد به وكيف أنّه سخّر لهذه الوظيفة ‏الجليلة حتّى أعداءه ومن كفر به وهم يقومون بها على أتقن وجه وبجودة عالية مبتكرين بذلك نوعا جديدا من ‏الحفظ ينضاف لأنواع الحفظ المعروفة عند المسلمين (حفظ الصدر وحفظ السّطر) وهو الحفظ الرقمي، ‏فسبحان من خضّع لأمره الكلّ بدون استثناء طوعا (المسلمين) وكرها (غيرهم)، وصدق الله العظيم إذ يقول ‏في محكم التنزيل «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»(2) ‎» ‎‏) ‏‏(آل عمران 83) .‏
الهوامش
(1) سورة الحجر - الآية 9
(2) سورة آل عمران - الآية 83