حوارات
بقلم |
التحرير الإصلاح |
د. محمد المدنيني : الاجتماع السياسي عند الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشور |
(1)
«الاجتماع السّياسي عند الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور» هو عنوان الأطروحة الّتي تقدّمتم بها لنيل شهادة الدّكتوراه، فما الّذي حملكم على اختيار هذا الموضوع؟
تبدو الكتابات المهتمّة بدراسة الجانب السياسي في فكر ابن عاشور قليلة إن لم تكن نادرة حسب اطّلاعي، ذلك أنّ معظم الدّراسات ممّا اطّلعت عليه، ركّزت -في تناولها هذا الفكر عموما بالبحث والتّحليل والنّقد- على مجالات بعينها، متفرّقة أو مجتمعة، ولم تجعل هذه الدّراسات فكره السياسي إطارا أوسع يفسّر مشروعه الإصلاحي. وإن لم يقـــدّم صاحب”أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام “ نفسه مصلحا سياسيّا في المقام الأوّل، فإنّ المتتبّع لآثاره السياسيّة يكتشف الرّجل مفكّرا سّياسيا.ولذلك قدّرت أنّ أيّ جهد يبذل في اتّجاه فهم فكره لا يمكن أن يؤتي أكله دون النّظر فيه من الزاوية المغيّبة في الدراسات، وهي السياسة. وإنّ الكشف عن المضمون السياسي لفكره يكتسب أهميّة قصوى فـي وقتنا المعاصر لأنّ مسألة الشريعة والسياسة الّتي دار فيها الجدل بين أصحاب الفكر الإسلامي، وأصحاب الفكر العَلماني، ما زالت مسوغات الجدل حولها قائمة إلى يومنا هذا، وتعتبر من أهمّ مسائل الخلاف السياسي وأخطرها في المجتمع الإسلامي.
ولئن تمكّن العلمانيّون من حسم مسألة الفصل بين الدين والسياسة إلى حدّ إلغاء العلاقة بينهما على المستوى العملي بإقدام مصطفى كمال أتاتورك على إلغاء الخلافة، وإقامة نظام جمهوري على أنقاضها، ثمّ على المستوى العلمي بإقدام الشّيخ علي عبد الرّازق على إصدار كتاب” الإسلام وأصول الحكم“ لينفي به أيّ وجود للدّولة والحكومة في الإسلام ، فإنّ الفكر السياسي الإسلامي ظلّ متأزّما، لعجزه عن صياغة الأسس المعرفيّة والمنهجيّة للنّظام السياسي في الإســلام، ولعدم قدرته على مواجهة التحديات التّي يفرضها الواقع الاجتماعي والسياسي باستمرار. وإن بدت تباشير محاولات تنظيرية جادة تظهر في الأفق الفكري والسياسـي.
وفي كتابات الشّيخ محمد الطّاهر ابن عاشور اجتهادات جدّية من شأنها أن تكون مجال دراسة وبحث لتجاوز الكثير من الإشكاليات السياسيّة الضّاغطة على الفكر الإسلامي السياسي المعاصر، على المستوى النّظري انطلاقا من اعتماده على أصول المعرفة الإسلاميّة، وعلى المستوى العملي استفادة من واقع التّجربة الإنسانية.
وإنّ النّاظر في هذه الكتابات يجد تناول صاحبها مفاهيم الفكر السياسي الحديث ومعالجتها مثل الدولة العصرية وخصائصها، والديموقراطيّة وأنواعها وتجلياتها، وأنظمة الحكم وأنواعها والمجالس النيابية وأشكالها :حرية الاختيار والانتخاب، والنظام الجمهوري الرئاسي، ومهام رئيس الدولة، والبرلمان، والرأي العام...
هذه العوامل مجتمعة هي الّتي حملتني على اختيار موضوع «الاجتماع السياسي عند الشيخ ابن عاشور».
(2)
ما هي الإشكاليّة الّتي قام عليها بحثكم؟
كيف بحث الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور قضيّة تكوين المجتمع السّياسي الإسلامي ومقوّماته، وقضيّة الدّولة الإسلاميّة في تشكّلها ومبادئها ووظائفها، وفي استمرارها بعد العهد النبوي؟.
(3)
ما هي المراجع الأساسيّة الّتي اعتمدتموها؟
سعيْتُ إلى الحصول على بعض الدّراسات ذات الصّلة بالاجتماع السياسي عند الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشور أو بفكره السياسي عموما، فلم أظفر إلاّ ببعض الدّراسات والكتابات المعاصرة التي تطرقت إلى موضوع «الاجتماع السياسي في الإسلام» وتحديدا كتاب «في الاجتماع السياسي الإسلامي» لمحمّد مهدي شمس الدّين الّذي يشترك مع موضوع البحث، في مجال الاهتمام وهو الاجتماع السياسي الإسلامي، وفي بعض العناصر مثل عنصر تكوين المجتمع السياسي في الإسلام ومقوّماته، وقضيّة الدولة الإسلاميّة، وأسسها النظريّة، والأسس والقيم الأخلاقيّة والسياسيّة الّتي شكّلت المجتمع المسلم.
ويتميّز عنه بمعالجته من داخل الفكر السنّي وما يقتضيه من خصوصيّات فـــي مسائل الحكـم وطبيعة السّلطة، وإدارة الدولة، وشؤون المجتمع.
واعتمدت أساسا على آثــار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وهي: «أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام» و«مقاصد الشريعة الإسلاميّة» و«التّحرير والتّنوير» و«نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرّازق» و«جمهرة مقالات ورسائل الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشور» لمحمّد الطاهر الميساوي، وهو عمل ضخم يقع في أربعة مجلدات، استوعب فيه صاحبه ما أمكنه الوصول إليه من مقالات الشيخ الإمام وبحوثه العلميّة ممّا نشره في عدد من المجلاّت التي تعامل معها في بداية مسيرته الفكريّة، ومن الرّسائل والأبحاث الّتي نشرت مستقلّة، ومن إنتاج رافق تحقيقه لعدد من دواوين الشّعر وكتب الأدب، ومن طائفة من الخطب الّتي ألقاها في مناسبات مختلفة بوصفه شيخا لجامع الزيتونة وفروعه، ومن مخاطبات ورسائل صدرت منه لأشخاص من شيوخه وزملائه وأصدقائه.
(4)
ما هي الخيارات المنهجيّة الّتي اعتمدتموها في بناء رسالتكم من أجل الإجابة على مختلف الأسئلة الّتي استشكلتموها؟
اعتمدت في البحث بالأساس المنهج التحليلي الّذي يقوم على تناول الإشكـاليّات العلميّة المفرّقة ذات الصّلة بالاجتماع السياسي عند الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشـور، بالرجوع إلى «أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام» و«نقد علمي لكتاب: الإسلام وأصول الحكم» و«مقاصد الشريعة الإسلاميّة» و«أليس الصّبح بقريب»، وذلك بدراسة طبيعة هــذه الإشكالات ووظائفها لاستخلاص مقاربته في الاجتماع السّياسي.
ويتألّف المنهج التّحليلي المعتمد على ثلاث عمليّات قد تجتمع كلّها أو يجتمع بعضها في دراسة المسألة الواحدة، وهي كما يلي:
أ- التفسير: ويكون بشرح القضايا المتعلّقة بتكوين المجتمع السياسي الإسلامي، وأسسه ومبادئه، ونشأة الدولة الإسلاميّة، وإدارتها لشؤون المجتمع انطلاقا من النّصوص العلميّة المستمدّة من كتابات الشيخ محمد الطّاهر ابن عاشور، ومحاولة إرجاع هـذه القضايا المفرّعة إلى أصولها، وربط آراء الشيخ ابن عاشور ومواقفه بدواعيها وبواعثها.
(ب) النقد: ويكون بدراسة أصول مقاربته في الاجتماع السياسي الإسلامي، دراسة توضّح الإطار الملائم لتفكيره السياسي، وتكشف عن حجم الإضافة الّتي قدّمها للفكر السياسي الإسلامي بما يساعد على توفير الحلول السياسيّة المناسبة لحياتنا المعاصرة سواءً أكانت نظريّة كتلك الّتي تطرحها العلوم السياسيّة، أو علم الاجتماع السياسي، أم عمليّة كتلك الّتي تفرضها التغييرات في عالم السياسة، وتمارس التّقويم (النّقد) علــــى فكـره السياسي لتُبِينَ عن حدوده في علاقته بالإنتاج القديم، وفي علاقته بواقع عصرنا.
(ج) الاستنباط: في معناه الكلّي، وذلك بالاجتهاد والنّظر في الإنتاج العلمي للشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور، وما تضمّنه من قضايا ومسائل ذات صلة بالمسألة السياسيّة وما يتعلّق بها من تنظيم للمجتمع وترتيب شؤونه العامّة وإدارته من أجل استخلاص نظريته في الاجتماع السياسي.
(5)
ما هي أهمّ نتائج البحث؟
للاجتماع السّياسي في الإسلام أهمّية بالغة من ناحيتين:
- من الناحية التّاريخيّة والعلميّة تتأكّد أهميّته في تحديد طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع على امتداد التّاريخ الإسلامي، وهو ما يسمح بتطوير الدراسات والبحوث في علم الاجتماع السياسي في اتّجاه وضع مقاربات ترقى إلى مستوى ما وصل إليه العقل العلمي في عصرنا، وتزيل الغموض الّذي حفّ بالمسألة السياسيّة في الإسلام.
- ومن الناحية الإجرائيّة والعمليّة فإنّ موضوع الاجتماع السياسي يمثّل أحد أكبر التحديّات الّتي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر في ضوء صعود ما يسمّى”الإسلام السياسي“ سدّة الحكم في بعض البلدان العربية، وفي ضوء الاهتمام المتزايد للباحثين بمشروع الدولة الإسلاميّة مقابل الدولة العلمانيّة، والجدل القائم حول إشكاليّة السّلطة في الإسلام
* لم يكن صرف الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور اهتمامه منذ الصّفحات الأولى من كتاب ”أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام“ لدرس مصطلح الدّين عفويّا، بل كان الرجل مدركا للإشكاليات الّتي رافقت النهضة الأوروبيّة في علاقة الدّين بالدّولة ومستوعبا ما نتج عن الصّراع الّذي قام في أوروبا بين العلماء والكنيسة، من فقد المسيحيّة أهميّتها في توجيه حياة النّاس، وإحداث الفصل النهائي بين العقيدة الدينيّة والحياة المدنيّة وفق مبدأ ”دين بلا سياسة وسياسة بلا دين“، وتحوّل الجدل في الدّين والسّياسة إلى العالم الإسلامي. وتوالت الدعوات في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لاتّباع النمط الّذي سلكته الحضارة الغربيّة في حربها على التخلّف برفض تدخّل الدّين في تدبير أمر النّاس وتنظيم حياتهم، والقبول بالعَلمانية بديلا.
وأثبت الشيخ ابن عاشور دور الاعتقاد في تنظيم حياة الناس وتأسيس الدولة، وفي ربط أسباب انهيار المجتمعات ونهوضها بحالة الدين فيها بالركون إلى أقـوال الفلاسفة وعلماء الاجتماع.
* الدّين موصول بالاجتماع الإنساني وصلا من شأنه أن يكون:
- مصدرا من أعظم مصادر العمل الإصلاحي الذي يُرام به تغيير واقع المسلمين، بتوجيههم إلى الاستفادة من السنن الاجتماعيّة والتاريخيّة من خلال النّظر في مراحل التاريخ البشري والاجتماع الإنساني، وطبائع المجتمعات وأثرها في تاريخ الشعوب والأمم، ودور دعوات الأنبياء والمرسلين والحكماء والمصلحين في إصلاح المجتمعات.
- مجالا من مجالات التميّز في الاجتماع السّياسي في الإسلام من غيره من الاجتماعات الأخرى بمبدأين أو رابطتين مقدّمتين على بقيّة المبادئ أو الروابط لحاجة الأمّة إليهما في مواجهة الاستعمار والنزعات القطريّة والقوميّة الداحضة للرابطة الكبرى، والمخاطر والتهديدات المختلفة، هما رابطة الدين(الجامعة الدينيّة) ورابطة الأخوّة (دينيّة أو دمويّة أو إنسانيّة).
* تتداخل في الفكر السياسي العاشوري عناصر ثلاثة: الدّين، الأخلاق، والسياسة، تداخلا يصعب معه الفصل بين عنصر وآخر، وما تفضي إليه العلاقة الناشئة بين العناصر مجتمعة تحدّد طبيعة النظام السياسي في الإسلام. فالدين بلا سياسة معناه تقييد خصيصة الشمول فيه، وتعطيل لتنفيذ تشريعه لأن تشريعه يتطلّب تنفيذ قوانينه، وذلك التّنفيذ «هو جماع معنى الدّولة» والسياسة بلا أخلاق معناه غياب النموذج أو مثال الاقتداء الذي يضبط للأمّة أحوال نظامها الاجتماعي والسياسي تكملة لنظامها الدّيني، أو لنقل: السياسة دون أخلاق معناه القطع مع كلّ القيم الّتي توجّه الفعل البشري وتوجب الخُلق في هذا الفعل لاعتقاد البشر بأنّ معرفة الواجب لا تقتضي حضور الدين.
(6)
ما هي الخطوات القادمة الّتي تنوون القيام بها لمواصلة بحثكم في الموضوع؟
لئن كان الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور متنبّها للتحدّيات التّي فرضتها الحضارة الغربية في مجالات الفكر والاجتماع والسياسة، ومدركا الحاجة إلى اجتهاد يراعي مقاصد الشريعة ومصالح الأمّة وحاجاتها، ويمنح حياتها فرصا جديدة للنموّ والتطّــور، فإنّ ثقل المدوّنة الفقهيّة كان له تأثيره في توجّهاته الفكريّة السياسيـــة وفي محافظتــه على مواقف فقهيّة قديمة من قضايا تتطلّب اجتهادا يستجيب لمتطلبات الزّمان والمكان والظّروف.
ولذلك سأعمل على تعميق النّظر النّقدي في بعض القضايا الّتي ظلّ فيها الشيخ وفيّا لمدوّنة الأحكام السلطانية والفقهيّة مثل قضايا تقسيم المعمورة والأمّة والوطن وأهل الذمّة...
(7)
ما هي كلمة الختام؟
أشكر مجلّة الإصلاح على جهودها الرّامية إلى إقامة جسور التّواصل بين القرّاء والباحثين. وأسأل الله أن يعين كلّ القائمين عليها من أجل الاستمرار في أداء رسالتها الثّقافيّة والعلميّة.
|