نقاط على الحروف
بقلم |
د.عبدالله التركماني |
فرص وتحديات الاندماج الاجتماعي في دول الشتات(1) |
الهجرة ظاهرة تاريخيّة ساهمت في إعمار الأرض، وهي تلعب دوراً هامّاً في تلاقي مجموعات بشريّة متنوّعة الثّقافات، ممّا يسمح بالتّلاقح الثّقافي وبناء حضارة إنسانيّة مشتركة. ولا يقلّل من هذا الطّموح كون الهجرة، في المرحلة التّاريخيّة المعاصرة، ذات اتجاه واحد، بسبب الأوضاع السّيئة في مناطق كثيرة من دول الجنوب، ولانعدام التّوازن في العالم. ووفقاً لبيانات مفوضيّة اللاّجئين الأمميّة، في العام 2018، فإنّ عدد المهاجرين بلغ نحو 260 مليون شخص، يشكّلون 3.4 % تقريباً من سكان العالم. وبناء على هذا المعطى فإنّ عدد الأشخاص الذين غادروا وطنهم، بحثاً عن السّلام وحياة أفضل، قد ازداد بنسبة 49 % منذ عام 2000.
إنّ الهجرة تطرح أسئلة ذات طبيعة وجودية، لها علاقة بالتكيّف والانتماء والهويّة الثّقافيّة، وفي المحصلة بمدى القدرة على الاندماج الاجتماعي. وبقدر ما تُطرح هذه الأسئلة على المهاجرين، فإنّها تُطرح على المجتمعات المضيفة لهم. فكيف نقرأ فرص وتحدّيات الاندماج الاجتماعي في دول الشّتات؟ وكيف نعيد تفكيك عناصرها؟ وكيف نفهم أسئلتها المتعدّدة والمتشابكة؟
سوسيولوجيا الهجرة والاندماج الاجتماعي
إنّ عملية إقامة المهاجرين واندماجهم الاجتماعي والسّياسي لا تناظر أي نموذج وحيد صالح في كلّ زمان، بل هناك صيغ متنوّعة. إذ تؤكّد التّحليلات المعمّقة، اعتماداً على النّقاشات الدّائرة في إطار « سوسيولوجيا الهجرة»، بأنّ العالم قد دخل – أكثر من أيّ وقت مضى – في عصر الهجرات الدّولية، حيث أنّ العولمة بمثابة « سبب» و«نتيجة» لهذه الهجرات.
والإشكاليّة تُطرح عندما يتعلّق الأمر بكتل بشريّة كثيفة تملأ الفضاء الأوروبي، تطالب بحقّها في الاختلاف الثّقافي في دول الشّتات، الذي ينعكس في الملبس والمأكل والعادات وإقامة مراكز العبادة وممارسة الطّقوس الدّينية، أي حينما يتعلّق الأمر بالمظهر الخارجي لوجود التنوّع الثّقافي، المقبول نظريّاً، ولكنّه يستقطب الانتباه/بل يحثُّ على التّحرك المضاد، على حساب القيم الحداثيّة – الدّيمقراطيّة، المعمول بها في دول الشّتات الأوروبي.
لقد ميّز الباحث السّوسيولوجي الفرنسي هوغ لاغرانج بين «الاندماج»، بمعنى الاستلاب الثّقافي، و«الإدراج»، حيث أشار إلى مخاطر «سياسات الدّمج التّعسفيّة»، وفرص «سياسات الإدراج» التي تسمح لكيانات سوسيو – ثقافيّة بأن تتعايش معاً.
إنّ الأمر يتطلب نشوء ثقافة جديدة، تقبل اندراج المهاجر في دول الشّتات، لتحلَّ محل ثقافة البلد ذي اللّسان الواحد، والدّين الواحد، واللّون الواحد، أي «المواطنة الثّقافية»، التي تعني «حقّ الجماعات الفرعيّة والأقليّات في الاحتفاظ بهويتها الثّقافيّة الخاصّة، حتّى لا يتمّ احتواؤها ودمجها قسراً في الثّقافة العامّة الرّسميّة السّائدة في المجتمع، وبما يفتح الأفق أمام انتشار ثقافة الاختلاف، بشرط ألاّ يترتّب عن ذلك عدم المشاركة بشكل إيجابي وفعّال، في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التّام بالقوانين والقواعد الأساسيّة المنظِّمة للحياة العامّة في دول الشّتات» (1) .
حول « المواطنة الثقافية»
إنّ « المواطنة الثقافية» في أبسط تعاريفها تعني « الحقّ في الاحتفاظ بالهويّة الثّقافية الخاصّة»، والمهمّ هنا هو أنّ الاعتراف بهذا التميّز الثّقافي وقبوله واحترامه قد يكون عاملاً إيجابياً مؤثّراً في إثراء الثّقافة الوطنيّة لدول الشتات، كما قد يحلُّ كثيراً من المشكلات الاجتماعيّة التي تعانيها دول مجتمعات الشّتات، من الأعداد المتزايدة التي تفد إليها من الخارج، التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تريد الاحتفاظ بها إلى جانب تمتّعها بحقوق وواجبات المواطنة السّياسية.
إنّ مغادرة البلد الأم تشكّل صدمة، خاصّة إذا كانت الفروق الثّقافية والاجتماعيّة كبيرة بين البلد الأم والبلد المضيف، كما هو الحال بين البلدان العربيّة والبلدان الأوروبيّة مثلاً. إذ ما أن يصل المهاجر إلى البلد الأوروبي، حتّى « يشعر بأنّ كلّ شيء قد تغيّر بالنّسبة إليه، الثّقافة والعادات والتّقاليد والمعايير وأسلوب الحياة .. ممّا يجبر المهاجر على إعادة التعلّم الوجودي، وهذا ما يشكّل بالنّسبة إلى بعض المهاجرين نوعاً من الصّدمة الثّقافية» (2) . وهنا تكمن الخطورة، حين يتحوّل ردُّ الفعل على « الضّياع الوجودي» إلى سجن «لا يستطيع المهاجر الخروج منه».
إذ إنّ موضوع الهويّة مفهوم إشكالي « معقّد ومركّب ويحتمل كثيراً من المعاني»، فللهويّة ثلاثة جوانب يعبّر كلّ منها عن وظيفة محدّدة (3) : أوّلها، الجانب الأنطولوجي الذي يلبّي الوظيفة المعنويّة، حيث تلعب الهويّة دوراً مهمّاً في عمليّة إنتاج الذّات الفرديّة والجماعيّة. وثانيها، الجانب القِيَميّ الذي يلبّي حاجة تقدير الذّات، وهو ما يمكن تسميته بـ «الهويّة المثاليّة أو الظّاهريّة»، وهي «الهويّة المفروضة اجتماعيّاً». وثالثها، الجانب البراغماتي الذي يلعب دور «الوظيفة الإدماجيّة»، بما تنطوي عليه من تكيّف الأفراد مع محيطهم بصورة مستمرة « الهويّة الواقعيّة»، بحيث يقوم هؤلاء الأفراد بتغيير سلوكهم وتعديله لكي ينسجم مع واقعهم.
وبحسب نظريّة استراتيجيّات التّثاقف لجون بيري، فإنّ هذه الاستراتيجيّات تتحدّد بثلاثة مستويات(4): أولها، سلوكي، وهو يعبّر عن التغيّرات التي تطرأ على سلوك المهاجر وعاداته وتصرّفاته في المجتمع الجديد. وثانيها، نفسي، له علاقة بالصّعوبات والاضطرابات النّفسية التي يمرّ بها المهاجر « قلق التّثاقف». وثالثها، موقفيٌّ، وهو الذي يحدّد اتجاهات التّثاقف، حيث أنّ اختيار الفرد لإحدى استراتيجيات التثاقف يعتمد على موقفه من ثقافته الأم، وموقفه من ثقافة المجتمع المضيف. وهكذا، فإنّ عملية التثاقف تشير إلى الآليات التي بمفعولها تتأثّر جماعة بشريّة معينة، وتتكيّف – جزئيّاً أو كليّاً – مع مكوّنات ثقافة جماعة بشريّة أخرى، إنّها طريقة التّفاعل والتكيّف مع الثّقافات الأخرى المغايرة. وأثناء عمليّة التّثاقف هذه يطرح كلّ مهاجر على نفسه سؤالين: هل يجب الحفاظ على الهويّة الثّقافيّة الأصليّة؟ وهل يجب الاختلاط مع أفراد المجتمع المضيف، والمشاركة معهم في الحياة الاجتماعيّة؟
وعلى ضوء الإجابة عن السّؤالين السّابقين يمكن تحديد، حسب بيري، أربع استراتيجيات تثاقفيّة (5) : أوّلها، الاندماج، أي الإجابة بنعم على السّؤالين، بما يعني محاولة المهاجر التّوفيق بين الثّقافتين، وهو يمثّل الجانب الإيجابي في عمليّة التّثاقف. وثانيها، التّماهي، بما ينطوي على الرّغبة بالتخلّي عن الثّقافة والهويّة الأصليّة، لصالح ثقافة المجتمع المضيف وهويته. وثالثها، الانعزال أو التّقوقع الثّقافي، بما ينطوي عليه من رغبة المهاجرين بعدم الاختلاط مع أفراد المجتمع المضيف، وعدم الارتباط بالثقافة الجديدة، وهي عملية مضادّة للتّثاقف. ورابعها، التّهميش، وهي ردّ فعل المهاجرين الذين يفقدون خصائص هويتهم وثقافتهم الأصليّة، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون الاندماج في ثقافة المجتمع المضيف، أو بناء علاقات مع أفراده، وقد يكون السّبب – غالباً – التّمييز العنصري الذي يمارسه بعض أبناء هذا المجتمع ضدّ المهاجرين.
وهكذا، وجب التّمييز بين مصطلحي الاندماج والتّماهي، وعدم الخلط بينهما. إذ إنّ المهاجرين الذين يلجؤون إلى الاندماج يكون لديهم، بصورة عامّة، ثقة كبيرة بأنفسهم وصورة إيجابيّة عن ثقافتهم الأم، ويعتزّون بها، ولكنّهم في الوقت نفسه يعتبرون ثقافة المجتمع المضيف جديرة بالاحترام والثّقة. ولا شك أنّ المسألة ترتبط بخصائص المجتمع المضيف وسياساته، فمثلاً تعتمد «كندا»، في تعاملها مع المهاجرين، سياسة تشجّع على استراتيجيّة الاندماج، وتعتبر المجتمع الكندي تعدّديّاً ثقافيّاً، بل إنّ هذه التّعدديّة الثّقافيّة هي مصدر اعتزاز وإثراء للهويّة الكنديّة الجامعة لكلّ تلك الثّقافات.
بينما النموذج الفرنسي، الذي يقتضي أن تصهر الجمهوريّة في بوتقتها كلّ الثّقافات ومظاهر الاختلاف، لم ينجح في الإدماج القسري للمهاجرين، بل إنّ هذا المنطلق لا يصمد أمام التّحليل العقلاني للثّقافات. فإذا كان هناك مشكلة ثقافيّة في أحياء الهجرة، فهي لا تتمثّل بثبات ثقافات أصل المهاجرين، بقدر ما تتمثّل في الصّدمة المتولدة عن معايير وقيم مجتمعات الاستقبال. وهنا يجب التمييز بين سياسة الانصهار، التي تعتمدها فرنسا الرّسمية، واتجاهات أغلبيّة المواطنين الفرنسيّين نحو التّعددية الثقافيّة والمهاجرين.
والأمر يحتدم كلّما تعلّق الأمر بالمهاجرين المسلمين خاصّة، حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار « أنّ المهاجر المسلم يفد على الدّولة الغربيّة من بلده الأصلي، الذي يعاني تخلّفاً سياسيّاً وأزمة اجتماعيّة، فتكون طروحاته متشنّجة، رغم اختلاف الواقع الجديد، وربّما أصبح التّميّز عنده مرادفاً للنّزعة التّصادميّة. خاصّة إذا ما كان مفهوم الاندماج، الذي يُطرح أمامه، يتأرجح بين التّخلّي عن منظومة القيم التي يؤمن بها، وهذا هو الاستلاب بعينه، وبين الاندماج/الاندراج الموضوعي الإيجابي، خاصّة في الميدان السّياسي. على اعتبار أنّ ما يجمع النّاس في دولة علمانيّة هو احترام القانون والقيم السّياسية، التي بموجبها تُحكم البلاد» (6) .
وفي الواقع يشعر اللاّجئون، في دول الشّتات، بشعورين متناقضين خاطئين (7) : أولهما، شعور بالدّونية تجاه مجتمع جديد، يمارس حياته بطرق مختلفة عن تلك التي عرفوها سابقاً، محمّل بالقيم الإيجابية من دون أن يكون له حامل ديني. وثانيهما، إحساس بالتفوّق الكاذب منسوباً للمسألة الدّينية، ما ينتج عنصريّة دوليّة معكوسة، هذه بلاد « كافرة» ونحن « مؤمنون»، وقد أُجبرنا على القدوم إلى هنا، وعلينا التّعامل معهم بالحدِّ الأدنى. وهي العقلية التي تؤسّس لـ « الغيتو» في المنافي، بوصفه جدار دفاع ضدّ « رذيلة» هذه المجتمعات، ويتمّ استخدام الهويّة الدّينيّة ورموزها بأسوأ طريقة، لبناء هذه الجدران العالية مع المجتمعات الجديدة.
الإشكال القائم هنا هو أنّ الأقليّة المسلمة « لا تعرف كيف تصيغ خصوصيّتها في السّياق الجديد، وأن تعيد النظر في طريقة التّعامل مع المجال العمومي المشترك، وأن تفرّق بين الحقّ في التميّز والاختلاف وبين محاولة تغيير إطار قائم بذاته، لاحتواء كلّ مظاهر الثّقافة الأصليّة. هنا تجدر الإشارة إلى أنّه يجب التّفريق بين المعتقدات الدّينية، التي لا يتأثّر وجودها بطبيعة الأمّة السّياسيّة، وبين التّقاليد والعادات، التي قد تتلحّف في لحاف المعتقد الدّيني أحياناً، فتثقل الأجواء المخيّمة على الأقليات» (8).
لقد ظهر في الجاليات الإسلامية تياران رئيسيان (9) : أوّلهما، تقوده أقلّيّة نشطة، تنادي برفض الغرب الذي تعيش فيه، وتدعو إلى مقاومة ثقافته والانعزال عنها. وثانيهما، أكثري، يرفض جوانب في ثقافة الغرب، ولكنّه مستعدّ للتّعامل معها، والعيش في ظلّها، شريطة أن يحتفظ بثقافته، ويطلب من ثقافة الأغلبيّة الأصليّة احترام ثقافته.
ولكن، لا شك أنّ إنكار ثقافات المهاجرين في دول الشّتات يقع في أساس تعثّر، بل إخفاق عمليّة الاندماج الاجتماعي لهم في بلدانهم الجديدة، وأنّ محاولة إدماجهم القسري في ثقافة البلد المضيف سيدفعهم إلى الانكفاء على أنفسهم، والتمسّك بتقاليدهم الخاصّة، وسيؤخّر عملية التّثاقف الإيجابيّة، التي يجب تشجيعها، إذ إنّ عمليّة الإدماج القسري « لم تعد ضروريّة في المجتمعات ما بعد الوطنية»، حسب تعبير «لاغرانج». ذلك أنّ الإدماج اليوم «لا يستطيع أن يطمح إلى بلوغ المحاكاة في القيم وأوجه السّلوك، كما أنّه ليس على السّياسة العامّة الإدراجيّة في مجتمع مفتوح، أن تجعل من الذّوبان في مَصْهَرِ القيم والعادات هدفاً مسبقاً أو حتّى أولويّة سياسيّة» (10) .
وفي هذا السياق، يجب تعيين رهانات الاندراج التي « تسمح لكيانات سوسيو ثقافيّة بأن تعيش معاً ديمقراطيّاً. فإذا كنّا نريد ممارسة سياسات تهتمّ فعلاً باندراج السّكان المتحدّرين من الهجرة، فيجب توضيح مفردة الاندماج، والتّجرؤ على الكلام عن الاعتراف بالاختلافات في مجتمع تعدّدي وزمني، والقول لمصلحة من سوف يتمّ الاندراج» (11).
وهكذا، في ظلّ الهجرات الكبيرة لمجموعات بشريّة، تنتمي إلى ثقافات متمايزة، أصبحت عمليّة صهر الأقليّات والثّقافات الدّخيلة في بوتقة الثّقافة الواحدة مسألة صعبة، إن لم نقل شبه مستحيلة. حينئذ مطلوب حوار بين الثّقافات، بحيث تنتفي الحاجة إلى التّركيز على مراقبة الغريب لتُسبدل بـ « المواطنة المشتركة». ومن المؤكّد أنّ عدم تغيير أنماط التّفكير، في الجانبين، من شأنه أن يُحدث شروخاً تتبلور عبر تصادم الثّقافات. وفي هذا السّياق، يبدو أنّ على المهاجرين المسلمين « اتخاذ المزيد من التّدابير للاندراج، واحترام قيم ومعايير المجتمعات التي يعيشون فيها، والكفّ عن تشكيل مجتمع موازٍ داخل الفضاء الأوروبي، بغية تغيير أنماط هذه المجتمعات. كما أنّ على المجتمعات الأوروبيّة أن توسّع أفقها، للتّعايش مع أقلّيات مختلفة ومتنوعة، وليس البحث عن مجرد تذويبها ضمن فضائها الأوروبي» (12) .
ولعلَّ منبع تجدّد الإشكال الثّقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين (13) : أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونيّة، النّاتجة عن مسار توحُّد البشريّة واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثّورة الاتصاليّة والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النّظري والمعياري بحقّ الثّقافات في الاختلاف والتّمايز وتمايزها من حيث القيمة والمشروعيّة.
إنّ المادة 27 من ملحق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول « الحقوق المدنيّة والسّياسيّة»، الذي صدر في العام 1966، تنصّ على أنّه « في الدّول التي توجد فيها أقليّات إثنيّة، دينيّة أو لغويّة، لا يمكن نكران حقّ الأشخاص المنتمين إلى هذه الأقليّات، وعبر وجودهم مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم، في التمتّع بثقافتهم الخاصّة، وفي إشهار دينهم وممارسته، أو استخدام لغتهم الخاصّة». ومن أجل ذلك، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقيّات إنسانيّة شاملة، هي التي ألهمت « الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرّية والأصوليين المتطرّفين، ليست هذه الأخلاقيّة نموذجاً غربيّاً، بل إنّها ميّزة إنسانيّة. هي ميّزة كلّ الشّعوب، وكلّ الأمم، وكلّ الدّيانات. وليس ثمّة أيّ تناقض بين هذه الأخلاق وتنوّع الثّقافات، لأنّ احترام هذا التنوّع هو من صلب هذه الإنسانيّة.
حول « المواطنة السياسية»
يبدو أن الاندماج السّياسي هو المطلب الذي يمكن أن يتجاوب معه المهاجرون، لأنّه نابع من طبيعة الأمّة السياسيّة، ما دام مفهوم الأمّة الثقافيّة قد أصبح متجاوَزاً في دول الشّتات الأوروبيّة. حيث اندثر – إلى حدٍّ بعيد – العنصر الثّقافي والإثني كعامل انتماء في الغرب، بعد تراجع دور الكنيسة وفصل الدّين عن الدّولة، وبعد أن أصبحت القيم السّياسيّة، التي تبلورت منذ عصر الأنوار، هي القاسم المشترك، وبات احترامها هو الشّرط الوحيد للاندماج، وإن كانت هناك أصوات قوميّة متطرّفة تسعى لتصفية الموروث الثّقافي للمهاجر كشرط لاكتسابه المواطنة السّياسية.
ومن المؤكّد أنّ تضييق الفجوة بين ثقافة المهاجرين وثقافة دول الشّتات ممكن، ولكنه مرهون بالاندماج الاجتماعي للمهاجرين، من خلال تمكينهم من المواطنة القانونيّة السياسيّة. ففي هذه الحالة وحدها، يحصل فرز طبيعي عند المهاجرين الوافدين، بين ثقافاتهم الخاصّة والثّقافة العامّة لدول الشّتات، بحيث تتحوّل خصوصياتها إلى مجرد خصوصيّة ثقافيّة، غير حاملة لأيّة مطالب سياسيّة خاصّة. ذلك لأنّ الدّولة، في علاقتها مع مواطنيها لا تعير اهتماماً للجوانب الثّقافية، أي أنّ « علاقة المواطن بالمؤسّسات محكومة أساساً بمنظومة قيم سياسيّة، لا ترتكز إلى البعد الثّقافي» (14) .
ولكنّ «لاغرانج» يتحدّث عن « الاستلاب السّياسي» في فرنسا أيضاً، إذ إنّ عملية الإدراج السّياسي تبقى جزئيّة « مدن الهجرة تراكم عدم تسجيل الشّبان الفرنسيّين المنحدرين من الهجرة، وامتناع الرّاشدين الذين أصبحوا فرنسيّين من التّصويت.. فمع معدلات امتناع تتجاوز الـ 70 % من المسجّلين، عبَّر سكان الأحياء الحسّاسة عن شعورهم بأنّهم خارج الحياة الانتخابيّة، وخارج النّظام السّياسي، وخارج الجمهوريّة» (15) .
الهوامش
(1) د. عبدالله تركماني: فرص وتحديات اندماج اللاجئين المغاربييّن في أوروبا – ورقة قُدّمت في ندوة حول « الشّباب المغاربي وتداعيات الهجرة السّرية» بدعوة من مؤسّسة التّميمي للبحث العلمي والمعلومات ومؤسّسة كونراد أديناور إلى « المؤتمر 47 لمنتدى الفكر المعاصر» في تونس خلال يومي 24 و25 مارس/آذار 2016.
(2) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين/استراتيجيّات الهويّة واستراتيجيّات التّثاقف – مركز حرمون للدّراسات المعاصرة/وحدة البحوث الاجتماعيّة، 24 كانون الأول/ديسمبر 2016، ص 18.
(3) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...، المرجع السابق ص ص 28 – 29.
(4) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...، المرجع السابق ص ص37 – 38.
(5) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...، المرجع السابق ص ص40 – 42.
(6) مراد زروق: المهاجرون والاندماج السياسي – صحيفة « العرب « القطرية 9 شباط/فبراير 2010.
(7) سمير الزين: اللاجئون وصدام الثقافات – صحيفة « العربي الجديد « 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018.
(8) مراد زروق: المهاجرون والاندماج السياسي، المرجع السابق.
(9) د. عبدالله تركماني: حظر المآذن يمتحن التنوّع الثّقافي – فصليّة « المغرب الموحّد» التونسية، العدد (5) 17 شباط/فبراير 2010.
(10) هوغ لاغرانج: نكران الثّقافات، ترجمة: سليمان رياشي – المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت ط1، كانون الثاني/يناير 2016، ص 325.
(11) هوغ لاغرانج: نكران الثقافات...، المرجع السابق ص ص 334 - 335.
(12) د. عبدالله تركماني: صعوبة صهر ثقافات الأقليّات – صحيفة « الوقت» البحرينية 29 أيار/مايو 2008.
(13) د. عبدالله تركماني: حظر المآذن يمتحن التنوّع الثقافي...، المرجع السابق.
(14) مراد زروق: المهاجرون والاندماج السّياسي...، المرجع السابق.
(15) هوغ لاغرانج: نكران الثّقافات...، المرجع السابق ص 329.
|