نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالله التركماني
فرص وتحديات الاندماج الاجتماعي في دول الشتات(1)
 الهجرة ظاهرة تاريخيّة ساهمت في إعمار الأرض، وهي تلعب دوراً هامّاً في تلاقي مجموعات بشريّة ‏متنوّعة الثّقافات، ممّا يسمح بالتّلاقح الثّقافي وبناء حضارة إنسانيّة مشتركة. ولا يقلّل من هذا الطّموح كون ‏الهجرة، في المرحلة التّاريخيّة المعاصرة، ذات اتجاه واحد، بسبب الأوضاع السّيئة في مناطق كثيرة من دول ‏الجنوب، ولانعدام التّوازن في العالم. ووفقاً لبيانات مفوضيّة اللاّجئين الأمميّة، في العام 2018، فإنّ عدد ‏المهاجرين بلغ نحو 260 مليون شخص، يشكّلون 3.4 % تقريباً من سكان العالم. وبناء على هذا المعطى ‏فإنّ عدد الأشخاص الذين غادروا وطنهم، بحثاً عن السّلام وحياة أفضل، قد ازداد بنسبة 49 % منذ عام ‏‏2000.‏
إنّ الهجرة تطرح أسئلة ذات طبيعة وجودية، لها علاقة بالتكيّف والانتماء والهويّة الثّقافيّة، وفي ‏المحصلة بمدى القدرة على الاندماج الاجتماعي. وبقدر ما تُطرح هذه الأسئلة على المهاجرين، فإنّها تُطرح ‏على المجتمعات المضيفة لهم.‏ فكيف نقرأ فرص وتحدّيات الاندماج الاجتماعي في دول الشّتات؟ وكيف نعيد تفكيك عناصرها؟ ‏وكيف نفهم أسئلتها المتعدّدة والمتشابكة؟
سوسيولوجيا الهجرة والاندماج الاجتماعي
إنّ عملية إقامة المهاجرين واندماجهم الاجتماعي والسّياسي لا تناظر أي نموذج وحيد صالح في كلّ ‏زمان، بل هناك صيغ متنوّعة. إذ تؤكّد التّحليلات المعمّقة، اعتماداً على النّقاشات الدّائرة في إطار « ‏سوسيولوجيا الهجرة»، بأنّ العالم قد دخل – أكثر من أيّ وقت مضى – في عصر الهجرات الدّولية، حيث ‏أنّ العولمة بمثابة « سبب» و«نتيجة» لهذه الهجرات.‏
والإشكاليّة تُطرح عندما يتعلّق الأمر بكتل بشريّة كثيفة تملأ الفضاء الأوروبي، تطالب بحقّها في ‏الاختلاف الثّقافي في دول الشّتات، الذي ينعكس في الملبس والمأكل والعادات وإقامة مراكز العبادة وممارسة الطّقوس الدّينية، أي حينما يتعلّق الأمر بالمظهر الخارجي لوجود التنوّع الثّقافي، المقبول نظريّاً، ‏ولكنّه يستقطب الانتباه/بل يحثُّ على التّحرك المضاد، على حساب القيم الحداثيّة – الدّيمقراطيّة، المعمول ‏بها في دول الشّتات الأوروبي.‏
لقد ميّز الباحث السّوسيولوجي الفرنسي هوغ لاغرانج بين «الاندماج»، بمعنى الاستلاب الثّقافي، ‏و«الإدراج»، حيث أشار إلى مخاطر «سياسات الدّمج التّعسفيّة»، وفرص «سياسات الإدراج» التي تسمح ‏لكيانات سوسيو – ثقافيّة بأن تتعايش معاً.‏
إنّ الأمر يتطلب نشوء ثقافة جديدة، تقبل اندراج المهاجر في دول الشّتات، لتحلَّ محل ثقافة البلد ‏ذي اللّسان الواحد، والدّين الواحد، واللّون الواحد، أي «المواطنة الثّقافية»، التي تعني «حقّ الجماعات ‏الفرعيّة والأقليّات في الاحتفاظ بهويتها الثّقافيّة الخاصّة، حتّى لا يتمّ احتواؤها ودمجها قسراً في الثّقافة العامّة ‏الرّسميّة السّائدة في المجتمع، وبما يفتح الأفق أمام انتشار ثقافة الاختلاف، بشرط ألاّ يترتّب عن ذلك عدم ‏المشاركة بشكل إيجابي وفعّال، في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التّام بالقوانين والقواعد الأساسيّة المنظِّمة ‏للحياة العامّة في دول الشّتات» (1) ‏.‏
حول « المواطنة الثقافية»‏
إنّ « المواطنة الثقافية» في أبسط تعاريفها تعني « الحقّ في الاحتفاظ بالهويّة الثّقافية الخاصّة»، ‏والمهمّ هنا هو أنّ الاعتراف بهذا التميّز الثّقافي وقبوله واحترامه قد يكون عاملاً إيجابياً مؤثّراً في إثراء ‏الثّقافة الوطنيّة لدول الشتات، كما قد يحلُّ كثيراً من المشكلات الاجتماعيّة التي تعانيها دول مجتمعات ‏الشّتات، من الأعداد المتزايدة التي تفد إليها من الخارج، التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تريد الاحتفاظ بها ‏إلى جانب تمتّعها بحقوق وواجبات المواطنة السّياسية.‏
إنّ مغادرة البلد الأم تشكّل صدمة، خاصّة إذا كانت الفروق الثّقافية والاجتماعيّة كبيرة بين ‏البلد الأم والبلد المضيف، كما هو الحال بين البلدان العربيّة والبلدان الأوروبيّة مثلاً. إذ ما أن يصل ‏المهاجر إلى البلد الأوروبي، حتّى « يشعر بأنّ كلّ شيء قد تغيّر بالنّسبة إليه، الثّقافة والعادات والتّقاليد ‏والمعايير وأسلوب الحياة .. ممّا يجبر المهاجر على إعادة التعلّم الوجودي، وهذا ما يشكّل بالنّسبة إلى بعض ‏المهاجرين نوعاً من الصّدمة الثّقافية» (2) ‏. وهنا تكمن الخطورة، حين يتحوّل ردُّ الفعل على « الضّياع الوجودي‏‏» إلى سجن «لا يستطيع المهاجر الخروج منه».‏
إذ إنّ موضوع الهويّة مفهوم إشكالي « معقّد ومركّب ويحتمل كثيراً من المعاني»، فللهويّة ثلاثة ‏جوانب يعبّر كلّ منها عن وظيفة محدّدة (3) ‏: أوّلها، الجانب الأنطولوجي الذي يلبّي الوظيفة المعنويّة، حيث ‏تلعب الهويّة دوراً مهمّاً في عمليّة إنتاج الذّات الفرديّة والجماعيّة. وثانيها، الجانب القِيَميّ الذي يلبّي حاجة ‏تقدير الذّات، وهو ما يمكن تسميته بـ «الهويّة المثاليّة أو الظّاهريّة»، وهي «الهويّة المفروضة اجتماعيّاً». ‏وثالثها، الجانب البراغماتي الذي يلعب دور «الوظيفة الإدماجيّة»، بما تنطوي عليه من تكيّف الأفراد مع ‏محيطهم بصورة مستمرة « الهويّة الواقعيّة»، بحيث يقوم هؤلاء الأفراد بتغيير سلوكهم وتعديله لكي ينسجم مع ‏واقعهم.‏
وبحسب نظريّة استراتيجيّات التّثاقف لجون بيري، فإنّ هذه الاستراتيجيّات تتحدّد بثلاثة مستويات(4)‏: ‏أولها، سلوكي، وهو يعبّر عن التغيّرات التي تطرأ على سلوك المهاجر وعاداته وتصرّفاته في المجتمع ‏الجديد. وثانيها، نفسي، له علاقة بالصّعوبات والاضطرابات النّفسية التي يمرّ بها المهاجر « قلق التّثاقف». ‏وثالثها، موقفيٌّ، وهو الذي يحدّد اتجاهات التّثاقف، حيث أنّ اختيار الفرد لإحدى استراتيجيات التثاقف ‏يعتمد على موقفه من ثقافته الأم، وموقفه من ثقافة المجتمع المضيف. وهكذا، فإنّ عملية التثاقف تشير إلى ‏الآليات التي بمفعولها تتأثّر جماعة بشريّة معينة، وتتكيّف – جزئيّاً أو كليّاً – مع مكوّنات ثقافة جماعة ‏بشريّة أخرى، إنّها طريقة التّفاعل والتكيّف مع الثّقافات الأخرى المغايرة. وأثناء عمليّة التّثاقف هذه يطرح كلّ ‏مهاجر على نفسه سؤالين: هل يجب الحفاظ على الهويّة الثّقافيّة الأصليّة؟ وهل يجب الاختلاط مع أفراد ‏المجتمع المضيف، والمشاركة معهم في الحياة الاجتماعيّة؟
وعلى ضوء الإجابة عن السّؤالين السّابقين يمكن تحديد، حسب بيري، أربع استراتيجيات تثاقفيّة (5) ‏: ‏أوّلها، الاندماج، أي الإجابة بنعم على السّؤالين، بما يعني محاولة المهاجر التّوفيق بين الثّقافتين، وهو يمثّل ‏الجانب الإيجابي في عمليّة التّثاقف. وثانيها، التّماهي، بما ينطوي على الرّغبة بالتخلّي عن الثّقافة والهويّة ‏الأصليّة، لصالح ثقافة المجتمع المضيف وهويته. وثالثها، الانعزال أو التّقوقع الثّقافي، بما ينطوي عليه من ‏رغبة المهاجرين بعدم الاختلاط مع أفراد المجتمع المضيف، وعدم الارتباط بالثقافة الجديدة، وهي عملية ‏مضادّة للتّثاقف. ورابعها، التّهميش، وهي ردّ فعل المهاجرين الذين يفقدون خصائص هويتهم وثقافتهم ‏الأصليّة، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون الاندماج في ثقافة المجتمع المضيف، أو بناء علاقات مع أفراده، ‏وقد يكون السّبب – غالباً – التّمييز العنصري الذي يمارسه بعض أبناء هذا المجتمع ضدّ المهاجرين.‏
وهكذا، وجب التّمييز بين مصطلحي الاندماج والتّماهي، وعدم الخلط بينهما. إذ إنّ المهاجرين ‏الذين يلجؤون إلى الاندماج يكون لديهم، بصورة عامّة، ثقة كبيرة بأنفسهم وصورة إيجابيّة عن ثقافتهم الأم، ‏ويعتزّون بها، ولكنّهم في الوقت نفسه يعتبرون ثقافة المجتمع المضيف جديرة بالاحترام والثّقة. ولا شك أنّ ‏المسألة ترتبط بخصائص المجتمع المضيف وسياساته، فمثلاً تعتمد «كندا»، في تعاملها مع المهاجرين، سياسة ‏تشجّع على استراتيجيّة الاندماج، وتعتبر المجتمع الكندي تعدّديّاً ثقافيّاً، بل إنّ هذه التّعدديّة الثّقافيّة هي ‏مصدر اعتزاز وإثراء للهويّة الكنديّة الجامعة لكلّ تلك الثّقافات. ‏
بينما النموذج الفرنسي، الذي يقتضي أن تصهر الجمهوريّة في بوتقتها كلّ الثّقافات ومظاهر ‏الاختلاف، لم ينجح في الإدماج القسري للمهاجرين، بل إنّ هذا المنطلق لا يصمد أمام التّحليل العقلاني ‏للثّقافات. فإذا كان هناك مشكلة ثقافيّة في أحياء الهجرة، فهي لا تتمثّل بثبات ثقافات أصل المهاجرين، بقدر ‏ما تتمثّل في الصّدمة المتولدة عن معايير وقيم مجتمعات الاستقبال. وهنا يجب التمييز بين سياسة ‏الانصهار، التي تعتمدها فرنسا الرّسمية، واتجاهات أغلبيّة المواطنين الفرنسيّين نحو التّعددية الثقافيّة ‏والمهاجرين.‏
والأمر يحتدم كلّما تعلّق الأمر بالمهاجرين المسلمين خاصّة، حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار « ‏أنّ المهاجر المسلم يفد على الدّولة الغربيّة من بلده الأصلي، الذي يعاني تخلّفاً سياسيّاً وأزمة اجتماعيّة، ‏فتكون طروحاته متشنّجة، رغم اختلاف الواقع الجديد، وربّما أصبح التّميّز عنده مرادفاً للنّزعة التّصادميّة. ‏خاصّة إذا ما كان مفهوم الاندماج، الذي يُطرح أمامه، يتأرجح بين التّخلّي عن منظومة القيم التي يؤمن بها، ‏وهذا هو الاستلاب بعينه، وبين الاندماج/الاندراج الموضوعي الإيجابي، خاصّة في الميدان السّياسي. على ‏اعتبار أنّ ما يجمع النّاس في دولة علمانيّة هو احترام القانون والقيم السّياسية، التي بموجبها تُحكم البلاد» (6) ‏. ‏
وفي الواقع يشعر اللاّجئون، في دول الشّتات، بشعورين متناقضين خاطئين (7) ‏: أولهما، شعور ‏بالدّونية تجاه مجتمع جديد، يمارس حياته بطرق مختلفة عن تلك التي عرفوها سابقاً، محمّل بالقيم الإيجابية ‏من دون أن يكون له حامل ديني. وثانيهما، إحساس بالتفوّق الكاذب منسوباً للمسألة الدّينية، ما ينتج ‏عنصريّة دوليّة معكوسة، هذه بلاد « كافرة» ونحن « مؤمنون»، وقد أُجبرنا على القدوم إلى هنا، وعلينا ‏التّعامل معهم بالحدِّ الأدنى. وهي العقلية التي تؤسّس لـ « الغيتو» في المنافي، بوصفه جدار دفاع ضدّ « ‏رذيلة» هذه المجتمعات، ويتمّ استخدام الهويّة الدّينيّة ورموزها بأسوأ طريقة، لبناء هذه الجدران العالية مع ‏المجتمعات الجديدة.‏
الإشكال القائم هنا هو أنّ الأقليّة المسلمة « لا تعرف كيف تصيغ خصوصيّتها في السّياق الجديد، ‏وأن تعيد النظر في طريقة التّعامل مع المجال العمومي المشترك، وأن تفرّق بين الحقّ في التميّز والاختلاف ‏وبين محاولة تغيير إطار قائم بذاته، لاحتواء كلّ مظاهر الثّقافة الأصليّة. هنا تجدر الإشارة إلى أنّه يجب ‏التّفريق بين المعتقدات الدّينية، التي لا يتأثّر وجودها بطبيعة الأمّة السّياسيّة، وبين التّقاليد والعادات، التي ‏قد تتلحّف في لحاف المعتقد الدّيني أحياناً، فتثقل الأجواء المخيّمة على الأقليات» (8)‏.  ‏
لقد ظهر في الجاليات الإسلامية تياران رئيسيان (9) ‏: أوّلهما، تقوده أقلّيّة نشطة، تنادي برفض الغرب ‏الذي تعيش فيه، وتدعو إلى مقاومة ثقافته والانعزال عنها. وثانيهما، أكثري، يرفض جوانب في ثقافة الغرب، ‏ولكنّه مستعدّ للتّعامل معها، والعيش في ظلّها، شريطة أن يحتفظ بثقافته، ويطلب من ثقافة الأغلبيّة الأصليّة ‏احترام ثقافته.‏
ولكن، لا شك أنّ إنكار ثقافات المهاجرين في دول الشّتات يقع في أساس تعثّر، بل إخفاق عمليّة ‏الاندماج الاجتماعي لهم في بلدانهم الجديدة، وأنّ محاولة إدماجهم القسري في ثقافة البلد المضيف سيدفعهم ‏إلى الانكفاء على أنفسهم، والتمسّك بتقاليدهم الخاصّة، وسيؤخّر عملية التّثاقف الإيجابيّة، التي يجب ‏تشجيعها، إذ إنّ عمليّة الإدماج القسري « لم تعد ضروريّة في المجتمعات ما بعد الوطنية»، حسب تعبير «‏لاغرانج». ذلك أنّ الإدماج اليوم «لا يستطيع أن يطمح إلى بلوغ المحاكاة في القيم وأوجه السّلوك، كما أنّه ‏ليس على السّياسة العامّة الإدراجيّة في مجتمع مفتوح، أن تجعل من الذّوبان في مَصْهَرِ القيم والعادات هدفاً ‏مسبقاً أو حتّى أولويّة سياسيّة» (10) ‏. ‏
وفي هذا السياق، يجب تعيين رهانات الاندراج التي « تسمح لكيانات سوسيو ثقافيّة بأن تعيش معاً ‏ديمقراطيّاً. فإذا كنّا نريد ممارسة سياسات تهتمّ فعلاً باندراج السّكان المتحدّرين من الهجرة، فيجب توضيح ‏مفردة الاندماج، والتّجرؤ على الكلام عن الاعتراف بالاختلافات في مجتمع تعدّدي وزمني، والقول لمصلحة ‏من سوف يتمّ الاندراج» (11)‏. ‏
وهكذا، في ظلّ الهجرات الكبيرة لمجموعات بشريّة، تنتمي إلى ثقافات متمايزة، أصبحت عمليّة ‏صهر الأقليّات والثّقافات الدّخيلة في بوتقة الثّقافة الواحدة مسألة صعبة، إن لم نقل شبه مستحيلة. حينئذ ‏مطلوب حوار بين الثّقافات، بحيث تنتفي الحاجة إلى التّركيز على مراقبة الغريب لتُسبدل بـ « المواطنة ‏المشتركة». ومن المؤكّد أنّ عدم تغيير أنماط التّفكير، في الجانبين، من شأنه أن يُحدث شروخاً تتبلور عبر ‏تصادم الثّقافات. وفي هذا السّياق، يبدو أنّ على المهاجرين المسلمين « اتخاذ المزيد من التّدابير للاندراج، ‏واحترام قيم ومعايير المجتمعات التي يعيشون فيها، والكفّ عن تشكيل مجتمع موازٍ داخل الفضاء الأوروبي، ‏بغية تغيير أنماط هذه المجتمعات. كما أنّ على المجتمعات الأوروبيّة أن توسّع أفقها، للتّعايش مع أقلّيات ‏مختلفة ومتنوعة، وليس البحث عن مجرد تذويبها ضمن فضائها الأوروبي» (12) ‏.‏
ولعلَّ منبع تجدّد الإشكال الثّقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين (13) ‏: أولاهما، الالتزام ‏الجماعي بمقتضيات الكونيّة، النّاتجة عن مسار توحُّد البشريّة واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثّورة ‏الاتصاليّة والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النّظري والمعياري بحقّ الثّقافات في الاختلاف ‏والتّمايز وتمايزها من حيث القيمة والمشروعيّة.‏
إنّ المادة 27 من ملحق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول « الحقوق المدنيّة والسّياسيّة»، الذي ‏صدر في العام 1966، تنصّ على أنّه « في الدّول التي توجد فيها أقليّات إثنيّة، دينيّة أو لغويّة، لا يمكن ‏نكران حقّ الأشخاص المنتمين إلى هذه الأقليّات، وعبر وجودهم مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم، في ‏التمتّع بثقافتهم الخاصّة، وفي إشهار دينهم وممارسته، أو استخدام لغتهم الخاصّة». ومن أجل ذلك، فلنجرؤ ‏على توكيد وجود أخلاقيّات إنسانيّة شاملة، هي التي ألهمت « الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» في العام ‏‏1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرّية والأصوليين المتطرّفين، ليست هذه الأخلاقيّة نموذجاً غربيّاً، ‏بل إنّها ميّزة إنسانيّة. هي ميّزة كلّ الشّعوب، وكلّ الأمم، وكلّ الدّيانات. وليس ثمّة أيّ تناقض بين هذه ‏الأخلاق وتنوّع الثّقافات، لأنّ احترام هذا التنوّع هو من صلب هذه الإنسانيّة.‏
حول « المواطنة السياسية»‏
يبدو أن الاندماج السّياسي  هو المطلب الذي يمكن أن يتجاوب معه المهاجرون، لأنّه نابع من ‏طبيعة الأمّة السياسيّة، ما دام مفهوم الأمّة الثقافيّة قد أصبح متجاوَزاً في دول الشّتات الأوروبيّة. حيث اندثر ‏‏– إلى حدٍّ بعيد – العنصر الثّقافي والإثني كعامل انتماء في الغرب، بعد تراجع دور الكنيسة وفصل الدّين ‏عن الدّولة، وبعد أن أصبحت القيم السّياسيّة، التي تبلورت منذ عصر الأنوار، هي القاسم المشترك، وبات ‏احترامها هو الشّرط الوحيد للاندماج، وإن كانت هناك أصوات قوميّة متطرّفة تسعى لتصفية الموروث ‏الثّقافي للمهاجر كشرط لاكتسابه المواطنة السّياسية.  ‏
ومن المؤكّد أنّ تضييق الفجوة بين ثقافة المهاجرين وثقافة دول الشّتات ممكن، ولكنه مرهون ‏بالاندماج الاجتماعي للمهاجرين، من خلال تمكينهم من المواطنة القانونيّة السياسيّة. ففي هذه الحالة وحدها، ‏يحصل فرز طبيعي عند المهاجرين الوافدين، بين ثقافاتهم الخاصّة والثّقافة العامّة لدول الشّتات، بحيث ‏تتحوّل خصوصياتها إلى مجرد خصوصيّة ثقافيّة، غير حاملة لأيّة مطالب سياسيّة خاصّة. ذلك لأنّ الدّولة، ‏في علاقتها مع مواطنيها لا تعير اهتماماً للجوانب الثّقافية، أي أنّ « علاقة المواطن بالمؤسّسات محكومة ‏أساساً بمنظومة قيم سياسيّة، لا ترتكز إلى البعد الثّقافي» (14) ‏.‏
ولكنّ «لاغرانج» يتحدّث عن « الاستلاب السّياسي» في فرنسا أيضاً، إذ إنّ عملية الإدراج السّياسي ‏تبقى جزئيّة « مدن الهجرة تراكم عدم تسجيل الشّبان الفرنسيّين المنحدرين من الهجرة، وامتناع الرّاشدين الذين ‏أصبحوا فرنسيّين من التّصويت.. فمع معدلات امتناع تتجاوز الـ 70 % من المسجّلين، عبَّر سكان الأحياء ‏الحسّاسة عن شعورهم بأنّهم خارج الحياة الانتخابيّة، وخارج النّظام السّياسي، وخارج الجمهوريّة» (15) ‏ ‏. ‏
الهوامش
(1)  د. عبدالله تركماني: فرص وتحديات اندماج اللاجئين المغاربييّن في أوروبا – ورقة قُدّمت في ندوة حول « الشّباب المغاربي ‏وتداعيات الهجرة السّرية» بدعوة من مؤسّسة التّميمي للبحث العلمي والمعلومات ومؤسّسة كونراد أديناور إلى « المؤتمر 47 لمنتدى ‏الفكر المعاصر» في تونس خلال يومي 24 و25 مارس/آذار 2016.‏
(2) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين/استراتيجيّات الهويّة واستراتيجيّات التّثاقف – مركز حرمون للدّراسات ‏المعاصرة/وحدة البحوث الاجتماعيّة، 24 كانون الأول/ديسمبر 2016، ص 18.‏
(3)  عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...،  المرجع السابق ص ص 28 – 29.‏
(4) عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...، المرجع السابق ص ص37 – 38.‏
(5)  عزّام أمين: سيكولوجيا المهاجرين...، المرجع السابق ص ص40 – 42.‏
(6)  مراد زروق: المهاجرون والاندماج السياسي – صحيفة « العرب « القطرية 9 شباط/فبراير 2010.‏
(7)  سمير الزين: اللاجئون وصدام الثقافات – صحيفة « العربي الجديد « 4 تشرين الأول/أكتوبر 2018.‏
(8)  مراد زروق: المهاجرون والاندماج السياسي، المرجع السابق.  ‏
(9)  د. عبدالله تركماني: حظر المآذن يمتحن التنوّع الثّقافي – فصليّة « المغرب الموحّد» التونسية، العدد (5) 17 ‏شباط/فبراير 2010.‏
(10) هوغ لاغرانج: نكران الثّقافات، ترجمة: سليمان رياشي – المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، بيروت ط1، كانون ‏الثاني/يناير 2016، ص 325.‏
(11)  هوغ لاغرانج: نكران الثقافات...، المرجع السابق ص ص  334 - 335.‏
(12) د. عبدالله تركماني: صعوبة صهر ثقافات الأقليّات – صحيفة « الوقت» البحرينية 29 أيار/مايو 2008.‏
(13)  د. عبدالله تركماني: حظر المآذن يمتحن التنوّع الثقافي...، المرجع السابق.‏
(14) مراد زروق: المهاجرون والاندماج السّياسي...، المرجع السابق.‏
(15) هوغ لاغرانج: نكران الثّقافات...، المرجع السابق ص 329.‏