وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
سوسيولوجيا الجندرة ، تعصير الوظائف وتمزيق الروابط
 تعارف أجدادنا منذ القدم على عادات وتقاليد دأبوا عليها جيلا بعد جيل أهمها أنّ الرّجل مطالب بالخروج للبحث عن العمل ‏وذلك ليضمن قوت من يعول من امرأة وأبناء حتّى لو لم يقدر الأب تغطية نفقات أسرته يضطرّ الابن الأكبر حينها أن يسعى ‏جاهدا للتوفيق بين استكمال دراسته وشغل يؤمّن به احتياجاته الخاصّة أوّلا واحتياجات الأسرة ثانيا.‏
وعلى الرّغم من هذه الحياة المطنبة في البداوة، إلاّ أنّه كثيرا ما يتحدّث آباؤنا وأجدادنا عن البركة في الوقت وأنّ الحياة ‏قديما وعلى الرّغم من بساطتها إلاّ أنّ فيها من النّكهة ما لم يذقه أبناء هذا الجيل الذي فرضت عليه متطلّبات الحياة نمطا ‏سريعا للعيش ممّا أذهب عن الفرد المعاصر راحة البال وسعة الوقت حتّى بات الواحد فينا «يجري ما يلحق» كما يقول المثل الشّعبي التّونسي.‏
إنّنا نعيش في حالة من العبثيّة المطلقة التي تصل إلى حدّ الإقرار باستحالة أن يعيش إنسان القرن العشرين في هذا الزّمن ‏على قصر المدّة الفاصلة بين القرنين، فنمط حياة البداوة يختلف اختلافا جذريّا مع نمط الحياة العصريّة التي تتميّز بتحقيق ‏أكبر عدد من الإنجازات الفعليّة في وقت زمني قصير مقارنة بما يتطلّبه الإنجاز الواحد من مدّة كافية لتحقيقه، الأمر الذي ‏أدّى إلى ظهور حالة من القلق والاكتئاب المتواصل ما انجر عنه أمراض الضغوطات النفسية وحتّى القلبيّة.‏
‏ وفي خضم عسر هذه الحياة، أصبح الرّجل غير قادر على تلبية حاجيّات الأسرة، ممّا دعا المرأة إلى الخروج من منزلها ‏والبحث عن شغل إضافي تعين من خلاله زوجها على تكاليف المعيشة. ولهذا النّمط العصري من الحياة نتائج عكسية  ‏يمكن تلخيصها في النقاط التالية :‏
فمن جهة أولى باتت المرأة غير قادرة على التّوفيق بين ساعات الشّغل الطّويلة واحتياجات أسرتها من أكل وتنظيف ‏وترتيب إلى غير ذلك من أعمال المرأة داخل البيت وهو ما خلّف عدم استقرار نفسي داخل عديد العائلات التي لم تحسن ‏التّعامل مع هذا النّمط الجديد فخيّرت، لقلّة علمها، التفكّك كخيار ولو أنّها حاولت تعصير نظرتها للوظائف بما يتوافق مع ‏الزّمن لكانت في غنى عن خيار كهذا.‏
من جهة أخرى، أصبحت رؤية الرّجل للمرأة على أنّها كائن افتكّ منه شغله ورزقه الذي احتكره طيلة عقود من الزّمن ‏وهو ما أدّى إلى ظهور نوع من العنصريّة المقيتة في تشغيل النّساء من ذلك أنّ الأجر لا يكون متساويا مع الرّجل حتّى وإن ‏قامت المرآة بنفس الأعمال التي يقوم بتنفيذها الرّجل، بل إنّ الأجر لا يكون متكافئا مع ما تقدّمه المرأة في عملها ممّا ‏ساهم في إيجاد نسبة كبيرة من النّساء المضطهدات لدرجة أن يحقّ عليهم إطلاق لقب عبيد العصر.‏
هذه الظّواهر أدت إلى بروز شقّين ؛ فالأوّل تميّز بنظرته المتطرّفة في الرّجعيّة تجاه المرأة، أي تلك النّظرة التي تعتبر ‏وظيفة المرأة تقتصر على الوظائف المنزليّة فقط دون السّماح لها بالخروج إلى العمل الأمر الذي يشكّل تطرّفا في الموقف ‏والفكر إذ أنّ الوضعيّة الاقتصاديّة اليوم تحتّم على المرأة والرّجل أن يتقاسما جهودهما لتوفير مستلزمات الحياة ‏الضّرورية، فالرّجل غير قادر لوحده على استيعاب ضرورات الحياة علاوة على الكماليّات التي أضحت من الأوليّات في ‏عصرنا الحديث.‏
وأمّا الشّق الثّاني، فيرى أنّ الدّور الاجتماعي للجنسين يختلف عن الدّور البيولوجي لهما، إذ أنّ البيولوجي، ‏يقوم على أعراف سائدة تقتصر على الإختلافات الجنسيّة بين الرّجل والمرأة فتتّسم بذلك بالجبريّة والاستاتيكيّة كون ‏الفروق الجسديّة بين الجنسيّن فروقا ثابتة وأبديّة. أمّا الإجتماعي، فيقوم على معيار أساسي يتعلّق بتطوّر الحياة ‏الإجتماعيّة بما يجعله مفهوما عصريّا  دينامي حيث تتفاوت الأدوار التي يلعبها الرّجال والنّساء تفاوتاً كبيراً بين ثقافة ‏وأخرى ومن جماعة اجتماعيّة إلى أخرى في إطار الثّقافة نفسها، فالعرق، والطّبقة الاجتماعيّة، والظّروف الاقتصاديّة، ‏والعمر، عوامل تؤثّر على ما يعتبر مناسباً للنّساء من أعمال.‏
إن طرح مفهوم الجندر، أي النوع الإجتماعي، كبديل لمفهوم الجنس يهدف إلى التأكيد على أن جميع ما يفعله الرّجال ‏والنّساء وكلّ ما هو متوقّع منهم، فيما عدا وظائفهم الجسديّة المتمايزة جنسياً، يمكن أن يتغيّر بمرور الزمن وتبعاً ‏للعوامل الاجتماعية والثقافية المتنوعة.‏
إن الاختلاف الحاصل في القدرات الذّهنية (كقدرة معرفة الفضاءات وهندسة المكان) والبدنيّة لدى الجنسين يتأثّر بالتّربية التي يتلقّاها كلّ جنس على حدة، فلو سلّمنا أنّها اختلاف بين الجنسين فهي إختلافات مكتسبة ‏يمكن بالتّدريب التقليل منها، كما أنّ الاختلافات الخلقيّة الفطريّة التي تؤكّد على أنّ مخّ الرّجل أثقل من مخّ ‏المرأة، لاتعني بالضرورة أنّ نسبة الذّكاء عند الرّجل أعلى من نسبة الذّكاء عند المرأة، ‏ذلك أنّ الذّكاء لا يتأثّر بوزن الدّماغ بل يتأثّر بالرّوابط الدّماغيّة التي تعهد إليها وظيفة معالجة واسترجاع المعلومات ‏المكتسبة والتي تتأثّر بالتّجربة الحياتيّة.‏
وفيما يرى أنصار مفهوم الجندر أو النّوع الاجتماعي أنّه يعبّر عن اجتياز آخر الحواجز على طريق تحقيق العدالة بين ‏الرّجال والنّساء لأنّه يشمل التّحوّل في المواقف والممارسات في كافّة المجتمعات، نجد مقابل ذلك العديد من الانتقادات ‏للمفهوم واستخدامه يمكن إجمالها في التّالي:  
‏* يركّز مفهوم الجندر على الأدوار الاجتماعيّة التي هي جزء من النّظريّة الوظيفيّة البنائيّة. وبينما تستبعد هذه النّظرية ‏مفاهيم القوّة والصّراع في تفسيرها للظّواهر، يرجع إطار النّوع الاجتماعي قضيّة المرأة إلى الاختلال في ميزان القوّة ‏والنّفوذ بين الجنسين، وينادى بإعادة توزيع القوّة بينهما من خلال مراجعة توزيع الأدوار والفرص.  
‏* ينطوي مفهوم الجندر على بعض الاتجاهات المتطرّفة التي تتعامل أحياناً مع علاقة الرّجل بالمرأة على أنّها علاقة ‏صفريّة، وتدعو بين ما تدعو إلى إقامة مجتمع من النّساء على أساس أنّه المجتمع الوحيد الذي تتحقّق فيه المساواة ‏المطلقة بين أفراده، ومثل تلك الاتجاهات تتكفّل بإثارة الحفيظة تجاهها حتّى بين أنصار قضيّة المرأة أنفسهم.  
‏* يستخدم إطار النّوع الاجتماعي الفجوة بين أوضاع الرّجل والمرأة أساساً لقياس نهوض المرأة في حين أن مساواتها مع ‏الرّجل في كثير من المجالات لا تعنى بالضّرورة نهوضها، إذ أنّ تساوى نسبة تمثيل الجنسين في المجالس النّيابية على ‏سبيل المثال قد لا يؤدّى إلى اتخاذ القرارات المناسبة لتمكين المرأة إذا كان هناك ضعف في وعى النّائبات البرلمانيّات ‏بقضايا المرأة.  
صحيح أنّ المرأة اليوم لا تزال مضطهدة في عديد دول العالم ومنها العربيّة وهو ما دعا بعض الأحزاب الحداثيّة إلى سنّ قانون يسعى لتكريس النّوع الإجتماعي خاصّة في الجانبين الاقتصادي والإجتماعي. ولئن تميّز الجانب ‏الاقتصادي بوضوحه من خلال إسناد ميزانيّة محلّية قائمة على النوع الإجتماعي عبر استحضار عدد من النقاط كـ : ‏
• تحديد احتياجات كل فئة مجتمعيّة حسب مفهوم النّوع الإجتماعي‎.‎
• تحقيق توزيع عادل للموارد المالية المتاحة حسب احتياجات كلّ فئة مجتمعيّة‎.‎
• إعادة ترتيب الأولويّات أكثر من الزّيادة في الإنفاق العمومي‎.‎
• التّركيز على إعادة توجيه البرامج داخل القطاعات .‏
• تقييم ومتابعة مدى الإلتزام بالمبدأ المؤيّد لأخذ احتياجات المرأة والشّباب والأطفال في الحسبان في رسم ‏السّياسات العموميّة‎.‎
• التأكّد من تكافؤ الفرص للجميع للوصول إلى الموارد والمصادر المتاحة في المجتمع وما تقدّمه الدّولة من ‏إمكانات‎.‎
إلا أنّها لم توضح لنا المفهوم في جانبه الإجتماعي وخاصّة أثر ذلك على الأسرة التي تمثل اللّبنة الأولى في المجتمع ما ‏دفع منظمات دينيّة وأخرى حقوقيّة إلى المطالبة بعدم الإعتماد على هذا المصطلح الهجين خاصّة وأنّه قد يحمل دلالات ‏عديدة وجب إيضاحها كما يجب العمل على التدبّر في هذا المصطلح لتنقيته من الشّوائب وليكون بذلك في توافق مع روح التّشريع الإسلامي ممّا ‏يساهم في تجديد الفكر الإسلامي والانفتاح على قضايا العصر.‏