تاريخنا

بقلم
محمد الصالح ضاوي
في تفضيل الصحابة وترتيب الخلفاء ج 1‏
 ‏ لا نزال نسترجع قضايا ميّتة، تاريخيّة، لا تنفعنا لا دنيا ولا آخرة... ونشغل أنفسنا بها، ‏ونتحاور ونتناقش، بل ونتصارع ونتعادى بسببها... نسعى بكلّ قوتنا إلى تمثّل الفتنة واستعادة ‏جذوتها، وتقمّص شخوصها، في سلوك غير واعٍ، موجّه من قبل من له مصلحة في إضعافنا ‏وإلهائنا عن قضايانا الحقيقية...‏
وإن كنّا أُرغمنا على نقاش هذه القضيّة، فلبيان تهافت عقيدتنا فيها، ولبيان ادعاءات ‏الفقهاء والعلماء، السّياسيّة، بثوب ديني عقائدي... ثمّ لنحلّ المسألة حلاّ نهائيّا مرضيّا عند الله ‏وأهل الشّأن المعنيين بالقضيّة مباشرة.‏
أصل القضيّة
القضيّة، انطلقت، مثل غيرها من قضايا الجدل، بخطبة للشّيخ الكتّاني (1)، استنقص فيها ‏معاوية بن أبي سفيان، ورفض الترضّي عليه، على طريقة وعقيدة الغمارية... وانتشر المقطع ‏في شبكة التّواصل الاجتماعي، وتفجّرت الرّدود... شخصيا، كنت قد تناولت مسألة معاوية ‏والفتنة الكبرى، وعندي موقف لا يقبله من تمسّكوا بأدبيّات أهل السّنة والجماعة تمسّكا حرفيّا، ‏وملخصه: أنّ عليّا على حقّ، ومعاوية على خطأ، وأنّ خطأه سياسي بالأساس، ينقد فيه، ولا ‏يتبع فيه، وليس قدوة لنا في المثال السّياسي (في الفتنة)، ومع ذلك، نقدّر صحبته للرّسول  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونترضى عليه من هذا الجانب، ولا نكنّ له كرها... وقد كشف لساداتنا، أنّه ‏مغفور له بإذن الله تعالى، وأنّ عليّا هو صاحب الحقّ بلا منازع.‏
وبما أنّ للقضيّة رائحة تشيّع، فقد تطوّرت إلى المفاضلة بين آل البيت والصّحابة، ‏وتمسّك «أهل السّنة والجماعة» بالتّرتيب التّفاضلي المتوارث من الأئمة والعلماء، والذي يفضّل ‏أبا بكر على كافة الصّحابة، ويثني بعمر، ويثلث بعثمان، ويربّع بعليّ رضي الله عنهم أجمعين.‏
وقد اعتبرت، في حواري مع الأخوة، أنّ القضيّة: قضيّة المفاضلة بين الصّحابة، قضيّة ‏سياسيّة، من تداعيات الفتنة الكبرى، وظهور المذهب الشّيعي، السّياسي في أصله... واعتبرت، ‏حسب مرجعيّتي الأكبريّة، أنّ الأفضليّة عند الله غير معلومة وغير مكشوفة لنا، وأنّها أمر غيبي ‏لا يجوز لنا التّعرض له، فهو تكلّف كما قال الشّيخ الأكبر. وأنّ التّرتيب الخلافتي هو ترتيب ‏إلهي بناء على أعمار الخلفاء الأربعة، وبناء على نهاياتهم، وليس بناء على أفضليّة بعضهم ‏على بعض... فكلّهم كان مستحقّا للخلافة، متوفّرة فيه شروطها، غير ناقصين فيها... فعلى هذا ‏الأساس، هم متساوون في أحقّية الخلافة، متفاضلون عند الله تفاضلا نجهله، ولا يجوز التكلّم ‏فيه. وهذا أسلم لديننا ودنيانا.‏
اعتراض تقليدي
وكان الاعتراض الأساسي على أطروحتي، والوحيد أيضا، يتعلّق بقولي أنّها قضيّة ‏سياسيّة مفتعلة ومبتدعة بعد الصّحابة، ولم يكونوا يخوضون فيها قبل الفتنة الكبرى... فساق ‏الأخوة لي الدّليل الدّامغ والوحيد والرّئيسي لموقف أهل السّنة والجماعة، وهو حديث ابن عمر، ‏المشهور في كتب الحديث، والذي رواه البخاري في صحيحه، وهو: ‏
عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:‏ «كُنَّا‎ ‎نُخَيِّرُ‎ ‎بيْنَ‎ ‎النَّاسِ‎ ‎في‎ ‎زَمَنِ‎ ‎النّبيِّ‎ ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَنُخَيِّرُ أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بنَ ‏الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهم»(2)‎.‎
ويقول ابن حجر في فتح الباري(3)‏: وفي رواية‎ ‎عبيد الله بن عمر‎ ‎عن‎ ‎نافع‎ ‎الآتية في ‏مناقب‎ ‎عثمان، «كنّا لا نعدل‎ ‎بأبي بكر‎ ‎أحدا ثمّ‎ ‎عمر‎ ‎ثمّ‎ ‎عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله -  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فلا نفاضل بينهم».... ولأبي داود‎ ‎من طريق‎ ‎سالم‎ ‎عن‎ ‎ابن عمر: «كنّا ‏نقول ورسول الله -  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - حيّ‎ : ‎أفضل أمّة النّبي - ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ‏بعده‎ ‎أبو بكر‎ ‎ثم‎ ‎عمر‎ ‎ثم‎ ‎عثمان».‏
زاد‎ ‎الطبراني‎ ‎في رواية: «فيسمع رسول الله -  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ذلك فلا ينكره»، ‏وروى‎ ‎خيثمة بن سليمان‎ ‎في‎ ‎فضائل الصّحابة،‎ ‎من طريق‎ ‎سهيل بن أبي صالح‎ ‎عن أبيه عن‎ ‎ابن ‏عمر:‏‎ «كنّا نقول: إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى النّاس، فيسمع النّبي -  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ذلك فلا ينكره..» .‏
هل يمكن اعتبار هذا النص: حديثا، فيه إقرار من رسول الله  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في ‏حياته، بأنّ أفضل الصحابة أبا بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان؟ وهل وصل باعتقاد الصّحابة هذا، أن ‏استدلّوا في حياتهم، وأثناء حدوث الحوادث، بهذا الحديث؟ هل استدلّوا به في سقيفة بني ساعدة؟ ‏وفي بيعة عثمان؟ هل فعلا، هناك إجماع على هذا التّرتيب؟ وهل التّرتيب في الخلافة هو ‏ترتيب في الأفضليّة؟ وهل الخروج على هذا الإجماع يقتضي التّكفير والتّفسيق والتّبديع؟ وهل ‏هناك رأي آخر، في الموضوع، يتفادى الإشكال ولا يخرج عن النّص؟
كل هذه الأسئلة، ستكون بإذن الله محور كلامنا في الفقرات القادمة...‏
الحديث تحت المجهر
لنا وقفة مع هذا الحديث، ولنا عدّة أسئلة حارقة حوله، لا ندّعي علما وكشفا، ولا نسقط ‏في الطّعن والرّفض، وإنّما نحن باحثون عن حقيقة ديننا، حتّى يتّهمونا بالجنون، كما يقول ‏المثل.‏
أولا: هذا الحديث، ليس بحديث نبوي، وإنّما هو كلام ابن عمر، الصّحابي الجليل... ‏يتحدّث فيه عن موضوع تجاذب أطرافه الصّحابة زمن الرّسول  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو: ‏تخيير بين النّاس... فيخيّرون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان... ولم يقل ابن عمر، إنّ المجالس ‏التي يتطرّق فيها لهذا الكلام، كانت بحضرة الرّسول ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ...‏
ثانيا: يذكر ابن حجر في رواية أخرى، لأبي داود، أنّ رسول الله ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ‏سمع هذه المقالة، وربّما عدّة مرّات، وكان لا ينكرها، أي أنّه لم يعقب عليها بالإنكار والرّفض، ‏ولكن أيضا، لم يعقب عليها بالإقرار التّام... فربّما قبلها من وجه واحد، لا من كل الوجوه، ‏فيتوقّف عن الردّ...‏
«ولأبي داود‎ ‎من طريق‎ ‎سالم‎ ‎عن‎ ‎ابن عمر «كنا نقول ورسول الله - ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ‏‏- حيّ‎ : ‎أفضل أمّة النّبي - ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - بعده‎ ‎أبو بكر‎ ‎ثم‎ ‎عمر‎ ‎ثم‎ ‎عثمان» ‏زاد‎ ‎الطّبراني‎ ‎في رواية «فيسمع رسول الله - ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ذلك فلا ينكره»(4)‏ ‏...‏
‏ والذي يسوّق من فهم هذا الحديث، أنّ الصّحابة كلّهم، أو أغلبهم، كانوا على عهد رسول ‏الله، وفي زمانه، وبحضرته، عارفين بأفضليّة أبي بكر على النّاس، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ولم ‏ينكر ذلك منكر... وكأنّ هذا إجماع من الصّحابة، على موقفهم ورؤيتهم لأفضليّة الصّحابة... ‏فهل فعلا هذا هو الحقّ؟.‏
لو كان هذا إجماعا من الصّحابة على أفضليّة الثّلاثة على التّرتيب المعروف، لجاز لنا ‏القول، أنّ أول من خرق إجماعهم، وخالفه، هم أنفسهم... حيث لم نر أثرا لهذا الإجماع في سقيفة ‏بني ساعدة، لما اجتمع الأنصار لاختيار خليفة للمسلمين،علما وأنّ رواة الحديث كلّهم مدنيّون، ‏فلا وجه للادّعاء بأنّ الأنصار لا تعرف الحديث؟؟؟ ‏
لو كان مضمون الحديث: الذي هو ترتيب الصّحابة الثّلاثة، معروفا ومشهورا بين ‏الصّحابة، لاستدل به في بيعة أبي بكر وعثمان وعلي... ولما قال عمر بن الخطاب في خطبة له: ‏إنّها –بيعة أبي بكر- كانت فلتة (5)، أي بغتة ومفاجأة واستثناء، وقى الله شرّها المسلمين... ولما ‏كوّن عمر بعدها لجنة السّتّة لاختيار الخليفة من بعده، وهو يعلم أنّ عثمان أفضل السّتة، وأنّ ‏ابنه، عبد الله، من روى الحديث؟؟؟.‏
هذا الحديث ليس نصّا
نستنتج ممّا سبق، أنّ حديث ابن عمر، ليس حديثا نبويّا، وليس فيه إقرار نبويّ...  هو ‏حديث مجالس كانت تعقد يوميّا في المسجد النّبوي، أظنّ أنّها بين أهل الصّفة، لغلبة المهاجرين ‏عليه، وكون ليس هناك اسما أنصاريّا بين المفضّلين... وأنّ هذا الحديث هو استنتاجات ‏شخصيّة من الصّحابة للسّياق العام... وأنّه قد ألقي في روعهم، إلهاما، أنّ الخلافة بعد النّبي ‏للثّلاثة على التّرتيب الذي وقر في قلوبهم... إنّها توقعات صدقها الله سبحانه، وليست حديثا نبويّا ‏ونصّ في الإجماع على الأفضليّة...فمن اعتبر هذا التّرتيب هو للخلافة، أي تولّي الخلافة على ‏هذا التّرتيب، فقد صدق... ومن اعتبر أنّ هذا التّرتيب يدل على أفضلية البعض دون البعض، ‏فقد أخطأ وجانب الصّواب، لأنّه ليس هناك نصّا في التّفضيل... رغم وجود نصوص في ‏الفضائل...‏
فهذا الحديث، لا يرتقي ليكون نصّا في الإجماع الشّرعي على التّفاضل بين الصّحابة... ‏وهو لم يستدل به في الحوادث والنّوازل المعنيّة به... بل حدث العكس... وكأنّ الصّحابة نسوا ‏ما كانوا يتوقّعونه، وانخرطوا في مساق الأحداث بما ألهموا به من سلوك وعمل... فجاءت ‏النّتائج فيما بعد، موافقة لتوقّعاتهم، أو لجزء منها على التّحقيق... ‏
فنص الحديث، لا يمكن أبدا أن يكون أساسا لبناء نظريّة أو حكم، إلاّ فيما يخصّ ‏التّرتيب في تولّي الخلافة... هذا الذي لم ينكره الرّسول صراحة... أمّا التفضيل، فلم يقرّه ‏الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكشف حقيقته، لأنّه اختصاص الهي...‏
أسس الإجماع
بعد أن اتفقنا، على أنّ حديث ابن عمر، هو توقّعات بعض الصّحابة، بخصوص خلافة ‏الرّسول الأكرم  ‎صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ألهموا بها، وجاء القدر موافقا لما وقر في قلوبهم... رغم ‏أنّ هذا الحديث لم يستدل به في الحوادث الكبرى، مثله مثل غيره من أحاديث الفضائل... فإنّنا ‏سنسعى إلى البحث في الإجماع المزعوم، الذي تأسّس على هذا الحديث، عند علماء السّنة ‏والجماعة، والذي استقرّ اليوم، على تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ رضي الله عنهم ‏أجمعين، على التّرتيب الخلافتي... فإلى أيّ مدى، يمكن اعتبار هذا الإجماع: إجماعا أصوليّا ‏شرعيّا يستجيب إلى شروط الإجماع المعروفة لدى علماء الأصول؟.‏
يقول ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع (6) ‏:‏ 
«فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية يرجع إليه ويفزع نحوه ويكفر من خالفه إذا ‏قامت عليه الحجة بأنه إجماع» ... ويقسم الإجماع إلى قسمين: « فأحد الطرفين هو ما أتفق ‏جميع العلماء على وجوبه أو على تحريمه أو على أنه مباح لا حرام ولا واجب فسمينا هذا القسم ‏الإجماع اللازم» والثاني: «هو ما اتفق جميع العلماء على أن من فعله أو اجتنبه فقد أدى ما عليه ‏من فعل أو اجتناب أو لم يأثم فسمينا هذا القسم الإجماع الجازي»... ثمّ يذكر آراء أخرى في ‏الإجماع لا تستقيم، حتى يصل إلى الرأي السليم، وهو:‏
«وقوم قالوا إجماع كلّ عصر إجماع صحيح إذا لم يتقدّم قبله في تلك المسألة خلاف، ‏وهذا هو الصّحيح لإجماع الأمّة عند التّفصيل عليه، واحتجاجهم به وترك ما أصلوه له.‏
‏... وقوم قالوا الإجماع يكون من وجهين: إمّا من توقيف منقول إلينا معلوم، وإمّا من ‏دليل من توقيف منقول إلينا معلوم، ولكن إذا صحّ الإجماع فليس علينا طلب الدّليل، إذ الحجّة ‏بالإجماع قد لزمت وهذا هو الصّحيح»...‏
نستنتج إذا ما يلي: ‏
القاعدة الأولى: إجماع كلّ عصر إجماع صحيح إذا لم يتقدّم قبله في تلك المسألة خلاف.‏
والقاعدة الثّانية: إذا صحّ الإجماع فليس علينا طلب الدّليل، إذ الحجة بالإجماع قد لزمت.‏
وللحديث بقية...‏
الهوامش
(1) هو الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث الكتاني، أحد شيوخ الطريقة الكتانية بمصر، وهو في خلاف مع شيوخ المغرب لاختلافات في مسائل عقدية تهم الصحابة والخلفاء والفتنة الكبرى... 
(2) صحيح البخاري، الحديث رقم 3655.‏
(3) بن حجر ،أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني الشافعي: فتح الباري شرح صحيح البخاري، نشر: دار ‏المعرفة - بيروت، 1379، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، ج 7، ص 16.‏
(4)  ن.م. ‏
(5) بدر الدين العينى، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى (المتوفى: ‏‏855هـ): عمدة القاري شرح صحيح البخاري، نشر: دار إحياء التراث العربي ،بيروت، ج 24 ص 10.‏
(6) ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ): مراتب ‏الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات