الأولى

بقلم
فيصل العش
نعم إنّها ثورة ... ولكن!
 (1)
مرّة أخرى يثبت التّونسيّون أنّ ما أنجزوه منذ ثمان سنوات ونيف ثورة، ومرّة أخرى تنجح التّجربة التّونسيّة في تجاوز أزمتها وتزيد المؤمنين بها يقينا بأنّها تجربة متميّزة وفريدة من نوعها في العالم العربي، خمس ساعات فقط بعد وفاة الرّئيس كانت كافية لانتقال السّلطة إلى رئيس البرلمان بصفة مؤقّتة كما ينصّ على ذلك الدّستور، في جوّ من الإجماع السّياسي والمجتمعي لم تشبه شائبة بالرّغم من غياب المحكمة الدّستورية بما يسمح بالبحث عن ذرائع قانونيّة لتعطيل انتقال السّلطة. 
يتمّ لأوّل مرّة في تاريخ العرب نقل السّلطة كما ينصّ بذلك الدّستور وليس حسب رغبة الزّعيم الفلاني أو حزبه أو عائلته. مات رئيس الدّولة ولم تنتشر الفوضى في أرجاء البلاد ولم نشاهد الدبّابات والعربات العسكريّة تجوب الشّوارع وتتحكّم في الطّرقات كما يحدث عادة في الدّول العربيّة. الجيش الذي يمكنه في سياقات أخرى استغلال مثل هذه اللّحظات ومحاولة إرباك المشهد وقف كما هي عادته في تونس الى جانب ‏مدنيّة الدولة واستمرارها وحماية ديموقراطيتها الناشئة. سمع التّونسيّون الخبر فحزنوا ولكنّهم واصلوا أعمالهم ونشاطهم بصفة عادية ولم تتوقّف حركة السيّر ولم تغلق المحلاّت ولم تتعطّل جميع المرافق مهما كان نوعها... ألا يحسب هذا لفائدة التّجربة التونسيّة؟ ألا يدلّ هذا على أنّ ما أنجز في تونس ثورة؟
(2)
ليست هذه المرّة الأولى التي يؤكّد فيها التونسيّون أنّهم أنجزوا ثورة وأنهم حريصون كلّ الحرص على نجاح تجربتهم برغم كلّ العراقيل والمطّبات. قبل ثمان سنوات من اليوم حصل مالم يحلم به أكثر المتفائلين في تونس وفي الوطن العربي، شارك التونسيّون بكثافة في عمليّة ديمقراطيّة شفّافة لانتخاب نوابهم في المجلس التّشريعي لكتابة دستور جديد وتسلّم على إثر تلك الانتخابات «سجناء الأمس» الحكم وتقلّدوا المناصب الوزاريّة والسّياديّة في البلاد. 
وقبل خمس سنوات من اليوم حقّق التونسيّون إنجازا فريدا من نوعه في العالم العربي بانتخابهم لرئيس دولتهم لأوّل مرّة عبر صناديق الاقتراع من دون تزوير ولا فبركة. وفاز «الباجي قائد السّبسي» بكرسي الرّئاسة متقدّما على منافسه الرئيسي «محمد المنصف المرزوقي» الرّئيس المؤّقت آنذاك بفارق لم يكن كبيرا، وشهد العالم بعد أيّام معدودات حدثا آخر لا يقلّ فرادة عن الأوّل، ولم يشهد له مثيلا في تاريخ العرب حيث استقبل الرّئيس المنهزم منافسه الذي فاز عليه ليسلّمه مقاليد الحكم في جوّ من الودّ والاحترام. 
إنّها لبنة جديدة تضاف إلى صرح التّجربة التونسيّة التي مثّل نجاحها لحدّ الآن حدثا سياسيّا هامّا يثير الإعجاب ليس على المستوى الوطني فحسب بل على ‏المستوى الإقليمي والعالمي نظرا للظّروف الصّعبة التي مرّت بها هذه التّجربة والمطبّات العديدة التي اعترضتها والوضع ‏الإقليمي الخطير الذي أحاط بها. فهل اكتمل بناء هذا الصّرح وصار عصيّا على محاولات تخريبه؟ وهل يمكن أن نعلن نجاح التّجربة التونسيّة في الانتقال من نجاسة حكم الاستبداد إلى طهر حكم الشّعب ومن التخلّف إلى التقدّم؟   ‏
(3)
ليس الأمر بهذه البساطة، فنجاح المسار السّياسي - وإن كانت هنّاته عديدة- لا يعني نجاح التّجربة في مجملها ولا يعني أنّه لا مجال للنّكوص إلى الوراء مرّة أخرى، ذلك أنّ هذا الصّرح الذي تغبطنا عليه كثير من الشّعوب العربيّة وغير العربيّة ويحسدنا عليه حكّامها، فيتآمرون عليه باللّيل والنّهار ويسعون بكلّ جهد إلى تخريبه، يبقى هشّا ما لم يتمّ تحصينه بالاعتناء بالمسارات الأخرى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وهو أمر لم نلمسه منذ 2011.  
فلو نظرنا إلى الواقع التّونسي للاحظنا أنّ البلاد تعيش على صفيح ساخن في وضع لا تُحسد عليه، تتعاظم فيه مخاطر الانهيار الاقتصادي ‏والانفجار الاجتماعي وتتوالى عليه المصاعب بالجملة. وفي المقابل نجد الحكومة تلو الحكومة تأخذ المشعل عن سابقاتها من دون حلحلة للوضع ‏وانفراج للأزمة. فأغلب المطالب التي رُفعت أثناء الثّورة وبعدها لم تتحقّق، وبقي شعار مقاومة ‏الفساد الذي رفعته الحكومات المتعاقبة شعارا أجوف لا أثر له في الواقع وفشل الجميع في تحقيق ‏العدالة الانتقاليّة التي من شأنها غلق ملف التّجاوزات التي حصلت لعدد كبير من المناضلين قبل ‏الثّورة وبعدها. أمّا اقتصاديّا فالاختلال في الميزان التّجاري وهيمنة التّجارة الموازية تكفي لتشخيص المشهد المؤلم. وفي الجانب الاجتماعي ارتفع منسوب البطالة ‏وتعمّقت الفجوة بين الدّاخل والسّاحل ممّا زاد في حدّة الاحتقان لدى سكّان المناطق الدّاخليّة نتيجة ‏غياب منوال تنموي واضح المعالم مغاير لما كان عليه في زمن الاستبداد. أمّا في الجانب الثّقافي فحدّث ولاحرج، فقد تمّ تناسيه جملة وتفصيلا من طرف أغلب الفاعلين في المشهد الوطني غير عابئين بمخاطر هذا التّناسي بالرّغم من أنّ الجميع يعلم علم اليقين أنّ المخاطر التي تتربّص بالتّجربة الدّيمقراطية التونسيّة عديدة ومتنوعة لكنّ أخطرها ذات صبغة ثقافية فكريّة، لعلّ أهمّها خطري «الاستبداد» و«التّواكل».
(4)
لا يعني سقوط الدكتاتور إعلانا لنهاية عهد الاستبداد ولا يعني نجاح التّجربة الانتخابيّة انتفاء إمكانيّة صياغته وعودته من ‏جديد، فقد يتشكّل الإستبداد من جديد مادام لديه حاضنة وهي ثقافة الإستبداد السّائدة ‏والمنتشرة لدى طيف لابأس به من التّونسيين وخاصّة لدى جزء كبير من النّخبة من مفكرين وسياسييّن وفنانين وصحافيين. ‏وتتجلّى هذه الثّقافة في تعبيرات متعدّدة كالتعصّب لفكرة أو ايديولوجيا معيّنة وعدم الاعتراف بالآخر ونفي حقّه في الإختلاف ‏والسّعي إلى فرض الرّأي بالقوّة المادّية والمعنويّة. وهي ثقافة خبرناها جيّدا خلال السّنوات الماضية لدى العديد من ‏القوى السّياسية والفكريّة في البلاد من يمينها ويسارها. فمنهم من يحاول فرض ‏موقفه بحجّة «الشّرعية الانتخابيّة» وآخر بحجّة «الشّرعية الدينيّة» وثالث بحجّة «حداثته وفكره التّنويري» وهو ما نراه بالعين ‏المجردة على شاشات التّلفاز وفي مجلس الشّعب وفي الطّريق العام وفي المساجد والصّحف والإذاعات وصفحات التّواصل ‏الاجتماعي... ويعتمد الجميع تقريبا نفس السّلاح المتمثّل في التّشويش ومحاولة طمس الحقائق وتحريف الكلم عن ‏مواضعه ورفع الأصوات بكافة أنواع اللّغو حتّى تضيع الحقيقة، وتخويف النّاس من خطورة الاستماع الى الرأي الآخر بتعلّة ‏عدائه للثّورة أو للحداثة أو للدّين. وليس الإرهاب سوى إحدى تعبيرات ثقافة الإستبداد والتسلّط، فالإرهابيون لا يعترفون بحقّ الآخرين في تبنّي أفكار مختلفة ‏عن أفكارهم بما أنّهم يعتقدون أنّ أفكارهم هي جوهر الحقيقة وأنّ كل من يخالفها هو من الطاغوت، فيستباح عرضه ويفقد حقّه ‏في العيش. ‏
 وفي ظلّ ساحة يغيب فيها الحوار الحقيقي بين المختلفين والفاعلين في المشهد السّياسي والاجتماعي ويحضر في المقابل تبادل تهم الفشل والتخلّف والتّخوين ويرتفع صوت الإقصاء والتّشويه المتعمّد، يستطيع الإستبداد أن يبرز ليحكم من جديد سواء عبر بوابة الإنتخاب أو غيرها ممّا سيهدّد التّجربة التونسيّة برمّتها. يعشّش الإستبداد في أذهان طيف كبير من التونسيين ‏بدرجات متفاوتة ولا يمكن الحدّ منه والقضاء عليه إلاّعبر نشر ثقافة الحوار وقبول الآخر وهذا لعمري عمل ثقافيّ بامتياز. ‏
(5)
لا يختلف إثنان في اعتبار انتشار ثقافة التّواكل والكسل وأفول ثقافة العمل التي هي أساس كل عمران وحضارة من أهمّ ‏أسباب الأزمة الحاليّة التي تعيشها تونس على المستوى الاقتصادي. فالثّقافة السّائدة لدى أغلب التّونسيين ترتكز على تحميل ‏الحاكم مسؤوليّة النّهوض باقتصاد البلاد وتوفير متطلبات المواطنين من مأكل وملبس وصحّة وعمل وترفيه. وتقوم على ‏المطلبيّة المشطّة دون ربطها بالإنتاج ومراعاة الوضع الاقتصادي المنهار الذي تعيشه البلاد.  ‏
هذه الثّقافة ليست وليدة ما بعد الثّورة، لكنّها ازدادت حضورا في المجتمع التونسي نتيجة التسيّب الذي أصاب مؤسّسات ‏الدّولة بغياب المراقبة والحزم اللاّزمين وتراجع سلطة المشرفين واستقواء بعض الموظفين والعملة في القطاعين العام ‏والخاصّ بالنقابات حتّى أصبحوا يشعرون بأنّهم فوق القانون. وقد تكبّدت المجموعة الوطنيّة خسائر مادّية ضخمة من جرّاء ‏آلاف الإضرابات والوقفات الاحتجاجيّة خاصّة في القطاعات الاستراتيجيّة مثل الفسفاط ومن جرّاء عزوف التونسي عن العمل ‏وبروز ما يحقّ تسميته بالعصيان الإداري (نسبة التغيب عن العمل بلغت درجات غير معقولة، وكذلك الحضور المتأخر ومغادرة ‏العمل قبل التوقيت الإداري).‏
لقد ساهمت هذه الثّقافة مع عناصر أخرى في تأزّم الوضع الاقتصادي في البلاد وتقلّص الاستثمار واختلال ميزانية الدّولة ‏حيث ارتفعت نسبة العجز من جهة والتّضخّم من جهة أخرى مما زاد في حدّة الاحتقان الإجتماعي. يعلم الجميع علم اليقين أنّ تحقيق التّنمية الاقتصاديّة وتخفيض نسبة البطالة بخلق مواطن شغل جديدة وتحسين مستوى دخل ‏المواطن التّونسي وطاقته الشرائيّة هي البلسم لعدم الاستقرار وصمام أمان ضدّ إنتكاسة التّجربة التّونسيّة الفتيّة. ويعلم الجميع ‏أيضا أنّ ذلك لن يحصل إلاّ عبر الاستثمار وخلق الثّروات وتحسين الإنتاجيّة وهو ما لا يتحقّق إلآ بالقضاء على ثقافة التّواكل ‏وعودة النّاس إلى العمل وتقديسه باعتباره قيمة حضاريّة من دونها لا تقوم للأمم قائمة ولاتحقّق الشّعوب كرامتها، فتحقيق التّنمية لا يأتي بالصّدفة بل بتقديس العمل وتجذّر ثقافة الانضباط والتّفاني والاتقان ‏في العقول. أمّا إذا ‏حافظت ثقافة التّواكل على تواجدها في الأذهان واستمر احتقار العمل وغياب الانتاج فإن ما تحقّق من ‏نجاحات في التّجربة التونسية سيتعرّض للنّسف والانتكاسة.‏
(6)
إنّ الثّورة التّونسيّة ستبقى عرجاء وقد تصيبها الإعاقة الدّائمة ما لم تصحبها ثورة ثقافيّة شاملة تعيد بناء شخصيّة التّونسي على أسس صحيحة نابعة من هويّته تكون بديلا لثقافة «الاستبداد» التي قامت على الكسل والخنوع والرّشوة والكذب والسّرقة والأنانيّة وبيع الذّمم والتي عملت على مدى السّنين على تحطيم حبّ التّونسي لوطنه وهويّته.
ولن ينجح التّونسيون في مسارهم الثّقافي المطلوب إلاّ إذا شارك فيه الجميع بمختلف أطيافهم الفكريّة والسّياسيّة والاجتماعيّة بعيدا عن الإقصاء والتّمييز مع ضمان أمن المثقفين والمبدعين والفنانين وعدم تقييد حريتهم حتّى يدلي كلّ بدلوه ويقدّم وجهة نظره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وهكذا تتأسس ثقافة جديدة نابعة من حراك كلّ التونسيين تكون سندا للثورة السّياسية في صراعها مع قوى الردّة والفساد، لأنّ الثّقافة ليست قوالب جاهزة تأخذ من كتب التّراث أو تستورد من الخارج وتفرض فرضا على النّاس، إنما هي بناء يشيّد حجرة حجرة.
(7)
ومن ركائز الثّورة الثقافيّة المرجوّة إصلاح المنظومة التّربوية. فصلاح حال هذا الشّعب وتحقيق تنميته الشّاملة لا يمكن  انجازهما إلاّ بإطلاق ثورة حقيقيّة في البرامج والمناهج التعليميّة تقطع مع الماضي وتجاربه العبثيّة المسقطة وتؤسّس منظومة جديدة، متأصّلة في خصوصيّتنا الثّقافيّة ومتشبّعة بقيمنا الإسلاميّة والعربيّة ومتفاعلة إيجابيا مع القيم الإنسانيّة. منظومة لتربية عصريّة تواكب التحوّلات التقنية، ملائمة لأولوياتنا الاقتصاديّة، تُعدّ الناشئة لحياة المواطنة والمشاركة الدّيمقراطيّة وتدعّم قيم الحرّية والعدالة والتّسامح وتنمّي شخصية المتعلّم من جوانبها المتعدّدة. منظومة تهدف إلى خلق جيل متوازن ثقافيّا وفكريّا وعلميّا قادر على بناء بلده وافتكاك مكانه في سوق الشّغل وطنيّا وعالميّا.
(8)
سيبقى تحول التّونسيين من واقع الاستبداد والتّهميش إلى واقع السّيادة والمواطنة أعرجَ ما لم تصاحبه ‏ثورة ثقافيّة شاملة وحركة اقتصاديّة تعمل في كلّ الاتجاهات وتُؤسَّس على حبّ العمل والاستثمار في ‏الوطن ومن أجل الوطن. إن صمود صرح الثّورة في تونس يتطلّب النّجاح في تحقيق تحوّل نوعيّ في المسارات السّياسية والاقتصادية ‏والاجتماعية، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ عبر القيام بثورة ثقافية تحطّم ركائز ثقافة الاستبداد وتبني ركائز جديدة ‏تقوم على مبادئ الحرّية بدل القمع والكرامة والعزّة بدل الذلّة والمسكنة والعمل بدل التّواكل والتّضحية ‏بدل المصلحيّة وحبّ الذات. ثقافة تقدّس المواطنة وتكرّس سيادة القانون وتمنع المحسوبية وتعيد للهوية العربية ‏الإسلامية مكانتها في عملية إعادة بناء النّسيج المجتمعي .‏
لكن هذه الثورة لا يمكن أن تتحقّق بين عشيّة وضحاها، فتغيير الثّقافات ليس بالأمر الهيّن ويتطلب كثيرا من الجهد والصبر ‏والتخطيط المحكم وتكاتف جهود السّياسيين والمثقفين المدافعيـن عن الثّورة بمختلف ‏مشاربهم الفكرية، لخلق جوّ من الحوار والتقارب وترسيخ عقلية احترام الآخر وتكريس مبدأ التنوع ‏وإبراز ميول التونسي إلى السلم والوسطيّة ورفضه لكل أشكال التّطرف والعنف. وهم بذلك يقطعون الطّريق أمام ‏قوى الردّة ويساهمون في ضمان نجاح تجربتهم التونسيّة الرّائدة.