تأملات

بقلم
د.عزالدين عناية
تاقت نفسي إلى خلاصك (من مزامير داود)‏
 تُطرح في أوساط المهتمّين بالقضايا الدّينية‎ ‎تساؤلات بشأن‎ ‎الدّور الوظيفي للمخزون الرّوحي‎ ‎للأديان في‎ ‎بثّ السّكينة في مجتمعات تعاني من حالات‎ ‎الثّوران،‎ ‎وذلك في ظرف‎ ‎مشوب‎ ‎بالارتباك والاضطراب.‏‎ ‎فهل بوسع نهج التّصوف وسائر التّجارب الرّوحية،‎ ‎الإسهام في تخفيض ‏منسوب القلق والخوف والعنف الذي يجتاح عالمنا؟ صحيح أنّ التّجارب الدّينية متنوّعة، ولكن ‏يبقى التطلّع الجوهري لمختلف أصنافها‎ ‎متلخّصا في السّعي لدحض القلق العميق الذي يكتنف ‏عالم الإنسان، أو بحسب تعبيرة «هايدغر» لتخفيف‎ ‎وطأة الوجود‎ ‎الذي قُذف فيه وأُسلم للموت.‏
ففي أدبيّات الدّراسات الدّينية المنضوية تحت علم الأديان، صيغت جملة من التّفسيرات ‏بشأن طبيعة التّجربة الدّينية وفحواها، هل هي فطريّة أم اجتماعيّة أم نفسيّة؟ بلغ فيها‎ ‎الأمر ‏حدّ اعتبار الدّين حالة باثولوجيّة (مَرَضِيّة)، لكن ما هو ثابت وملازم في هذه الرّحلة الوجوديّة، إلتصاقها ‏بأطوار الكائن البشري، منذ أمد بعيد، وهو ما أوحى‎ ‎بنعت الإنسان بالكائن المتديّن (‏homo ‎religiosus‏). لكنّ التجربة الرّوحيّة، في خضمّ التّجارب الطّقوسية والتشريعيّة والاجتماعيّة، هي ‏ما يعنينا بالأساس، بوصفها تجربة ذوقيّة تجلّى من خلالها الدّين،‎ ‎فهل ثمّة حاجة فعليّة لذلك ‏الخيار في راهننا؟ إذ صحيح أن مجمل الأديان، وحتّى التي لا ينطبق عليها مفهوم الدّين ‏المتكامل، قد شهدت في أحضانها منشأ ظاهرة التّسامي الرّوحي بين صفوة من أتباعها،‎ ‎ممّن ‏يذهبون إلى غور الإيمان،‎ ‎يبتغون وجهه الكريم ولا يقفون عند حدود المرئي الطّقوسي أو التّقعيد ‏العقدي، وقد رُصد ذلك سواء لدى شامان سيبيريا أو‎ ‎لدى نسّاك الصّحارى، مرورا بتقاليد‎ ‎دينية أخرى.‏
موسيقى الرّوح الجامعة
حيث يسود في‎ ‎أوساط تلك الصّفوة انسجام‎ ‎مع الكون،‎ ‎وتغمر حلقاتهم‎ ‎أجواء سكينة ‏وفيض‎ ‎محبّة، ما يشي بوحدة نبضات قلب الرّوحاني وتوهّج روحه وإن تناءت المسافات وتباينت ‏المجتمعات.‏‎ ‎ويتلخّص عمق التّجربة في حضور فاعل في الوجود، عماده المحبّة والإجلال للكون ‏وما حواه، وليس حضورا سلبيا باهتا. إذ ثمّة انسجام للأنا مع الكون، يصحبه‎ ‎رضا‎ ‎السّالك. ‏ولو تمعّنا الأمر،‎ ‎فمفردة (‏mystique‏) في اللّغات الغربيّة، التي عادة ما تترجَم إلى العربيّة‎ ‎بالتّصوف،‎ ‎هي معراج نحو العجيب ومرقى مؤدّاه إلى‎ ‎الجليل، تطبع سالكه روح شفافة يضنيها ‏العشق،‎ ‎لما يكابده من شجن من شروط عيشنا وضيق تصوّراتنا‎ ‎مدفوعا في ذلك بالشّوق ‏والوله عبر تطوافه.‏
في هذا السّياق، تمثّل «موعظة الجبل» في التّراث الإنجيلي مشروعا روحيّا خالصا، يتأسّس في ‏ضوئه التّرقي‎ ‎الرّوحي الأكبر. فلا يمكن الحديث عن قرب‎ ‎لله تعوزه‎ ‎المحبّة. حيث تحدّد تطويبات ‏موعظة الجبل: طوبى للمساكين.. طوبى للحزانى.. طوبى للودعاء.. طوبى للجياع والعطاشى.. ‏طوبى للرّحماء.. طوبى لأنقياء القلوب.. طوبى لصناّع السّلام.. طوبى للمطرودين،‎ ‎التي صدح بها ‏المسيح،‎ ‎المنطلقَ الجوهري لتطهير الكائن. ولذلك منذ عهد الإمبراطوريّة الرّومانيّة التي عايشها ‏النّاصري إلى لاهوت التّحرر الحالي في أمريكا اللاّتينية ثمّة محوريّة روحيّة لموعظة الجبل.‏
من جانب آخر، تبدو صرخة المسيح وهو يُجرّ إلى الصليب آسرة لعديد الصّوفيين‎ ‎في التّراث ‏المسيحي: «إيلي إيلي لِم شبقتني»، أي «إلهي إلهي لِم تركتني»، وهي صيحة جزع وفزع تقرع ‏مسمعيْ السّالك الرّباني في خياره الرّوحي وفي معراجه الطّهري. حيث يتحوّل التّسامي إلى تجربة ‏يكابد فيها المرء الفزع الأكبر، وهو عمق الاختبار وِفق «جون دي لاكروا». لكن تلك التّجربة ‏ترفقها حالة وجْد يعيشها الصّوفي، «نحن في نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها» كما لخّص ‏فحواها إبراهيم بن أدهم في قوله المأثور. إذ ثمّة كبَدٌ مرفوق بوجْد جارف يستحوذ على الصّوفي، ‏‏ «ركعتان في العشق لا يصحّ وضوءهما إلاّ بالدم» كما قال الحسن بن منصور الحلاّج. وهي ‏أوضاع كونيّة ارتوى أهلها من نبع واحد، حيث نجد «تريزا الآفيلية» تصف تلك الحالة بقولها: ‏‏ «الوجْد قضاءٌ لا مردّ له، تُنتزع فيه الرّوح من الثّرى بيدِ الله، كما تختطِف الكواسر طريدتها دون ‏أن تدري إلى أين المساق. وبالتّالي لا بدّ من رباطة جأش لمتابعة المسار، إذ غالبا ما حاولتُ ‏دفع الوجْد، مقدّرةً أنّه وهْم، ولكنّي أجدُ نفسي صريعة كأنّي أغالب ماردا».‏
في هذا التّرقي الرّوحي ميّز المفكر الكاثوليكي «روبرت شارل زاهنر» بين تصوّف طبيعي ‏منقوص، وتصوّف ما فوق طبيعي مكتمَل. حيث الأول وإن لازمه تسامي الرّوح التي تعانق ‏الحرّية والانفتاح على المعرفة، فهو ينتهي إلى حدود الخلط بين ذات الكائن المحدودة وذات ‏الألوهيّة المطلقة؛ في حين الثاني فهو تصوّف يخرق حجب الأسرار في علاقة المحبّة الواصلة بين ‏الباري وعبده، بما يشبه الصّحراء السّاكنة التي لا مكان فيها للاختلاف، كما تجلّى الأمر ‏للمعلم «إيكهارت».‏
بحثا عن الغنى الأكبر
من هذا الباب أغوى الزهد طائفة الصّوفيين، ليس إعراضا عن عرض الحياة الدنيا، وهو في ‏متناول أيدي كثيرين، بل احتجاجا على عالم يدنّسه الحيف ويستنزفه الجشع. القديس ‏الكاثوليكي «فرانسيس الأسيزي»، سليل الأثرياء، تركّزت دعوته في مستهل تجربته الرّوحية في الزّهد ‏بوصفه نمط حياة المسيح. سعى جاهدا في تقليد النّاصري والسّير على منواله أملا في الإمساك ‏بروح المسيحيّة. 
هكذا توهّم «الأسيزي»، أو سمع، أو أوحي له: «قم يا فرانسيس ورمّم بيتيَ ‏المتداعي للسّقوط»، ناداه المسيح بتلك العبارات في كنيسة «سان داميــان»، فانقلبت حياته رأسا ‏على عقب وهجر حياة الفرسان مختارا أن يكون في كوكبة «فرسان الودعاء» ليفوز بالملكـــوت، ‏وهو ما دفعــه إلى هجران زينة الحياة والعيـــش في فاقة. 
ولعلّ ما فاقم أزمة «فرانسيس» حينها عودته ‏الخائبة من بلاد «الميرامولينو»(أمير المؤمنين) في المغرب، التي طلب فيها الشّهادة على أيدي ‏‏ «المحمّديين» فلم يفز بمراده، فارتدّ عنفا وقمعا على هيكل جسده لإنهاكه. لكنّ الأسيزي، وِفق ‏فرويد، ليس ضحيّة جنون بل ضحيّة وهْم، فالاعتقاد الآسر في المسيح ليس مثبَتا ولا مدعما ‏بل يستجيب ويتلازم مع رغبة باطنيّة، ولا أحد منّا قادر على أن يعيش بدون أوهام.‏
بَيْد أنّ ذلك الشّجن الآسر المستحكم بذات الصّوفي جعل ثلّة من علماء النّفس يصنفون ‏الأمر ضمن الباثولوجيّات المرضيّة؛ ولكن التّصوف مرضٌ جميلٌ في عالم نحسبه معافى، وفي واقع ‏يطبعه خواء روحي ينفتح على هوّة غائرة لا يراها إلاّ أصحاب الأرواح الشّفافة ممّن يسعون بنور ‏الحقّ.‏
والجليّ أنّ الصّوفي خلال رحلته تلك غالبا ما يغرق في هاجس إنهاك الجسد بالرّياضـــات ‏الرّوحيّة، بدعوى التطهّر والتسامـــي، وهو بالأساس احتجاج عميق على انحصار الإنسان في ‏الظّاهـــر وغفلته عن جوانيتـــه وعلــوه. لذلك مثّل التّصوف من منظور سوسيولوجي زفرة احتجاج ‏للرّوح في عالم مضطرب يبحث عن تماسكـــه. فأثناء تفاقم أزمــة الإمبراطوريّــة الرّومانيّة انتشرت ‏ظواهر الزّهد والنّسك والاعتكاف. وفي الشّـــرق، مهْد التّصوف المسيحي، نشأت أكثر الأشكال ‏غرابـــة في ترويـــض الجســد وكبح جماح النّفس. 
يروي لنا المؤرخ الإيطالي «جورج رافينياني» صفحات ‏جميلة عن ذلك الفوران في كتابه «الحياة اليومية في نهاية العالم القديم». فقد كان «يعقوب ‏السّوري» يقف تحت الثّلج المتساقط أيّاما حتّى يغمره؛ وكان أحد مجالسيه يقيم اللّيل حاملا على ‏كاهله جذوع الشّجر. أمّا «ماكاريوس الإسكندري»، فكان يطلّق النّوم بقصد تعزيز قدرات التّزهد ‏لديه. وصادف أن لسعته بعوضة وهو قابع في صومعته، فسحقها بيده: لكنّه أدرك للتوّ أنّه ‏مذنب، فأدان نفسه بالوقوف ساكناً عارياً في مستنقع، فريسة للبعوض. 
أمّا القدّيس «سمعان ‏العمودي»، ففي بداية موسم الصّوم الكبير، عزل نفسه داخل صومعته بجدار ومعه عشرة أرغفة ‏خبز وإبريق ماء، وبعد أربعين يوماً، وجدوه على وشك الهلاك، ولم يكن مسّ طعامه طيلة ‏الوقت. كانت الغاية من تلك المعاناة تهدف إلى التّحكم بالعواطف.‏
الرياضات الروحية فنون
كما يعود الفضل إلى الشّرق في نشوء مختلف أشكال التّرويض للجسد على غرار الرهبان «آكلو النباتات» (‏boskoi‏)، الذين يهيمون في الصّحارى كالأنعام، و«الشجريّون» الذين ‏يتخذون من الأشجار سكناً، و«العموديون» الذين تنحدر تسميتهم من العبارة اليونانية ‏‏(‏stylos‏)، أي العمود. فقد اختار هؤلاء الخلوة فوق الأعمدة على علوّ شاهق طلبا للتّزهد. ‏كانت الممارسة قد نشأت في سوريا بمبادرة من القدّيس «سمعان الكبير»، الذي اعتلى عمودا قرب ‏أنطاكية عام 422م ومكث هناك حتى وافاه الأجل عام 459م. 
وكما كان العهد بالكثير من ‏معاصريه، صُعق يوماً بفقرة من الإنجيل فقرّر الانعزال. بعد قضاء ثلاثة أعوام في صومعة، تحوّل ‏سمعان إلى تلّة قريبة (تدعى اليوم قلعة سمعان) فشيّد جداراً دائرياً تموضع بداخله مكبِّلاً قدمه ‏بسلسلة طويلة مثبتة بحجارة ضخمة من طرفها الآخر: هكذا حبس نفسه ليكرّس وقته للتّأمل، ‏وما فتئ أن خطر بباله يوما تسلّق عمود، فكانت هذه البداية العرضيّة لشكل من التّزهد صار ‏تقليدا يحتذيه كثيرون في بيزنطة، حتّى استحوذت العموديّة على الرّهبان البيزنطيّين. فالقدّيس ‏سمعان العجوز قارب السّبعين عاماً، أمضى منها تسعة وثلاثين على العمود، وكذلك القدّيس ‏دانيال الذي عاش أربعة وثمانين عاماً، في ثلاثة وثلاثين منها مسكنه العمود، والقدّيس سمعان ‏الشاب الذي وافته المنية عام 597م عن عمرٍ يناهز الستة والسبعين عاماً، قضى منها ثمانية ‏وستين عاماً فوق أحد الأعمدة.‏
ولفرط وعورة ذلك الدّرب أحيطت حياة المتصوّفة بالخوارق والمعاجز شرقا وغربا، فبوذا الذي ‏يقتات بحبّة أرز يقابله الرّوحاني المسيحي القانع ببرشام (خبز القدّاس)، وهو ما لا يسدّ رمق ‏حشرة. 
ولكن هذه الغرائبية في السّلوك الصّوفي ووفرة الكرامات المذهلة إلى حدّ الرّيبة، ينبغي ألاّ ‏تحول دون البحث عن جوهر التّصوف وسط ركام العجائبي بوصفها ظواهر تتفسّر ضمن ‏أدوات الأنثروبولوجيا والسّيكولوجيا. فالقديسة «تريزا الآفيلية» المولودة سنة 1515م، عقب ثلاثة ‏قرون من وفاتها وُجد قلبها معافى، والرّاهبة «مارت روبين»، المولودة 1906م، عاشت خمسين سنة ‏دون أن يغازل جفنها النّوم كما يروى.‏
يلوح دربُ الرّوح الواصل بين شتّى التّجارب الدّينية الأوفرَ حظا في التّقريب بين مختلف ‏المؤمنين. وفي الغرب المعاصر تهفو قلوب كثيرة للتّصوف الإسلامي، وللرّوحانيات البوذيّة ‏والطّاوية والهندوسيّة، برغم الاضطرابات الجاريـــة في فضاءات تلك التقاليد والمتشظية في العالم ‏رعبا وهولا. ما يعني أنّ هناك وردا مورودا يطلبه الجميـــع وإن حجبته الأضاليـــل وسدّته العراقيــل، ‏إنّه درب المحبّة والتطلّع إلى سنا وجهه الكريم.