نقاط على الحروف

بقلم
فتحي الزغل
السّياسةُ في الإسلام
 لا شكّ أنّ العديد منّا، من الذين يُتابعون أخبار العالم اليوميّة، وأخبار الوطن اللّحظية - وأحسبهم هذه الأيّامُ كُثر، يسمعون في تلك الأخبار، وفي التّحاليل التي تُرافِقُها والمداخلات المباشرة التي تتخلّلها، مصطلحاتٌ تستحقّ الشّرحَ والتّفسير لتشابُهِها في الألفاظ التي تكوّنها، من نحو الإسلام السّياسي، والسّياسة الإسلامية، والسّياسة في الإسلام، والإسلام السّياسويّ. ولأنّ الأمر يستحقّ الوقوفَ عليه، لأهمّية أن يُدركَ كلّ متابعٍ للشّأن العام المعنى الحقيقي لتلك التّركيبات اللّفظية في اصطلاحها المُعجَمي والدّلالي، فقد رأيتُ أن أتناول في هذا المقال مسألة هذه المصطلحات ببيان مسألة السّياسة في الإسلام، وهل هي السّياسة في غير الفكر الإسلامي؟
فالسّياسةُ معجمًا، مصطلحٌ مشتقٌّ من فعل «ساسَ» «يسوسُ»: بمعنى قادَ بدون قهرٍ أو نهْرٍ. فقد قالت العرب: ساس القطيعَ عند مغرب الشّمس إلى مربَطِه. بمعنى: قادَهُ إلى مربطه دون أن يكون قد تفلّتَ جزءٌ من ذلك القطيع، فاستوجب من السّائسِ نهرُه أو قهرُه بضربةٍ أو بصيحَةٍ أو بفعلٍ نحوهما. لأنّ القيادة بالقهر والنّهر تتحوّل إلى تطويعٍ، و في مرتبة أشدَّ إلى ترويضٍ.
والسّياسة دلالاً، حسب المشهور من القول، هي قيادةُ مجموعةٍ من البشر يبدأ عددُها من الواحد و لا ينتهي، دون اعتبار الهدف وصنفه. فسياسةُ الشّعب هي قيادتُه في ثلاثة أمور معاش: حياته اليوميّة ومتطلّباتها من غذاء وطمأنينة وأمنٍ، وما ينشأ عنها من مصالح متشابكةٍ بين النّاس، وتحديد أهدافه، وتحديد سبل تحقيق تلك الأهداف.
وقد تعدّدت تعاريف هذا المصطلح، لتعدُّدِ المُفكِّرين والمدارس الفكريّة التي تناولت مسألة سياسة الشّعوب، خاصّة في القرن العشرين، القرن الذي اتّسمَ بظهور تطبيقات للنّظريات السّياسيّة المختلفة، إلاّ أنّها لم تَحِدْ على أنّ الكلمة لها في أغلب المعاني التي تدلّ عليها فكرة قيادة شعبٍ أو مجموعة بشريّة. وأنّها تشترك في أنّها تضع مبدأ المصلحة، ومدى تحقيقها، مقياسا للحكم على أيّ تصرّف سياسي يأتيه السّياسي وينفّذه. ولذلك فنحن لا نسمع عن السّياسة المسيحيّة أو السّياسة اليهوديّة أو السّياسة البوذيّة أو السّياسة الهندوسيّة... لأنّ سياسة تلك الأمم لا تخضع إلى ضوابط دينيّة تخصّ دينها دون غيرها، فتطبع بدورها سياستها دون غيرها. فالذي يحكم الأمر في تلك الأممُ، هو تحقيق أكبر حصّة من المصلحة سواءٌ أكانت المصلحة للشّعب، أو لدينه، أو لرزقه، أو لأيِّ شيءٍ يُنسَب إليه. وبالتالي فإن الفكر السّـياسيّ والتطبيق الإجرائي لذلك الفكر السياسيّ في تلكمُ الشعوب عبر التّاريخ إلى يومنا هذا، لم ينحَ مقاربةً دينيةً مستوحاة من شرائع دينها المعروف فيها، وذلك، إمّا لقصور تعاليم الدّين عن تناول السّياسة في أحكامها، أو لعلويّة مبدأ المصلحة على مبدأ التديّن.
ولأبيِّنَ هذه الفكرة أضرب مَثَلَ الدّيانة المسيحيّة و سياسة شعوبِها، حيث أنّ المسيحيّةَ بكل مشاربها ومذاهبها تُخَطِّئُ الظّلمَ وتعتبرهُ جُرمًا في حقّ العباد، وفي حقّ الله الذي يُسمُّونَه «الرّبّ»، وفي نفس الوقت فإنّ الشّعوب المسيحيّة قد أتت في التّاريخ الحديث والمعاصرِ أبشعَ صنوفَ الظّلمِ على البشرِ، وأقصد الاستعمار وموجة احتلال الشّعوب واغتصاب خيراتها وقتل مقاوميها.
لكنّنا في المقابل نسمع كثيرا بما يسمّى بـ «السّياسة في الإسلام» أو «الإسلام السّياسي» أو «السّياسة الإسلامية» فهل لذلك من تفسيرٍ؟
بادئ ذي بدء، أنا أعتبر أنّ اعتراف جلّ المفكّرينَ والمدارس السّياسية المعاصرة، بأن بين الإسلام والسياسة علاقة، هو اعترافٌ صريحٌ بأنّ السّياسة في الإسلام لها تعريفٌ وتطبيقٌ وأهدافٌ، وممارسة تختلف عن تلك التي يشترك فيها كلّ البشر باختلاف مشاربهم العقديّةِ. بقطع النّظر عن اتفاقهم أو اختلافهم مع جوهر الفكرة نفسها، وهي أنّ السّياسةَ لها وجـهُ تطبيق خاصّ في الإسلام. وهذا في حدّ ذاته ميزة تلحقُ بتلك العلاقة بين السياسة والإسلام، بقطع النظر عن ماهية تلك العلاقة. وميزة تلحق كذلك بالإسلام كدينٍ، لأنّه شمل في تعاليمه السّياسةَ.
فبعكس النظريّات السّياسيّة والممارسات العمليّة لتلك النظريات، المولودةِ والمترعرعةِ في غير البيئة الإسلاميّة والخاصّة بسياسة الشّعوب وقيادتها، فإنّ النّظريّةَ أو لأقُل المقاربة الإسلاميّة في المجال السّياسي، لها أسقفٌ وخطوطٌ حمراء لا تتجاوزها، تختلف جوهرا عن مبدأ المصلحة الذي يُعتبر – ولوحده فقط - مقياس نجاح الممارسة السّياسيّة في تلك النّظريات والممارسات كما أسلفتُ.
فالسّياسة في الإسلام، هي مجالٌ من مجالات حياة المسلم، يأتيه أنّى شاء، وعليه – بذلك - أن يُعمل فكرَه فيه ليُطَوّرَهُ ويُطوِّر قدراته فيه، و يبنى على تجاربه وتجارب غيره فيه كذلك، ليُحقّق مبدأ عبادة الله في طلب الرّزق، وفي حماية النّسل، وفي حماية دار الإسلام. وتلك مصالح مرسلة معروفة في علم المقاصد في الإسلام. لأنّ كلّ نشاط البشر في هذا الدّين له غاية واحدة هي نفسها الغاية من خلق الإنسان كما أقرّ بذلك الله نفسه، وهي عبادته حيث يقولُ جلّ وعلا في القرآن الكريم: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1) .وتحت هذه الغاية أو هذا المقصد، تنصاع كلّ تلك الأنشطة دون استثناء وبالتالي انصياع الممارسة السّياسية بدورها لضوابط شرعيّة دينيّة لتحقيق مبدإ عبادة الله من خلالها.
وحيث لا تكون عبادة الخالق بإتيان نواهيه وعصيان أوامره، بل بطاعته طاعةً عمياء لكلّ ما أقرّ ونهى. فيكون إتيان السّياسة وممارستها محكوما بمجمل تلك الأوامر والنواهي دون استثناء بعضها تحت أي ظرف. وهي عين الحدود أو الخطوط الحمراء التي ذكرتُها في الفقرة السّابقة. حتى إذا استوعبت الممارسة السّياسية في الإسلام تلك الحدود وهي الحلال والحرام، فإنّ مجالَ فكرِها ومدى تحقيقها للمصلحة، سيتطور ويتغيّرُ ويتقدّمُ داخل تلك الحدود لا يتجاوزها لا محالة، لأنّ تجاوزَها بالسّقوط في حرامٍ مثلًا سينزع منها صفة الإسلامية، ولو درّت مصلحة لكلّ الشعب المسلم.
وهذا لعمري جوهر اختلاف السّياسة الإسلاميّة عن غيرها من السّياسات. ففي السّياسة غير الإسلاميّة تأخذ كلّ فكرة وكلّ ممارسة وكلّ هدف وكلّ تطبيق، صفة المشروعِ، ما حقَّقَ مصلحةً ولو كانت بسيطةً. بينما في السّياسة الإسلاميّة، لا تكتسب أيُّ فكرةٍ أو ممارسةٍ أو هدفٍ أو تطبيق للمشروعيّة إذا خالطت الحرامَ ولو حقّقَ مصلحةً كبيرةً.
وعلى هذا المبدإ - ولأُفَسّر أكثر- يكون احتلال شعوب غير مسلمة أو مسلمةٍ، لانتزاع خيراتها لدولة المركز المسلمة، حرامٌ ، بمعنى تصرّفٌ غير إسلاميٍّ يستوجب غضب الله، لما فيه من ظلمٍ، رغم أنه قد يدُرُّ على الدّولة الإسلاميّة مداخيل وتنمية اقتصاديةً. بل وأكثر من ذلك، فإنّ كلّ ما نتج عن أيّ ظلم من مصلحة اقتصاديّةٍ في التّشريع الإسلاميِّ يأخذ حكم أصل الفعل وهو الحرام، والذي يُعدُّ الانتفاع به حراما أيضا. وهذا يُحِيلُني إلى ذكر مبدإٍ هامٍّ في المقاربة الإسلامية للاقتصاد، أو ما يُسمّى كذلك بــ «الاقتصاد الإسلامي» على شاكلة «السّياسة الإسلاميّة»، والذي سأورِدُ لكم مستقبلا ملخّصا لمؤلفي «الاقتصاد الإسلامي ... النظريّة والممارسة» والذي تناولتُ فيه مسألة تداخل السّياسي والاقتصادي في اتّباع الحدود الشرعيّة عند ممارسة الحياة. مبدأ يسمّى تواتر حكم الحلال في الأصول الماليّة باختلافها منذ منشئها إلى استثمارها. ففي الإسلام يحرُم الانتفاع بمالٍ حرامُ المنشأ أو الولادة.
وعليه، وممّا سبق، فإنّني أخلُص إلى أنّ للإسلام سياسة خاصّة بتعاليمه غيرُ متأكّدةِ الوجودِ في ما سواه من المنظومات العقديّة أو الدّينيّة أو الإيديولوجية، وأنّ مع السّياسة التي أنتجَها البشرُ، سياسة تأخذ صفة الإسلاميّة أنتَجها مع البشر ربُّ البشرِ. وأنّ المصلحة لا تُحدّد لوحدها حدود ملعب السّياسة كما في غير الإسلام من مناهج، بل يُحدِّدُها كذلك حدود الحلال والحرام. وأنّ في الإسلام لا تُبرِّر الغايةُ الوسيلةَ كما عهدنا في النظريّات الميكيافيليّة الأنانية. وأنّها ليست فنّ الممكن في المطلق بل هي فنُّ الممكن المشروع فقط. وذاك هو عين الميزة في السّياسة الإسلاميّة... إن هي إلّا أخلاقٌ قال عنها رسول الإسلام «محمد» صلى الله عليه وسلّم: «إنَّما بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارمَ الأخلاقِ»(2).
فذاك الدّين، وتلكَ النّظريّةُ، فهل لي أن أسأل؟ هل مارس المسلمون مقاربة أو تعاليم دينهم في سياساتهم عبر التاريخ؟
الهوامش
‏(1) سورة الذاريات - الآية 56
‏(2)   رواه أحمد عن أبي هريرة