حوارات

بقلم
التحرير الإصلاح
جوار مع الدكتور مصطفى العليمي
 (1)
«نقد العقل عند ابن عربي» هو عنوان الأطروحة التي تقدّمتم بها لنيل شهادة الدّكتوراه، فما ‏الذي حملكم على اختيار هذا الموضوع؟ وأيّ علاقة بين النّقد الفلسفيّ الحديث ـ وتحديدا الكانطيّ ‏منه ـ والآفاق الصّوفيّة لابن عربي؟ وهل نحن بحاجة إلى التّفكير مع ابن عربي أو ضدّه أم إلى ‏كليهما؟
 لو تأمّلنا الخزّان النّقديّ والتّأويليّ للفلسفة راهنا لألفينا انصرافا لافتا للدّارسين والمتفلسفين إلى ‏متون الفلسفة الغربيّة وإعراضهم عن الفلسفة العربيّة الإسلاميّة تحت وطأة حجّة كسولة تفترض ما ‏قبليّا أنّ النّقد يعدّ مهمّة عسيرة على فكرنا، وأنّها خاصيّة مميّزة لتطبيقات المعقوليّة الغربيّة في إشارة ‏صريحة إلى المشروع النّقديّ الذي تبلور مع كانط. وإذا كان معلوما أنّ هكذا نقد ظلّ غير مكتمل ‏من نواحي شتّى حاولت لاحقا مدرسة فرانكفورت النّقديّة جبر أضرارها ضمن فضاء ما بعد حداثيّ ‏رسم معالمه هوركهايمر وآدورنو وبنيامين إلى حدود هابرماس، فإنّ الهواجس التي رافقت عصري ‏الحداثة وما بعده بقيت تدور حول كيفيّة تجاوز أزمة العقل، وقول الحقيقة الفلسفيّة بطرق أخرى ‏وبأدوات تعبير مختلفة سعيا إلى فهم ما يحدث الآن واتخاذ الموقف النّقديّ المناسب تجاه المشهد ‏المريع والمرعب الذي صار عليه العالم اليوم ومن ثمّة التفكير في سبيل للحدّ من الإنهيارات ‏الدراماتيكيّة والمتسارعة لكلّ ما هو إنسانيّ.‏
وإذا كنّا كإنسانيّة عربيّة إسلاميّة معنيّون رأسا بإيجاد ضرب من الوضع الذي نشارك فيه ‏غيرنا عبء المأساة الأنطلوجيّة الرّاهنة والتّفكير جدّيا في منوال فكريّ يستوعب ما يحدث ويفكّ ‏ألغازه حتّى نقرّر مصيرنا بأنفسنا كان لزاما علينا النّبش في مستودعاتنا الفكريّة بغية استعادة ما ‏بروحيّتنا المبكّرة لنستفيد منها ضمن هذا السّياق الإيطيقيّ المحرج فكان متن ابن عربي خير منقذ ‏للإنسان الذي أشكل عليه الإنسان. ههنا كان الرّسم الإشكاليّ لأطروحتنا ومن خلاله تأتي تفاصيل ‏مقاربتنا التي سمحت بصياغة فرضيّة عملنا على نحو حمّال لمفارقات جمّة ليس أقلّها الوقوف على ‏فكرة التّمرّد النّاعم لدى ابن عربي على جميع الأنساق الرّسميّة وعلى المأسسة التي جمّدت المعتقد ‏وضيّقت عليه داخل إستستيكيّة متعصّبة بهدف استبدالها بمعقوليّة موازية رأس الإشكال فيها كيف ‏تتحوّل الحقيقة من خاصيّة مميّزة للعقل إلى خاصيّة مميّزة للقلب؟ واللاّفت أنّ ابن عربي يستولي ‏على ثروة نقديّة استطاع بمقتضاها أن يحظى بعظمة الفلاسفة وإن كان ليس منهم، كيف لا وهو ‏القادم من مشهد غريب عن الفلسفة لكنّه ليس من خارجها. فإنّ الأفق النّقدي الذي يعلن عنه حكيمنا ‏تكتمل أركانه ضمن بنى دائريّة ميّزت جلّ مؤلّفاته.‏
‏ولحسن الإصغاء إلى نقديّة ابن عربي توسّلت بالنّقد الكانطيّ في شتّى تجلّياته بصفته مدخلا ‏ضروريّا للوقوف على معالم المشروع النّقدي الذي يعلن عنه حكيمنا الرّوحيّ، وكم كانت العلامات ‏وضّاءة للعثور على خطوط تماسّ أو قل على تقاطعات وأشكال قصوى من القرابة بين النّقدين ‏سواء من جهة الآفاق التي يفتحانها أو من جهة الرّهانات المرتقبة من كليهما مثل التّأليف بين ‏النّظريّ والعمليّ، والموقف من ملكة الخيال في استنباط الحقيقة، فضلا عن الوقوف على نقائض ‏العقل ومراجعة سلطته الدّيكتاتوريّة التي منحته إيّاها سواء المشّائيّة (أرسطو وابن رشد) أو ‏العقلانيّة الصّارمة (ديكارت، سبينوزا وليبنيتز).‏
‏مثل هذا المنجز الذي جرّ ابن عربي إلى حلبة التّفلسف ينخرط ضمن أفق هو ليس مجرّد ‏ترف فكريّ أو انخراط ضمن موضة فكريّة محاكية لغيرها، بقدر ما هو تعبير عن إعادة اكتشاف ما ‏يزخر به تراث نفيس لا زلنا لم نحسن التّعامل معه بعد: فالذي يستفزّنا أكثر أنّ ابن عربي قد صار ‏الآن موضع اهتمام عالميّ مرعب، ويبدو أنّه منذ القرن الماضي بدأنا نتهيّأ للحوار معه، وأقدّر أنّنا ‏لازلنا لم نلحق به بعد، وأنّ الأوان قد حان لاستعادة فكره سواء على جهة نقده أو التّفكير بالتّوازي ‏معه، أو بإعادة صهره ضمن أفق ما بعد ـ عولمي وتقديمه بلسما من قبل أحد الأساة الذي يبدو أنّه ‏بمداواة الجراحات عليم.‏
(2)
‏2ـ ما هي الفرضيّات التي حرصتم على بلورتها وإثباتها أو تفنيدها من خلال ‏فصول هذا البحث؟
توجد فرضيّة مركزيّة يتبنّاها هذا البحث مفادها: كيف يمكن الدّفاع لدى ابن عربي على وجود ‏معقوليّة موازية للعقل أو مناقضة له أو متجاوزة لمفاعيله تعلن الإنقلاب بنيويّا على المعقوليّة ‏المشّائيّة السّائدة التي أسّسها أرسطو ويمثّلها رمزيّا واعتباريّا ابن رشد الذي كان له لقاء تاريخيّ ‏إستثنائيّ مع ابن عربي. ويترتّب عن هذه الفرضيّة الأصليّة فرضيّات تابعة منها:‏
ـ البحث في مدى وجاهة توطين فكر حكيمنا الرّوحيّ داخل الفلسفة عن طريق ممارسة قراءة ‏تأويليّة تكشف أنّ القلب قد صار ممثّلا وحيدا لجميع استراتيجيّات التّفكير التي كان يستحوذ عليها ‏العقل.‏
ـ تحوّل مبدأ الفهم من خاصيّة مميّزة للعقل إلى خاصيّة مميّزة للقلب.‏
ـ اعتبار تقنيّات الذّوق والمشاهدة والكشف والإلهام بمثابة الإحداثيّات الميتافيزيقيّة الجديدة المحدّدة ‏للمعرفة والمؤمّنة للدّروب المثلى التي تسمح بالإنخراط ضمن هذه المعقوليّة الموازية.‏
ـ الإعلان بنيويّا عن نهاية عصر العقل واستئناف عصر القلب بمنوال ربطه بصيغ الفهم الرّاقية ‏المنفتحة على الشّعر وعلى الجمال والحبّ والفنّ.‏
ـ الإنتباه إلى أنّ في تراث الملّة ما يشي بوجود نبوغ مبكّر أدرك أنّ على الحقيقة الفلسفيّة أن تحكي ‏قصّتها من داخل سياقات مغايرة وبأدوات ما بعد فلسفيّة كالمجاز والإستعارة والتّشبيه والقصديّة والإيحاء ‏والإشارة...‏
(3)
ما هي الخيارات المنهجيّة التي اعتمدتموها في بناء رسالتكم من أجل الإجابة على مختلف ‏الأسئلة التي استشكلتموها وبلورة الفرضيّات التي اشتغلتم عليها؟
يستوحي الخيار المنهجيّ الذي تمّ اعتماده في بناء الرّسالة معالمه من اللّقاء التّاريخيّ الذي جمع ابن عربي بأبي الوليد (وهو لقاء منصوص عليه بالباب الخامس عشر من ورشته الكبرى «الفتوحات ‏المكّية»)، وتدقيقا من أطوار إجابته عن سؤاله ببرزخ النّعم واللّا، وبناء عليه استقام جهد نقد العقل ‏عند ابن عربي ضمن إحداثيّتين: تخصّ الأولى طور لا بما هو طور نقديّ يعترض على العقل ‏بكامل سياقاته حيث يتولّى مراجعة مقولات العقل النّظريّ الخاصّة بنظريّة الوجود والمعرفة ‏وتصنيف العلوم ونقد المنطق الأرسطيّ ونظريّة النّفس، إضافة إلى مراجعة مقولات العقل العملي ‏التي تخصّ الأخلاق والسّعادة والحبّ الإلهي، ومراجعة مقولات العقل النّحويّ والبلاغيّ الخاصّة ‏باللّغة ليعلن عن منقلب الإشارة كبديل للعبارة. ثم يكتسب هذا النّقد طرافة أعمق وخطورة أكبر حين ‏يستهدف العقل الفقهي والكلامي ليعيد معاني التّأويل، ويحلّ مشكلات توقّف عندها علماء الرّسوم ‏مثل: الذّات والصّفات، التّنزيه والتّشبيه، القضاء والقدر والإرادة الحرّة...إنّه نقد جارف كشف عن ‏نقائض العقل وعزم على تصحيحها ضمن الطّور الثّاني من الإجابة طور نعم بما هو طور تأسيسيّ ‏يقترح صفوة من البدائل التي تعرّف بمعقوليّته الجديدة بأفقها الرّوحيّ حيث العلاقة المتجدّدة بين ‏العقل والإيمان، وتأسيس علوم القلب التي تتّخذ من الذّوق عنوانها الأبرز الكفيل بتأسيس الذّات ‏الصّوفيّة عن طريق منوال متعال يتشكّل داخل فضاء الولاية التي لا يمكن إدراك حقيقتها إلاّ من ‏داخل عناصر تأسيسيّة إبداعيّة من صميم منطوق ابن عربي وهي: «حضرة الخيال»، «الحقيقة ‏المحمّديّة» و»الإنسان الكامل».‏
(4)
الآن وقد صرتم أحد المتخصّصين القلائل في مدوّنة ابن عربي، ما الذي تستشرفونه من آفاق ‏بحثيّة في هذا الموضوع؟
الآن وبعد أن تمّ استدراج ابن عربي إلى ركح التّفلسف أفكّر جيّدا وجديّا في إنجاز عمل تأليفيّ ‏يتناول أهمّ المداخل الممكنة التي أقترحها على دارس ابن عربي حتّى يتيسّر التّفكير معه، وفهم ‏خفايا متنه، بمعنى التّأسيس لجملة من الإحداثيّات هي عبارة عن أدوات بحثيّة ومفهوميّة تعرّفنا بهذا ‏الحكيم الذي أعضل متنه على كبار الباحثين، وهو المشروع الذي أجد نفسي منكبّا عليه الآن، ‏يضاف إلى ذلك الإستجابة إلى هاجس مثير يلازمني ويشدّني وهو الوقوف على حجم التّأثير الذي ‏مارسه شيوخ الطّائفة على ابن عربي فكانوا سببا في غزارة منسوب موسوعته وأخصّ بالذّكر منهم ‏الغزالي، وهو مشروع يحتمل شيئا من التّأجيل قياسا إلى الأوّل.‏
(5)
كلمة الختام؟
‏لقد صار الإصغاء إلى ابن عربي اليوم ضرورة لا فكاك عنها خصوصا حين ندرك أنّ ‏التّعرّف على أنفسنا أصبح يتمّ عبر الآخر ممّا يفسّر هذا الإهتمام المتعاظم بحكيم إلهيّ بهذا العيار ‏من قبل الجماعات العلميّة العالميّة كالفرنسيّة وخاصّة الأنقلوساكسونيّة التي تعود الآن بكثافة ‏لاستنطاق متنه واستخلاص ما يزخر به من نفائس، أضف إلى ذلك أنّ العودة إلى التّصوّف تمثّل ‏ضربا من الوعي الرّوحيّ الجديد بالعالم الكفيل بمساعدة الغير على التّعرّف على خصوصيّات ‏المعتقد التي فشلت الأساليب الدّعويّة المستحدثة من خلال ميلها أحيانا إلى التّعبيرات الهوجاء أو العنيفة في ‏كشف مقاصده وترغيب الآخر فيه. فإنّ الإنخراط صلب هذه الموجة الفكريّة يكون بدافع التّعبير أنّ ‏في مكامن تراثنا ما‎ ‎يستجيب لروح ما بعد حداثيّة وحتّى ما بعد عولميّة في مقدورهــا أن تسعـــه بروح ‏كونيــّة لا مثيل لهــا عبّر عنها جلال الدّين الرّوميّ بقوله: «أقبل ولا يهمّنا من تكون»، وهي عبارات ‏نراها تكــرّر ما ورد في «ترجمان الأشواق» لابن عربي حين يصرّح: 
  لقد صار قلبي قابلا صـورة فمرعى لغزال ودير لرهبـــان
  وبيت لأوثان و كعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
‏أدين بدين الحبّ أنى توجّهت ركائبه فالحبّ ديني وإيـمانـي   ‏