إثراء للنقاش

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
الاجتهاد الفقهي والمعرفي وقود التجديد الحضاري الإسلامي
 بين الاجتهاد والتجديد
التّجديد لغة من الجدّ بفتح الجيم، وأصل معناه القطع حسّيا كان أو معنويّا، مثال الأول: الثّوب ‏الجديد أي القريب العهد بقطع الحائك، ثمّ جعل لكلّ ما أحدث إنشاؤه، أي ما كان نقيض البالي ‏الخلق.‏
ومثال الثّاني الاجتهاد في الأمر، وهو الجدّ بكسر الجيم، بقطع مراحله، واستنفاد أسبابه، بما ‏يؤدّي أحيانا إلى تحصيل مقام العظمة، وهي الجدّ بفتح الجيم، ففي حديث أنس «كان الرّجل منّا ‏إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا» أي عظم في أعيننا.(1)
والتّجديد في الاصطلاح الإسلامي لا ينفك عن روح المعنى اللّغوي، إذ حقيقته تفعيل ثمرات ‏الاجتهاد الفقهي والمعرفي في واقع الأمّة، بما يؤدّي إلى قطع صلتها ببالي المفاهيم وخلق ‏المعتقدات، التي طال عليها أمد الانحطاط والتّقليد، ويحقّق لها عظمة الانفتاح على مستجدّات ‏العصر ونوازله، بحيث تستوعب إفرازاته، وتحلّ إشكالاته مستمسكة بأصل الوحي.‏
وعليه، فالعلاقة بين الاجتهاد والتّجديد إنّما هي علاقة تأسيس وتأصيل، إذ متى غاب الاجتهاد في ‏العلم والعمل، كان تجديد الحال والمآل في حكم العدم. وهي أيضا علاقة تجسيد وتشكيل، إذ متى ‏عطل المجتهد اجتهاده، بحيث لم يبرز أثره النّافع في النّاس، لم يكن مجدّدا على الحقيقة. وبهذا ‏الاعتبار ناط سبحانه أمر تجديد التّدين في الأمّة بمجتهديها العاملين، قال عليه السّلام «إنّ الله ‏يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها»(2) فبعث المجدّدين على رأس كلّ ‏مائة عام، ناموس ربّاني عام، لإحياء أمّة الإسلام بعد بلى الإيمان، بتلقّي نور القرآن، حتّى ‏تنخرط من جديد في صناعة التّاريخ من الأساس، وتؤدّي واجب الشّهود الحضاري على النّاس.‏
وحيث إنّ رأس المائة مجمل، بحيث يحتمل أن يكون في الأصل بدءا من هجرته عليه السّلام، ‏وهو الذي عليه جمهور العلماء، أو من البعثة النّبوية، أو من سنة وفاته صلّى الله عليه وسلّم؛ ‏واستنادا إلى تاريخ بوادر بعثة التّجديد في القرن الماضي، إذ عانت مخاض التّشكيل عقب ‏سقوط الخلافة العثمانيّة عام 1343هـ/1924م، وما رافق ذلك من اجتياحات الاحتلال لبلاد ‏الإسلام(3)؛ فقد يصدق الزّعم أنّ بعثة التّجديد المقبلة، وباستصحاب ما يعرف واقع المسلمين من ‏هزّات، بعد الذي شرب-وما يزال- من شرّ الويلات وخير الصّحوات، قد جاوزت مرحلة النّطفة ‏والعلقة والمضغة، وعسى أن تكسى عظامها من مختلف فئات شبيبتها علما وحلما، حتّى تصير ‏مع منتصف القرن الخامس عشر الهجري، وقد كتب الله أجلها ورزقها وسعادتها، ودارت عليها ‏المائة دورتها، ذلك الخلق الآخر، كواكب من المجتهدين العاملين في الفقهيّات وفي غير ‏الفقهيّات، يحيون الموات بروح القرآن، ويبرؤون أكمه الغرب وأعمى الشّرق بنور القرآن، ‏تذكيرا وتبصيرا، بإذن الله.‏
بين الاجتهاد الفقهي والاجتهاد المعرفي
إذ التمايز بينهما باعتبارهما وقود التّجديد الحضاري الإسلامي، جار على مستوى التّعريف ‏والمجال والموجبات والأولويات.‏
إنّ الاجتهاد الفقهي بما هو بذل الجهد من قبل الفقهاء المجتهدين، مستعينين بأهل الخبرة غالبا ‏في مختلف التخصّصات، من أجل تحصيل الأحكام الفقهيّة من أدلتها الشّرعية استنباطا ‏وترجيحا وتنزيلا؛ يكاد ينحصر مجاله في دائرتين واسعتين: دائرة المختلف فيه من ظنّيات ‏الأدلّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين، وما يتطلّب ذلك من تجديد الاستنباط والتّرجيح، ثمّ دائرة ‏القطعيّات بقصد تجديد تحقيق مناطاتها، أي تنزيلها بمحالها اللاّئقة بها من جديد؛ بحيث يقطع ‏ذلك كلّه عن الآثار السّلبية التي علقت به عصر التّقليد، وخصوصا ما كان منها بفعل تأويل ‏الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين كما ورد في الحديث.‏
ذلك أنّ اختلاف البيئات باتساع رقعة الإسلام، فضلا عن بروز نوازل جديدة بتغيّر أنماط العيش ‏وتعقّد علاقات المجتمع، ناهيك عن موجب تجديد تديّن الأمّة وتحصين قيمها دفعا لتيار العولمة ‏الجارف؛ كل ذلك يفرض –فيما يفرض- ابتداء إصلاح مناهج تدريس العلوم المفيدة في صناعة ‏المجتهد، وتفعيل مؤسسات الاجتهاد الجماعي الحقّة مع إيلائها حقّ ممارسة السّلطة الاجتماعيّة ‏والتّربويّة في الأمة، ثمّ التّقريب بين المذاهب الفقهيّة بتنمية المتّفق عليه والإعذار في المختلف ‏فيه.‏
وأما الاجتهاد المعرفي بما هو استفراغ الوسع من قبل العلماء المتخصّصين في غير الفقهيّات، ‏تدبّرا لآي الخالق وتفكّرا في أحوال المخلوق، فإنّ مجاله يتّسع اتساع ما في الكتابين المسطور ‏والمنظور من حقائق الوجود، وهو منصبّ أساسا على استكشاف مظاهر التّوافق بين الكونين ‏المتلو والمجلو، إبرازا لدقّائق الإعجاز الإلهي ودلائل النّبوة المحمديّة، إذ منزل القرآن هو خالق ‏الأكوان جل وعلا.‏
ولعلّ تحدّي التّخلف المعرفي الجاثم منذ زمن على عقل الأمّة وقلبها، من أكبر موجبات هذا ‏الاجتهاد، مما يستدعي بذل قصارى الجهد لإحياء دورها الرّيادي في المجال العلمي، عسى أن ‏تتخلّص من إدمان الاستهلاك التّقني وغير التّقني، فتقتحم عقبة الإنتاج الإبداعي، وتوظف نتائج ‏البحث العلمي المعاصر التّوظيف الإيماني درءا لاختلالات التّوازن البيئي.‏
بيد أنّ ذلك كلّه يقتضي –فيما يقتضي- ابتداء رفع العجز المادّي عن مؤسّسات البحث العلمي، ‏ومواكبة برامج التّعليم لما جدّ من نتائج العلم حقائق ونظريّات، ناهيك عن ضرورة توفير ‏الباءات لتنمية ذوي المواهب والكفاءات في مجالي البحث والإبداع.‏
وعسى أن  يصدق العزم من لدن أولي العزم من شبيبة الأمّة، مثلما صدق من فحول علمائها ‏ومجتهديها الأفذاذ، أحياء وأمواتا، فتستعيب موجبات الاجتهادين، وتحقّق أولوياتهما، إذ في ذلك ‏دعامة كبيرة لتغيير العمران بتثوير القرآن، استلهاما لبصائره وبشائره، وتزكية بمكارمه ‏وفضائله.‏
الاجتهاد والتجديد بين الضوابط والخصائص
إذ كلّ من الاجتهاد والتّجديد في الإسلام منضبط بضوابط يفيض عن كلّ منها ما يناسبه من ‏خصائص، ويمكن تلخيص أهم ذلك في الآتي:‏
(أ) الضّابط التّأصيلي: ويراد به إرجاع صور الاجتهاد وعزائم التّجديد إلى أصول الشّرع أدلة ‏وقواعد، حتّى يندرج كلّ منها تحت أصله اللاّئق به. ويفيض عن هذا الضّابط خاصّية الارتكاز ‏على الوحي باعتباره الهدى المنهاجي الخالص «..قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ...»(3) ولذلك لا ‏يقدم، ولا ينبغي أن يقدم عليه شيء من مصادر المعرفة الأخرى، إذ هو موافق للحقائق اليقينيّة، ‏مطابق لها سواء بطريق التّصديق، أو بطريق الهيمنة، ومن ثمّ فأيّ تعارض متوهّم مع ما جاء ‏به نصّ الوحي، ينبغي أن تجري عليه قاعدة فضيلة الأستاذ الدّكتور الشّاهد البوشيخي حفظه الله «اتهام النفس قبل اتهام النّص».‏
‏ (ب) الضابط الإبداعي: ويراد به الاجتهاد في كشف سبل المعرفة المجدّدة لمظاهر الاستخلاف في ‏كنف صلاح العمران، ويفيض عنه خاصّية الأخذ بالأسباب المودعة في السّنن الكونيّة ‏والاجتماعيّة، إذ هي سنن يقينية ثابتة «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» (5).‏
ولعلّ من نماذج هذا الأخذ الإبداعي رسم علماء المسلمين خرائطهم على أساس كرويّة الأرض، ‏بعد تدبّر موارد هذه الحقيقة في القرآن تنصيصا وتلويحا، وذلك بعد أن ساد الاعتقاد عند غيرهم ‏أنّها مسطّحة؛ ناهيك عن مشروع العلاّمة ابن خلدون في فلسفة الاجتماع والحضارات، ‏والشّاطبي في المقاصد وغير ذلك من مشاريع مجدّدي علماء الإسلام المبنيّة أساسا على تدبّر ‏القرآن والتفكّر في أحوال العمران.‏
(ج) الضابط الإصلاحي: ويراد به إثمار كلّ من الاجتهاد والتّجديد في الإسلام ما فيه صلاح ‏العقول وتزكية النّفوس وتهذيب العوائد، ويفيض عنه خاصّية الدّعوة إلى الخير، إذ هي سبيل ‏نشر الصّلاح والفلاح بين النّاس، على عكس التّفكير الشّيطاني نحو تفكير الوليد بن المغيرة في ‏ما يصرف به النّاس عن القرآن باتهامه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالسّحر « إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» (6).‏
الهوامش
‏(1) ينظر مختار الصحاح : جدد.‏
‏(2)  أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة.‏
‏‏(3)  ينظر الفطرية للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ص 68- 70.‏
‏‏(4) سورة البقرة - الآية 120
‏‏(5) سورة فاطر - الآية 43
‏‏(6) سورة المدّثر - من الآية 18 إلى الآية 25