باختصار شديد

بقلم
محمد بن نصر
في التفكير ومنهجيته
 تساءلت في أكثر من مرة حول الحكمة من تفصيل أحكام التعبد في القرآن الكريم والإكتفاء بإشارات وتوجيهات عامة، في المجالات الأخرى، نكتشف عمقها بعد البحث. بلغة أخرى من أراد أن يتعبد، صلاة وزكاة وصوما وحجا يجد كل التفاصيل في القرآن وفي ما توارثناه تواترا من السنة العملية لرسولنا الكريم. ما الحكمة يا ترى من هذا التفصيل؟ في تقديري والله أعلم، أراد سبحانه بذلك أن يرشدنا بأقوم السبل إلى ما يجب أن يهتم به العقل الإسلامي. لا تجهدوا أنفسكم وتبحثوا فيما هو معلوم ولكن اجتهدوا في البحث عن نواميس المجهول وقوانينه. من طبيعة ومجتمعات ونفس وتاريخ ...لأن البحث في المعلوم لا يضيف شيئا سوى استشكال الواضح حتى يصبح مشكلة مصطنعة تبحث عن حل موهوم. 
غاب هذا الموجه القرآني الأساسي في المعرفة فاشتغل العقل الفلسفي الإسلامي في البحث فيما وراء الطبيعة أي في البحث في الغامض غير المتاح واشتغل العقل الفقهي في البحث في المُفصّل الواضح فاضطر إلى استشكاله. كان لتصنيف العلوم الإغريقي دور كبير في ذلك وكان للسياسة دور أكبر في حشر الفقهاء في هذه الزاوية ولم يكتفوا بذلك بل زادوا الطين بلة حين أفرغوا العبادات والتسمية ليست بريئة، لأن المعاملات أيضا عبادات، من روحها التحررية، فجعلوا نواقض الوضوء في أغلبها حسّية متعلقة بأحوال الجسم لا بأحوال النفس، فلم يعتبروا الغش والظلم والكذب والخيانة من نواقض الوضوء ولا من مبطلات الصلاة. بلغة أخرى عندما يؤذن المؤذن أول سؤال يتبادر لذهن المؤمن ، هل أطلق الريح أم لا؟ ولا يسأل نفسه إن كان قد غشّ أو كذب أو ظلم أحدا...وهكذا تدريجيا تحولت الصلاة من ناهية عن الفحشاء والمنكر إلى مبيضة لهما. 
على المستوى المعرفي ظل الأمر على حاله زمنا حتى افتتح أبو حامد الغزالي مسيرة التحرر من البراديغم الإغريغي وتُوّجت هذه المسيرة بالمراجعات العميقة التي عرفها القرن الثامن، ابن تيمية في مستوى العقيدة والشاطبي في مستوى أصول الفقه وابن خلدون في حقول المعارف الإنسانية.
جاءت هذه المراجعات في مرحلة لم يكن العقل الإسلامي قادرا على استيعابها فزهد فيها قرونا حتى عادت إلينا مركبة مشوهة فلم تعرفنا ولم نعرفها.
الأمل معقود على من اقتنعوا بضرورة أن يكون القرآن مصدرا للتفكير وتشكيل عقولنا لا طبعات مذهبة نزيّن بها مكتباتنا، أن ينتجوا معرفة قرآنية في أسسها وأسئلتها وغاياتها ولكن إنتاج المعرفة ليس أمنية نتغنّى بها فهي نتاج لإستراتيجية شاملة لا ترقى إليها إلا النفوس من ذوات الهمم العالية.