الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
دحو ٱلأَرْضِ (3/4)
 تخبر الآية 30 من سورة النازعات، أنّ الله تعالى دحا الأرض بعد أن بنى السّماء برفع سمكها وتسويتها وبعد إغطاش ليلها ‏وإخراج ضُحاها وذلك في الآيات الثّلاث التي سبقتها. وتعتبر هذه الإشارة الواضحة الى كون دحو الأرض سبقته عمليّة بناء السّماء ‏عنصرا أساسيّا لفهم عمليّة الدّحو ذاتها، وهو ما جعلنا نفكّر طويلا في الأمر ودفعنا الى التّسليم بفرضيّة عمل مفادها أنّ السّماء ‏المعنيّة بالموضوع هي الغلاف الغازي المحيط بالأرض. 
وعند عرض الآيات التي تضيف البناء والسّمك والتّسوية وإغطاش اللّيل ‏وإخراج النّهار الى السّماء على المعارف العلميّة المتعلّقة بجوّ الأرض نشأة وتطوّرا، تأكدنا من أنّ تلك الفرضيّة محتملة جدّا إن لم ‏تكن هي الحقيقة فعلا وذلك ما وضّحناه في المقالين السّابقين. 
فما علاقة هذا الغلاف الغازي بالدّحو إذا؟ ولكن وقبل دخول غمار ‏مواجهة السّؤال لا بدّ من تحديد دقيق لا غموض فيه أو على الأقل بأقلّ درجة ممكنة من الغموض، للمعنى الأصلي لكلمة الدّحو ‏حتّى نكون أقرب الى الموضوعيّة، فلا نُحمِّل اللّفظ ما لا يحتمل ولا نُقَوِّل الآيات ما لم تقله.‏
(1) الدحو لغة
الكلمة: دَحَا يَدْحُو. الجذر: دحو. الوزن: فَعَلَ/يَفْعُلُ‎‎‏ (1)
دَحَا-[دحو]، (فعل: ثلاثي. لازم ومتعدٍّ. مزيد بحرف)، دَحَوْتُ، أَدْحُو، اُدْحُ، المصدر: دَحْوٌ‎.‎‏ (2)‏
نقتبس فيما يلي أهم ما ورد في المعاجم من الاستعمال العربي للجذر دحو ومشتقاته:‏
-1 المِدْحاة: خَشَبة يَدْحَى بِهَا الصبِيُّ فَتَمُرُّ عَلَى وَجْهِ الأَرض لَا تأْتي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا اجْتَحَفَتْه. (3) ‏
-2 قال ابن سيده: وسيل جُحاف، بالضّم، يذهب بكلّ شيء ويَجْحَفُه أَي يَقْشُرُه وقد اجْتَحَفَه (4)
-3 والمَطْرة القاشرة: التي تَقشِر وجهَ الأرض (5).‏
-4 ومطر داح يدحى الحصى عن وجه الأرض (6). ‏
-5 ودَحَا المَطَرُ الحَصَى عَنْ وَجْهِ الأَرض دَحْوًا: نَزَعه (7) 
-6 وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «دَحَا السَّيْلُ فِيهِ بالبَطْحاءِ أَي رَمَى وأَلْقَى» (7). 
-7 ويقال للاّعب بالجوز: أَبْعِدِ المَدى وادْحُهُ، أي ارْمِهِ (8). 
-8 ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ هُوَ يَدْحُو بالحَجَرِ بيَدِه أَيْ يَرْمِي بِهِ وَيَدْفَعُهُ (7) ‏
-9 ويقال للفرس: مَرَّ يَدْحو دَحْوًا، وذلك إذا رمى بيديه رميًا لا يرفع سُنبُكَه عن الأرض كثيرًا (8). «ومر الفرس ‏يدحو دحواً: إذا جر يده على وجه الأرض فيدحوا ترابها» (9) 
-10 دَحَا علي بن أبي طالب رضي الله عنه باب خيبر بيده. (10) ‏
-11 والأُدْحِيُّ سرب النعام وموضعه الذي يبيض ويفرخ فيه (1).‏
-12 في مفردات الراغب: قال دحاها، أزالها من موضعها ومقرها (11)‏
فأي معنى يؤدّيه لفظ «الدحو» على ضوء ما وجدنا في أمّهات المعاجم اللّغويّة؟
‏- الدّحو بالماء: تقشير سطح الأرض وذهاب بمادة التقشير دفعا لبسط الأرض وتمهيدها‏.
‏ رأينا في معجم العين أنّ الخشبة التي يَدْحَى بها الصّبي لا تأتي على شيء إلاّ اجتحفته. فماذا في الاجتحاف معنى ومبنى؟ تفيد ‏الصّيغة الصّرفية «إفتعل» المبالغة أي أنّ هناك مبالغة في الجحف وبما أنّ الإجتحاف هو «التّقشير والجحف أي شدّة الجرف» كما ‏نجد في معجم المعاني، فهذا يعني أن هناك مبالغة في تقشير سطح الأرض وجرفه. ولنذهب بعيدا في استقصاء المعنى، نتساءل: ما ‏هو التّقشير وما هو الجَرف؟ 
التّقشير مشتقّ من الجذر «قشر» وهو حسب ابن فارس أصل واحد يدلّ على تنحية ‏الشّيء وإزالته من مكانه. يقول العرب «المَطْرة القاشرة أي المطرة التي تَقشِر وجهَ الأرض »(12). أما بالنسبة للجرف ففي ‏مقاييس اللّغة « جَرَفْتُ الشيءَ جَرْفاً، إذا ذهبْتَ به كلِّه. والجُرُف المكان يأكله السّيل وسَيْلٌ جُرافٌ وجُحافٌ: يَجْرُفُ كلَّ شيء ‏ويَذْهَبُ به». وينقل قاموس المعاني عن ابن سيده قوله:« وسيل جُحاف، بالضمّ، يذهب بكل شيء ويَجْحَفُه أَي يَقْشُرُه وقد إجْتَحفَه» (13). ‏لا يقتصر الدّحو على التّقشير والجرف فقط بل هناك أيضا الدّفع بالشّيء المقشّر، فالمطر الدّاحي هو الذي يدحى الحصى عن وجه ‏الأرض أي يدفعه. وقد استنتج ابن فارس بالنّسبة للمادّة (د ح و) أنّ «الدّال والحاء والواو أصلٌ واحد يدلُّ على بَسْطٍ وتمهيد» وهذا ‏لأنّ الماء إذا قشر الأرض وجرف مواد التّقشير ودفع بها ورماها بعيدا عن مكان ما، فقد بسط ومهّد ذلك المكان وسواه وسهله ‏للحركة. وما تسمّية العرب مبيض النّعامة الأُدْحيُ إلاّ لذلك. فالبسط والتّمهيد الذي ذهب إليه ابن فارس ما هو إلاّ نتيجة لعمليّة الدّحو ‏وليس فعل الدّحو نفسه وهذا في نظرنا جوهريّ في التّعامل مع الألفاظ ويمكننا من تفادي التّرادف. فالدّحو ليس البسط والتّمهيد كما ‏قال ابن فارس بل هو فعل يؤدّي الى البسط والتّمهيد.‏
‏-  الدّحو بغير الماء
ورغم أنّ الماء (المَطْرة والسّيل والمطر والغيث) كما رأينا هو الفاعل الأساسي في عملية الدّحو إلاّ أنّ الدّحو لا يقتصر عليه فقط. ‏فالفرس عندما لا يرفع سُنبُكَه أي طرف حافره عن الأرض كثيرا فهذا يعني أنّه يدفع بسنبكه كلّ ما هو غير متماسك مع السّطح أو ‏ضعيف التّماسك مثل الصّخور الصّغيرة لذلك فهو يَدْحو. وكذلك النعام الذي يزيل برجله من سطح الأرض كلّ ما يمنعه من أن ‏يكون منبسطا ومستويا وممهّدا حتّى يبيض فيه ويفرخ. وهذا إضافة الى أنّ الدّحو يمكن أن يكون بواسطة جسم صلب كالمدحاة كما ‏سبق القول. ‏
-  الدّحو
إنّ المعنى الأساسي الذي يبرز للفظ الدّحو يقتضي النّزع والتّقشير والإزالة والتّنحية والإستئصال لكلّ ما يمنع المكان من أن يكون ‏منبسطا ومستويا ومسهّلا مع الدّفع والرّمي بعيدا، عن المكان المدحو، بكلّ ما ينتج عن تلك العمليّة التي تسبّبها أساسا حركة الماء. ‏إنّه استئصال لنتوءات وتضاريس سطح الأرض وأخذها جميعا والذّهاب بها. إنّه فعل ينتج عنه تسوية وتسهيل لموضع ما من ‏سطح الأرض. أمّا المبالغة في الدّحو فلا يمكن إلاّ أن تجعل المكان المدحو أكثر فأكثر انبساطا واستواء. وبقدر ما تطول عمليّة ‏الدّحو زمنيّا بقدر ما يسوى المكان أكثر. وغنيّ عن القول إنّ الدّحو يؤدّي أيضا الى توسعة المكان حيث نجد في معجم تهذيب اللّغة ‏ما يلي: «وقال شمر أنشدتني أعرابية‎:‎‏ الحمد لله الذي أَطَاقَا *** بَنَى السَّماءَ فَوْقَنَا طِبَاقَا ثم دَحَا الأرْضَ فَما أَضَاقَا، قال شمر: وفَسَّرَتْه ‏فقالت: دحا الله الأرْضَ أوْسَعَها»(14)، وهذا بالطّبع لأنّ الدّحو إذا طال زمن فعله فلا يمكن الاّ أن يوسع المكان الذي يدحوه.‏
وقبل أن ننهي هذه الفقرة المخصّصة للدّلالة اللّغوية للمادّة (د ح و) لا بدّ من التّأكيد على أنّ ماء المطر يبقى، كما يشير إلى ذلك ‏الاستعمال، أهمّ فاعل في عمليّة الدّحو ولنا فيما يلي دليل آخر على ذلك مقتبسا من معجم لسان العرب: « وَالْمَطَرُ الدَّاحِي يَدْحَى ‏الحَصَى عَنْ وَجْهِ الأَرض: يَنْزِعُه؛ قَالَ أَوس بْنُ حَجَر: يَنْزِعُ جلْدَ الحَصَى أَجَشُّ مُبْتَرِكٌ *** كأَنَّه فاحِصٌ أوْ لاعِبٌ دَاحِي، وَهَذَا ‏الْبَيْتُ نَسَبَهُ الأَزهري لِعُبَيْدٍ وَقَالَ: إِنَّهُ يَصِفُ غَيْثًا» (15)، لكن هذا لا ينفي أن يكون الرّيح مثلا داحيا قياسا على سنبك الفرس، فكلاهما ‏يدفع بالحصى لجعل المكان أمهد من ذي قبل كما أنّ كل عامل طبيعي يزيل تضاريس موضع ما من سطح الأرض سواء ‏باستئصالها أو بمجرد دفعها والذّهاب بها بعيدا عن موضعها الأصلي، فهو داح والموضع مدحوّ وهذا مفتاح آية الدّحو.‏
لقد سعينا الى ذكر كلّ استعمالات العرب للدّحو ومشتقاته وما قيل في أصل المعنى الوضعي الطّبيعي له لأنّنا نعتقد دائما في هذه ‏المقالات التي نتدبر فيها علميّا الآيات المتعلّقة بالأرض بمعنى القشرة الخارجيّة، أنّ الله تعالى وبتأكيده على عربيّة القرآن لا بدّ ‏وأنّه سبحانه قد أورد الألفاظ بمعناها الأصلي حتّى لا نتوه في التّأويل.‏
وفي خاتمة هذه الفقرة المخصّصة للدّلالة المعجميّة للدّحو لا بدّ من كلمة عن الطّحو والتي وردت في الآية السادسة من سورة الشّمس ‏وهي « وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا» في سياق آيات تتناول في اعتقادنا نفس الظّواهر الطّبيعية التي أشارت اليها الآيات 27 و28 و29 من ‏النّازعات وهي: « وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‎ (1) ‎وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا‎ (2) ‎وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا‎ (3) ‎وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‎ (4) ‎وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا‎ (5)‎‏». ‏ففي معجم العين نجد «الطّحو: شبه الدّحو، وهو البسط (وفيه لغتان طحا يطحو وطحى يطحى) والقوم يطحى بعضهم بعضا أي ‏يدفع». وقد نقل أبو منصور الأزهري في تهذيب اللّغة عن شمر قوله «(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها)‎‏ معناه والله أعلم، ومَنْ دَحَاها‎.‎‏ ‏فأبدل الطّاء من الدّال». إنّ المشترك بين الدّحو والطّحو هو النّتيجة وهي البسط الاّ أنّ الدّحو يتضمّن الطّحو فهو أوسع معنى. ‏فالدّحو هو نزع وذهاب بالشّيء المنزوع في حين أنّ الطّحو هو الدّفع بما هو فوق السّطح كما نجد في معجم الرّائد لجبران مسعود، ‏وذلك في تصوّرنا دون الحاجة الى نزعه لأنّه موضوع عليه.‏
(2) آية دحو الأرض عند المفسرين: الدّحو هو البسط والمدّ والتّمهيد
لن أتطرق الى اختلاف المفسّرين أو أهل التّأويل، كما قال الطبري، في معنى قوله { بَعْدَ ذلكَ } لأنّي أعتقد أن ذلك يعود أصلا الى ‏عدم تحديد معنى السّماء المقصود رغم الاستنجاد بآيات أخرى ورد فيها لفظ السّماء وهو أمر يتجاوز الآفاق المعرفيّة للمفسّرين. ‏وكما قال الطّبري فإنّ «المعروف من معنى «بَعْد» أنّه خلاف معنى «قَبْل» وهو المعنى الذي سنتبناه. ‏
نعود إذا للدّحو إذ يقول في شأنه الطّبري أنّ «الدّحو إنّما هو البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْواً، ودَحَيْتُ أَدْحِي ‏دَحْياً لغتان». ومن المسائل التي تناولها الرّازي في تفسيره مفاتيح الغيب (16) ، مسالة الدّحو فقال: « وفي حديث عليّ عليه ‏السّلام ‏‎»‎اللّهم داحي المدحيات‎ «‎أي باسط الأرضين السّبع وهو المدحوّات أيضاً، وقيل: أصل الدّحو الإزالة للشّيء من مكان إلى ‏مكان، ومنه يقال: إنّ الصّبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض، وأدحى النّعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزالت ‏ما فيه من حصى، حتّى يتمهّد له، وهذا يدلّ على أنّ معنى الدّحو يرجع إلى الإزالة والتّمهيد». أمّا القرطبي فيورد في معرض ‏تفسيره للآية ما يلي: «والعرب تقول: دَحَوْت الشيءَ أدحوه دحواً: إذا بسطته» (17). إنّ جلّ المفسرين القدامى قالوا بأنّ الدّحو هو البسط ‏والتّمهيد والمدّ وقد استشهدنا بالبعض منهم فقط. كما أنّ التّفاسير الحديثة ذهبت في نفس الاتجاه مثل الألوسي في روح المعاني(18) (ر ‏م) وابن عاشور الذي نقتبس مما كتبه في التحرير ما يلي « والدَّحْو والدَّحْيُ يقال دحَوْت ودحيت. واقتصر الجوهري على ‏الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو البسط والمدّ بتسوية. والمعنى خلقها مدحوَّة، أي مبسوطة مسوّاة» (19). ‏
(3) علاقة الدحو بإخراج الماء والمرعى؟
إنّ مسألة عدم إدخال العاطف على {أخْرَجَ ‏‎{‎أثارت تساؤل الزّمخشري في الكشّاف حيث قال: «فإن قلت هلا أدخل حرف ‏العطف على أخرج؟ قلت فيه وجهان، أحدهما أن يكون معنى { دَحَـٰهَا } بسطها ومهدها للسّكنى، ثم فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في ‏تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتادا ‏لها حتّى تستقر ويستقر عليها. والثاني أن يكون {وأَخْرَجَ} حالاً بإضمار «قد» كقوله‏‎} ‎أَوْ جاءكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‎  {‎‏(النساء 90) ‏وأراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام. واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله‎}‎‏ نَرتعُ وَنَلْعَبُ ‏‎{ ‎‏ (يوسف 12 ) وقرئ ‏‏«نرتع» من الرعي ولهذا قيل دلّ اللَّه سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامّة ما يرتفق به ويتمتع ممّا يخرج من الأرض حتّى ‏الملح، لأنّه من الماء { مَتَـٰعاً لَّكُمْ } فعل ذلك تمتيعاً لكم { وَلأَنْعَـٰمِكُمْ } لأنّ منفعة ذلك التّمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم» (20). لكن يذكر ‏أبو حيان في تفسيره أن الأخفش قال: «أن الماضي يقع حالاً، ولا يحتاج إلى إضمار قد، وهو الصّحيح. ففي كلام العرب وقع ‏ذلك كثيراً‎.‎‏»‏‎ (21) ‎وينقل الطبري عن ابن زيد (ت 136 هـ ) ما يلي: «قال ابن زيد، في قوله: { دَحاها } قال: حرثها شقَّها وقال: { أخْرَجَ ‏مِنْها ماءَها وَمَرْعاها } ، وقرأ: ‏‎}‎ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقًّا‎...  { ‎حتى بلغ‎ ‎‏ ‏‎}‎وَفاكِهَةً وأبًّا‎  {‎، وقال حين شقَّها أنبتَ هذا منها، وقرأ: ‏‎}‎والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ‎{  ‎‏ وقوله: { أخْرَجَ مِنْها ماءَها } يقول: فجَّر فيها الأنهار. {وَمَرْعاها} يقول: أنبت نباتَها» (22). ويلخص الألوسي ‏عدم إدخال العاطف على جملة { أخْرَجَ ‏‎{ ‎‏ بقوله بأن الآية هي:«بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإنّ السّكنى لا تتأتّى بمجرد البسط ‏والتّمهيد بل لا بدّ من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب، أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه، وكلاّ الوجهين مقتضٍ ‏لتجريد الجملة عن العاطف»(23). ويورد الشنقيطي عن بعض المفسرين ما يلي:«وقول ابن جرير وابن كثير: إنّ دحاها فسّر بما ‏بعده لا يتعارض مع البسط والتمهيد، كما قال ابو حيان: إنه ذكر لوازم التسكن إلى المعيشة عليها من إخراج مائها ومرعاها لان ‏بهما قوام الحياة»(24) أي أنّ هناك من يرى أنّ دحي الأرض يعني إخراج الماء والمرعى وشقّ الأنهار وإرساء الجبال باعتبار أنّها من ‏ضروريّات التّهيئة للاستعمار البشري. أما ابن عاشور فيقول: «ولا يصحّ جعل جملة {أخرج منها ماءها} إلى آخرها بياناً ‏لجملة {دحاها} لاختلاف معنى الفعلين» ويقول: «وجملة { أخرج منها ماءها ومرعاها } بدل اشتمال من جملة { دحاها } لأنّ ‏المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها»(25). وبناء على هذا الرّأي وبما أنّ «بدل الاشتمال هو ما كان من مشتملات ‏المبدل منه وخصائصه ولوازمه»(26) فيعني هذا أنّ البنية البلاغيّة للآيات تدلّ أنّ الإخراج هو من مشتملات الدّحو ‏وخصائصه ولوازمه. وبما أنّ من مشتملات الدّحو وخصائصه ولوازمه الجوهريّة هو توفير الظّروف الملائمة لظهور الإنسان ‏فكذلك إخراج الماء والمرعى.‏
(4) خاتمة
إنّ معنى الدّحو الأصلي يتضمّن تنحية وتقشير واستئصال وإزالة كلّ ما يمنع أن يكون أعلى الأرض منبسطا ومستويا وممهّدا ‏وسهلا، كما يتضمن أيضا الدّفع والذّهاب بما أزيل بعيدا عن موضع الدّحو. ويمثّل الماء في كلّ ذلك العامل الأساسي. لذلك فإنّ ‏البسط والتّمهيد والتّسوية ليست الدّحو كما ذهب جلّ المفسرين بل نتيجة للدّحو بما هو فعل يغير ظهر الأرض من حالة الى أخرى. إنّ الدّحو بهذا المعنى هو اسم يمكن الاصطلاح على أنّه آليّة يتحوّل بواسطتها موضعا ما من وعر الى سهل ومن ضيق بحكم ‏صعوبة التّحرك فيه الى سعة بما يوفّره من سهولة في التّنقل. إنّه بهذا المعنى آليّة من أليات أخرى، مثل المدّ كما بيّنا في مقال ‏سابق (27)، تفسّر الكيفيّة التي سطحت بها الأرض أي الكيفيّة التي صار بها أعلاها أو ‏جزءا منه فيه استواء. وباعتبار أنّ الدّحو يوفّر الظّروف الملائمة لظهور الإنسان كما اقتضت الإرادة الإلهيّة وهو ما نعاينه اليوم ‏من قيام الحضارات في السّواحل والأراضي المنبسطة، فلا يمكن أن يكون إخراج الماء والمرعى إلاّ من مشتملات الدّحو ولوازمه ‏حسب ما تخبر به الآية. فلنعرض ما آل إليه بحثنا اللّغوي من نتائج على ما توصّل اليه العلم الحديث بعلاقة بسطح الأرض وتواجد ‏الإنسان عليها وهو موضوع الجزء الرّابع والأخير من المقال.  ‏
المراجع
(1) ‏ شمس العلوم- نشوان بن سعيد الحميري -توفي: 573هـ/1177م 
(2) ‏ الغني-عبد الغني أبو العزم-صدر: 1421هـ/2001م
(3) ‏ العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/940م
(4) ‏ مقاليد العلوم-جلال الدين السيوطي-توفي: 911هـ/1505م
(5) ‏ معجم مقاييس اللّغة -أحمد بن فارس ابن زكريا -توفي: 395هـ/1005م
(6) ‏ العين-الخليل بن أحمد -م. سابق
(7) ‏ لسان العرب -ابن منظور - ج14 - ص 251 وما بعدها
(8) ‏ منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
(9) ‏ تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)‏
(10) ‏ الأفعال المتداولة-محمد الحيدري-صدر: 1423هـ/2002م
(11) ‏ أساس البلاغة-أبو القاسم الزمخشري-توفي: 538هـ/1143م
(12) و(13)‏ معجم مقاييس اللّغة -أحمد بن فارس - م.سابق
(14) تهذيب اللّغة - ‏أبي منصور محمد إبن أحمد إبن الأزهر (ت 370 هـ)‏
(15) لسان العرب -ابن منظور - م. سابق
(16)  تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)‏
(17)  تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)‏
(18)  تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) م
(19)   تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)‏
(20)   تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) 
(21)   تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ)‏
(22)  تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)‏
(23)  تفسير روح المعاني/ الالوسي - م.سابق
(24)  تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي - م.سابق
(25) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور - م. سابق
(26) معجم علوم العربية / د. محمد التونجي – صدر: 1424 ه/2003 م. دار الجيل. 
(27) مجلّة الإصلاح - العدد 141 - أفريل 2019