خواطر

بقلم
محمد مراح
العبقرية دليل وحدانية الله تعالى
 لايوصف مخلوق بالعبقريّة غير الإنسان؛ فهي منحة إلهيّة أكرم بها الخالق ‏مخلوقه الذي كرّمه وأسجد له ملائكة قدسه .فهي بعد قوّة الإيمان تعبيرعن أقوى ‏موضع في عالم الرّوح التي هي نفخة العظيم في مخلوقه المصطفى‎ .‎
فالعبقريّة دليل وحدانيّة الخالق تبارك وتعالى؛ آية هذا أنّ العبقريّة التي يتجلّى ‏بها عبقريّ في مجال وميدان ما لا تتكرّر في غيره بتفاصيلها وسرّها، وإن ‏اتّحدا. أي أنّ ما تجلّت به عبقرية عبقريّ لا يمكنك أن تجدها لدى غيره. فقد ‏يوهمك تواتر العباقرة في نشاط فكري أو علمي أو فنّي وغيرها أنّها عبقريّة؛ ‏يكفيك إدراكها، فوصفها بأنّها عبقريّة، لكنّك عند التّحقق بمنطق السّبر والتّأمل، ‏ستجدهم أنّهم اتحدوا في الصّفة، أمّا الموصوف فله دمغته التي لا تشرك فيها ‏غيره‎.‎
فالأنبياء والرّسل صلّى الله عليهم وسلّم صفوة البشر في الخصائص الإنسانيّة ‏الرّفيعة ، منها الذّكاء الحادّ الذي لا تحرّج في وصفه بالعبقريّة، منح الله المولى ‏تعالى كلّ واحد منهم ما تجلّت فيه عبقريّة لا تجدها بالقوّة والوضوح والتّميّز كما ‏تجدها عنده؛ فلك أن تقول عن صبر أيّوب (عبقرية الصّبر)، وعن حلم إبراهيم ‏‏(عبقرية الحلم الإبراهيمي )، وعن قوّة موسى وشدّة بأسه (عبقرية القوّة) وهكذا‎ .‎
أمّا سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، فقد جمع الله له ما تفرّق من أعلى ‏الأوصاف والخصال في غيره من الأنبياء والرّسل؛ ولك أن تعبّر عن هذا ‏أيضا بـ (جُماع العبقريات) . فأنت في عالم النّبوة والأنبياء تتملّى أرقى وأعظم ‏وأنقى ما منح الله تعالى مصطفاه من الخلائق‎ .‎
ولك أن تتفحّص مكامن العبقريّة في كلّ مجال، فستجد أنّ كلّ عبقري نسيج ‏وحده، لا يشاركه فيما بزّ فيه غيره وفاق واشتهر، حتّى ليكاد أن يكون التّحدى ‏هو الاهتداء للتّعبير الوصّاف الدّقيق لتلك الميزة في لغتك التي تكتب وتتكلّم‎ .‎
فمهما جهدت كي تعثر على النّسخة العبقريّة المطابقة لعبقريّة المتنبّي في شعرنا ‏العربي فلن تجدها . سيقول قائل : الشّعراء العباقرة في شعرنا العربي الباذخ ‏كثر، فنقول : لا إنكار لهذا، لكنّ عبقرية المتنبّي تختلف عن عبقريّة المعرّي، ‏وهذه تباينها عبقريّة أبي تمام وهكذا‎.‎
وعبقريــة الإمام البخــاري في توخّي الصّحيح من حديث رسول الله صلّى الله عليه ‏وسلّم نسيج متفــرّد من العبقريات، لايشركه في خصوصيّتها أحــد. وكذا الحال ‏في كبار المحدثيــن الإمام مسلم وغيره رضي الله عنهم‎ .‎
وعبقريّة الإمام مالك في أئمّة المذاهب -مثلا – تدعوك لتقصّى مكامن العظمة ‏والتفرّد في فقه ونظر هذا الإمام كي تسلم لك مقولة تلميذه الشّافعي : ( إذا ذكر ‏العلماء، فمالك النّجم )، ثم تلوح لك عبقريّة استنباط وافتراض لدى الإمام أبي ‏حنيفة النّعمان، تتحدّاك أن تعثر لها في اللّغة على الوسم الملائم المتفرّد‎ .‎
فكأنّ المولى تبارك وتعالى أقام من العبقريّة وفرادة كلّ عبقريّ عن سميّه دليلا ‏من أدلّة وحدانيّته؛ فكلّما تأمّل المرء في عبقريّة عبقريّ أُودعت في كائن كريم ‏غير كامل، تطّلع للكمال المطلق فلم يجد له مستحقّا غير ربّ العالمين سبحانه ‏وتعالى، لا إله إلاّ ربّ السّموات والأرض ومن فيهن‎ .‎