أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ ‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة الخامسة : القدير
 إسم «القدير» من الأسماء التي أحتلت المراتب الأولى تواترا في الذّكر وهو ينتمي إلى مجموعة القوة والعظمة والعزّة وما إليها وهي المجموعة الثّالثة ذكرا بعد مجموعة العلم والرّحمة وبعد مجموعة الحكمة التي لا يعبّر عنها إلاّ بإسم الحكيم. 
ورد إسم «القدير» زهاء 45 مرّة. أكثر وروده بهذه الصّيغة «وهو على كل شيء قدير». ومثل كثير من الأسماء ورد في الأعمّ الأغلب بصيغة المبالغة ( فعيل ) ولكنّه ورد كذلك في مرّات قليلات بصيغ أخرى منها المجرّد من مثل صيغة ( القادر ) مفردا وجمعا ( القادرون ) كما ورد بصيغة مزيدة من فعل إقتدر وهي صيغة ( مفتعل ) أي مقتدر وكذلك مفردا وجمعا بقوله سبحانه ( مقتدرون ). وبذلك لا يندّ هذا الإسم عن القاعدة الجامعة وهي أنّ أكثر أسمائه سبحانه وردت بصيغة مبالغة. كما ورد هذا الإسم على أكثر من صيغة سواء مجرّدة أو مزيدة وعلى أكثر من صيغة مبالغة، كما يرد هذا الإسم مع أسماء أخرى قليلة بصيغ الإفراد والجمع وبذلك يكون الله سبحانه جامعا لصفة القدرة بكل أبعادها ومعانيها وصيغها فلا يشاركه في قدرته أحد ويجري هذا حتّى مع الأسماء والصّفات التي يمكن للإنسان أن يتمثّلها ولكن حتّى مع إمكانية هذا التّمثل فإنّ إسم الله سبحانه وصفته لا يمكن أن تضاهى وذلك ليظلّ هو الإله المعبود بحقّ متعاليا عن كلّ خلقه مهما بلغوا من صفات القدرة وأسماء العظمة سبحانه وتعالى.
هذا اللّسان : ما أعذقه وأغدقه
لم يسحرني شيء في هذه الدّنيا كما فعل بي هذا اللّسان العظيم وخاصّة عندما يكون ثوبا قشيبا كاسيا لكلام الله سبحانه، إذ يسكن المبنى اللّساني الغدق إلى المعنى القرآني العذق فتكون من ذا شجرة طيّبة فوّاحة دوّاحة ظليلة يفيئ إليها المكدود ويطمئن إليها المهدود. 
دعنا مع هذا الجذر الثّلاثي ( ق د ر ). يبدأ الجذر بحرف حلقي مفخم لتشي حلقيته بعمقه ولتوحي فخامته بعظمته وهذا هو معنى أنّ اللّسان العربي لسان صوتيّ بالأسّ الأول وليس هو لسان مكتوب ولا مقروء وذلك هو معنى أنّ العرب الأقحاح أرباب اللّسان وهم أمّيون بالكامل، كانوا ينحتون الكلمة نحتا عجيبا يكون مبناها الصّوتي خادما لمعناها المراد، فلمّا توفّرت أساليب الكتابة والرّسم والقراءة عدل النّاس عن المؤثّر الصوتي فكان لا بدّ من علوم نحو وصرف وتركيب وغير ذلك وبذلك تأخّر التّأثير الصّوتي الكفيل ببناء المعنى في ذهن السّامع وأصبح التّعويل على القاعدة اللّغوية فحسب، وهذه مقدحة لا تفي المعني حقّه مهما نبغ المرء في تلك العلوم، إذ أنّ هذه العلوم سماعيّة وما كان سماعا كان أوثق أثرا وأدعى وقعا لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد. يخبرنا هذا الجذر بداية إذن أنّه سينجز كلمة ثقيلة قويّة وبذلك نعلم منذ البداية أنّ معناه لا بدّ أن يثوي في ذلك المربّع.
ما معنى : قدير
الفعل هو قدر. قدر: ترد بفتح عينها ( أي الدّال ) وترد بكسرها ولكن تظلّ فاء الفعل ولامها ( أي القاف والراء ) مفتوحتين دوما. كما يرد مزيدا كما هو حال إسم الله هنا فهو المقتدر من فعل إقتدر. ورد هذا الجذر في القرآن الكريم بالمعنيين معا : معنى القدرة أي الإستطاعة ومعنى التّضييق. كما يرد مزيدا على وزن (فعّل) أي قدّر. يرد فعل قدر بمعنى التّضييق مفتوح العين في مثل قوله سبحانه « وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» أي ضيّق عليه رزقه. كما يرد الفعل نفسه بالمعنى نفسه مكسور العين كما في قوله سبحانه «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ». ولم ينسب إلى الله سبحانه في القرآن الكريم فعل القدرة بهذا الفعل ولكن نسب إليه إسم الفاعل منه مفردا وجمعا كما مرّ بنا آنفا. المعنيان يتكاملان ليس لأنّهما من جذر ثلاثي واحد متماثل بالكلّية فحسب ولكن كذلك لأنّ القدرة من مقتضياتها أن يكون صاحبها قادرا على التّقدير سواء بمعنى التّضييق أو بمعنى آخر ورد كثيرا في القرآن الكريم نفسه وهو معنى التّقدير أي الضّبط والحساب ووضع كلّ شيء في مكانه وميزانه، حتّى إنّ أهل الجنّة يشربون من كأس قدّروها تقديرا أي أنّ ما فيها من محاليل مقدّرة منضبطة محسوبة، فلا هي أكثر من الحاجة ولا هي أقلّ منها. 
الله سبحانه قدير بكل تلك المعاني فهو القدير بمعنى القدرة والاستطاعة والعظمة والقوّة والعزّة وهو قدير بمعنى التّقدير أي ضبط كلّ شيء ضبطا صحيحا مناسبا لا يتعدّاه، فلا طغيان ولا إخسار وهو قدير سبحانه بمعنى التّضييق على من شاء من عباده في الرّزق بمعناه الشّامل الواسع، إذ قال عليه السّلام عن الحبّ ويقصد خديجة : «رزقت حبها»
من مظاهر قدرة الله سبحانه
المظاهر لا تحصى، منها أنّه بدّل طبيعة النّار الحارقة عندما ألقي فيها خليله «إبراهيم عليه السلام» حتّى غدت بردا وسلاما ثمّ عادت إلى طبيعتها وسالف سيرتها، ومنها شقّه البحر ليكون كالطّود العظيم ( البحر الأحمر ) ليكون معبدا ممهّدا لموسى وبني إسرائيل كأنّه طريق سيّار لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، ثم عاد في لمح البصر بل أقرب إلى سالف سيرته عندما غشيه فرعون ليغرقه به، ومنها إماتته صاحب الحمار في سورة البقرة بين قصتي إبراهيم عليه السلام مائة عام كاملة ثم بعثه بعدها ليجد أكله وشربه لم يتسنها كأنهما جهزا للتوّ وليرى بأم عينيه كيف تنشز عظام حماره وكيف تكسى باللّحم والعصب والشّحم ليستوي في طرفة عين حمارا صالحا للرّحل، ومنها ما يمتلأ به القرآن الكريم في قصصه وأمثاله وممّا لا تحتمله هذه المقالة الصّغيرة. كلّ ذلك لأجل أن يغرس فينا أنّه سبحانه على كلّ شيء قدير، وحتّى لا نستبعد الحياة بعد الموت فنؤمن بيوم القيامة والحساب ونعدّ لذلك عدّته اللاّزمة.
لماذا كان الله قديرا ؟
لابدّ من عودة إلى تراتبية مجموعات أسمائه سبحانه إذ مرّ بنا مرّات أنّه أخبرنا أنّه عليم أوّلا وذلك حتّى يغرس فينا خلق الرّقابة، فإذا علمنا أنّه عليم بكلّ شيء فإنّا أدعى إلى تقواه، وعندما نعصيه نعصيه ونحن واعون أنّه يرانا وهذا أقلّ ذنبا من أن نعصيه ونحن نعتقد أنّه لا يرانا. فإذا إستقرّ فينا ذلك أخبرنا بأنّه رحيم وذلك حتّى لا تستبدّ بنا صفة العلم بكلّ شيء فنقنط. فإذا إستقر فينا  العلم والرحمة معا أخبرنا أنّه سبحانه حكيم سواء بمعنى الحكمة أو بمعنى الحكم. فإذا إستقر فينا كلّ ذلك أخبرنا سبحانه أنّه على كلّ شيء قدير وذلك حتّى نقدّره حقّ قدره فلا نيأس من رحمته مهما طوحت بنا الذّنوب ولا نأمن مكره مهما بدا لنا من مدّه لنا وإستدراجه الظّالمين ولا نظنّ أنّ الملك للظّالمين بلا نهاية مهما طولت بهم الأعمار وجرت الرّياح بهم، ولا نيأس من تبدّل الزّمان وتداول الدّول ولا من وعده سبحانه ولا نخاف من بطش باطش مهما علا وتجبر وتكبر. ذلك هو المقصد من إخباره لنا سبحانه أنّه على كلّ شيء قدير وهو تعبير يلخص كلّ شيء، فما من شيء إلاّ وهو شيء وإذا كان كلّ شيء هو شيء، فإنّ الله سبحانه على كلّ شيء قدير. 
ومن مظاهر قدرته على كل شيء أن ما من شيء إلا وهو يسبح بحمده تسبيحا لا نفقهه. بتلك التّراتبية : العلم بأنّه عليم، ثمّ بأنّه رحيم، ثمّ بأنّه حكيم، ثمّ بأنّه على كل شيء قدير، تستقرّ العقيدة وتستقيم صورة الله في النّفوس ويطمئن العبد سواء أذنب أو أطاع، وسواء مرّت عليه عقود لم ير فيها العدل والحرّية أم مرّت عليه مثلها لم ير فيها الجور والقهر.
هل للإنسان حظّ من القدرة؟
رأينا أنّ من الأسماء الإلهيّة من يختصّ به هو سبحانه، فلا يشاركه فيه أحد ( الرّحمان والمتكبّر مثلان ) وأنّ أكثرها ما للإنسان فيه حظّ. للإنسان حظّ في إسم القدير ولكن قدرة الإنسان مهما عظمت لا تساوي شيئا في ميزان قدرة من هو على كلّ شيء قدير سبحانه. يقدر الإنسان على أشياء كثيرة وذلك بفضل الله سبحانه فهو يقدر على الكفر والإيمان والطّاعة والمعصية، إذ نسبت المشيئة إليه هنا من لدن خالقه سبحانه وأقدره الله سبحانه لعمارة الأرض وعبادته على أمور كبيرة ولكن آفة الإنسان أنّه يغفل عن مصدر قدرته ومعين قوته فينسب ذلك لنفسه وهنا تحلّ الكارثة إذ يعبد ذاته كما فعل كثير ممّن أوتوا علما ومعرفة، إذ اتبعوا ملّة قارون الذي قال في كبر وفخر ( إنما أوتيته على علم عندي ). ولذلك لا مانع من أن يتسمّى الإنسان أنّه قادر أو مقتدر وإن كانت التّسمية بأنّه عبد القدير أو عبد القادر أو عبد المقتدر أولى. الله يحبّ القويّ كما ورد في الحديث والقدرة من القوة كلاهما من جنس واحد ومجموعة واحدة ولكنّه يحب القادر المقتدر القدير القويّ المتواضع في حضرة جناب الله سبحانه إذ هو وحده منبع القدرة ومصدر القوة.
مشكلة المسلمين : خلط بين القدرة وبين السّبب
كثير من المسلمين يتركون العمل وخاصّة في مقاومة الظّلم والبغي والجور متحصّنين بأنّ الله على كل شيء قدير وأنّه أقدر على الظّالمين وهو إتجاه لئن كان وفيّا لجانب من جوانب العقيدة إذ يظنّ العبد أنّ الله كما هو سبحانه على كلّ شيء قدير، فإنّه إتجاه يهضم جانبا من تلك العقيدة نفسها، إذ أخبرنا الله سبحانه أنّه حتّى وهو على كلّ شيء قدير فإنّه وضع في الكون أسبابا وبثّ سننا وأجرى أقدارا وأنّ الإنسان قدر من تلك الأقدار وسنّة من تلك السّنن وسببا من تلك الأسباب، فلا يتغيّر الوضع من سوء إلى حسن ومن إحتلال إلى إستقلال ومن إستعباد إلى تحرّر ومن فقر إلى غنى ومن عجز إلى قوّة ومن مرض إلى عافية إلاّ بذلك السّبب وجرى ذلك على الأنبياء أنفسهم بل جرى ذلك حتّى في المعجزات إذ أمرت مريم البتول بأن تهزّ إليها بجذع النّخلة فلا يسقط عليها الرّطب ييسر لها أسباب الوضع إلاّ أخذا بذلك السّبب ولا جريرة لها هي في كلّ شيء، وما أنبجست الأرض إثنتي عشرة عينا لموسى عليه السّلام إلاّ بضربه بعصاه الأرض، وما تسنّى لذي القرنين الإحسان إلى من لا يكادون يفقهون قولا وغيرهم إلاّ بإتباع السّبب. 
كثير من المسلمين يخلطون بين الأمر : الله على كلّ شيء قدير هي عقيدة معقودة وهو التّصور الصّحيح عن الله سبحانه. وهو نفسه الذي أمر بالعمل والكسب وأنّ قدرة الإنسان لا تتأتّى إلاّ بإعمال السّبب وإتّباع السّنة والنّاموس وإستخدام القانون، ولذلك دعا بني إسرائيل حتّى يتحرّروا من بغي فرعون بأن يكون ذلك منهم هم وليس معجزة «ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون». 
ذلك الخلط مازال يعبث بعقيدة كثير من المسلمين، بل يتّخذونه مشجبا يعلّقون عليه قعودهم. وبمثل ذلك يتساءل المسلمون الكسالى القاعدون اليوم : كيف لا ينصر الله الأبرياء في سوريا واليمن وبورما وليبيا على الفجّار والطّغاة وهو على كلّ شيء قدير؟ السّؤال نفسه مغلوط. ذلك أنّ الله الذي هو على كلّ شيء قدير أتاح للإنسان في الدّنيا هامشا من الحرّية حتّى يكون أهلا للعمارة والعبادة والإبتلاء، فإذا تدخّل الله سبحانه بلا جهد من الإنسان فإنّ قيمة الإبتلاء تغدو غير ذات قيمة.
بين الإستطاعة والقدرة
لم تنسب إلى الله الإستطاعة من الفعل المزيد الثّلاثي ( إستطاع ـ مجرده طاع ) ولو مرّة واحدة في القرآن الكريم إلاّ على لسان حوارييّ موسى في مشهد ملوّث بالدّمامة الإسرائيليّة «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ» وذلك لأنّ القدرة أعلى من الإستطاعة وأشمل وأجمل ( نسبة إلى الإجمال لا إلى الجمال) وأعمق. «إستطاع» معناه أصبح الشّيء طوعه، والطّوع أدنى من القدرة، فقد يكون الشّيء طوعك ولكنّك لا تقدر عليه. ولذلك إختار الله سبحانه لنفسه صفة القدرة وليس صفة الإستطاعة التي قصرها على الإنسان بمعنى الوسع «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ». فالله يقدر وهو على كلّ شيء قدير وليس من الأدب والتّوقير أن نقول أنهّ يستطيع سبحانه.
إرتباط القدرة بالعلم والعفو والملك
أكثر ورود إسم القدير بهذه الصّيغة كما أنف (على كلّ شيء قدير) وهي أعمّ صيغة إذ ما من شيء إلاّ وهو شيء. وورد الإسم مرتبطا بالعلم ( العليم القدير ) وذلك حتّى يخبرنا سبحانه أنّه يعلم ويقدر معا بخلاف من يعلم ولا يقدر، ومعلوم أنّ قدرة الذي يعلم أكثر من قدرة الذي لا يعلم. كما ورد مرتبطا بالعفو ( عفو قدير) وذلك ليخبرنا أنّه مع قدرته على كلّ شيء فهو سبحانه عفوّ حليم، إذ أنّ قدرته قدرة رحمة وحكمة وليست قدرة إنتقام وتشفّ وتنكيل وهو مشهد يملأ الفؤاد أملا فيه ورجاء سبحانه. 
كما ورد إسمه المزيد ( مقتدر) مرتبطا بالملك إذ قال سبحانه (عند مليك مقتدر) إذ أنّ ليس كلّ من يملك يقدر أو يقتدر وليس كلّ من يقدر أو يقتدر هو يملك عدا أنّ الله سبحانه جمع بين فضيلتي الملك ( فهو الملك والمالك والمليك ) والإقتدار. هو مليك بصيغة المبالغة (فعيل) وهو مقتدر بصيغة المبالغة كذلك : مفتعل. كما ورد أنّه ( نعم القادرون) فهو قادر بصيغة الجمع تعظيما له سبحانه قدرة نعمة وفضل وحكمة وليس قدرة نقمة أو سوء حاشاه سبحانه.