الاديب الصغير

بقلم
جهاد فوزي أحمد عبد السلام
‏ كيف تلد المهرة عجلا؟
 في زمن المماليك، وفي قرية مصرية على ضفّة النّيل، سكن فلاح فقير في بيت ريفي صغير على أطراف ضيعة لأحد الأثرياء بها قصر كبير.
‏‏وفي إحدى ليالي الشّتاء القارس، عاد الفلاّح إلى بيته المتواضع لينضمّ إلى أفراد أسرته على طاولتهم الصّغيرة، فيتبادلون أطراف الحديث وهم سعداء، فهذا يتحدّث عن يومه كيف قضّاه، وذاك ‏عمّا جنى من ثمار رزقه اللّه إيّاها، وآخر عن قسوة الجوّ وكيف عانى ليصل إلى البيت سالما، ثمّ ينتهي يومهم ‏بالخلود إلى النوم آمنين مطمئنّين. أمّا في الجهة الأخرى، فقد وصل الثّري إلى قصره بعربته الفاخرة، فنزل منها وأخذ يجول بعينه ‏في حديقة القصر، حتى وقعت على بيت الفلاّح، فحدثته نفسه أن يضمّ ذلك البيت إلى قصره الفاخر.‏
‏وفي الصّباح الباكر من اليوم التّالي، خرج الفلاح بهندامه البسيط، واضعا فأسه على كتفه، متوجّها إلى عمله، مستعينا ‏بالرّحمن الرّحيم، يخطو خطوات وئيدة، حتّى قابله الثّري، فحيّاه وسأله عن حاله، وحال أسرته، فما كانت إجابة الفلاح سوى ‏الحمد لله، فسأل الثّريُّ الفلاّحَ مراوغا بكلامه عن بيته الصّغير، وأن صحّته تحتاج إلى بيت أكبر، يوفّر راحة أكثر، واقترح عليه تغييره لكثرة أولاده، ولحاجتهم لبيت أكبر يضمّهم جميعا، فبادر الفلاّح بالرّد عليه قائلا «الحمد لله، هذا البيت يكفينا». 
لم يزد هذا الردّ الثريَّ إلاّ ‏غضبا وحيرة، فعاد إلي قصره وفي رأسه ألف سؤال وسؤال، كيف يجعل هذا ‏الفلاح يتنازل له عن بيته؟ توجّه إلى مائدة الطّعام ليجد شتّى أنواع الأطعمة الفاخرة ساكنة على طاولة الطعام كسكون اللّيل، فقطع هذا ‏السّكون صوته الأجش سائلا إحدى خدمه عن أولاده وزوجته، فردّ عليه الخادم أنّ زوجته مازالت نائمة وأنّ إثنين من أولاده قد ‏خرجا من الصّباح الباكر، أمّا الباقون فهم لا يرغبون في الأكل. زفر الثّري بشدّه وغادر بيته وقد بدت على وجهه ملامح ‏الغضب حتّى وصل إلى مكتبه، فدخله وهو غير آبه بزملائه فلم يبادلهم التحيّة والسلام، وتابع عمله وعلامات الغضب راسمة على وجهه لتجعله صارما مخيفا يتحاشى زملاؤه النّظر إليه أو محادثته. ومع إعلان صلاة الظّهر خرج الثّريّ ‏من مكتبه ليحظى بوجبة إفطار أخرى عوضا عن تلك التي أغضبته، فسار في الحقول وهو ينقل طرفه حتّى رأى الفلاّح وهو ‏مجتمع بأولاده وزوجته، يأكلون من خيرات الأرض ويحتسون الشّاي في جو من البهجة والألفة.‏
كانت أيّام الثّريّ مليئة بكثرة المال والخدم والرّاحة، لكنّه لم يكن سعيدا لأنّه لم يستطع ضمّ بيت الفلاح الفقير إلى ممتلكاته. وفي أحد الأيام، عزم ‏الثريّ أمره بالذّهاب إلى الفلاّح وعرض المال عليه، فتوجّه إلى مكان عمل الفلاح موغلا بين الحقول وجعل يجوس خلالها ويتأمّل خضرتها الباهرة حتّى وصل إلى الحقل الذي يُعمل به الفلاّح فأسه، فناداه وطلب منه الحديث في أمر مهمّ. ترك الفلاح فأسه ورحّب بزائره أشدّ ترحيب وطلب منه بأدب أن يفترش معه ‏الأرض، فجلس الثريّ وقد قدّم له الفلاح كوبا من الشّاي.
تحدّث الثريّ إلى الفلاح  عارضا عليه بيتا واسعا ومالا كثيرا مقابل بيته فرفض الفلاح ذلك بشدّة، وأبي أن يترك بيته الذي نشأ فيه وتربّي أبناؤه بين جنباته، فقد اختلط المكان بدمائهم ولحمهم وعظامهم، لدرجه أنّه يحفظ كلّ زاوية منه وكلّ مكان ‏فيه عن ظهر قلب. غضب الثري وغادر المكان متوعدا الفلاح بالانتقام لأنّه رفض طلبا له، فلم يجرؤ أحد من قبل رفض طلب له أو أمر منه.‏
‏وفي المساء التفّ أفراد أسرة الفلاّح  كعادتهم حول طاولتهم يتسامرون فيما بينهم وقد اعترى الفلاح القلق، فسأله أحد أبنائه ‏عمّا به، فقصّ عليهم الفلاح ما حدث له مع الثريّ وكيف هدّده بقطع رزقه وتوعّده بالويل. هيمن القلق على جميع أفراد الأسرة خوفا من بطش الثرّي الذي لا يرحم، فلم يستطيع الفلاّح ولا أبناؤه النوم نوما هادئا ككلّ ليلة وبقي الجميع يفكّرون حتى قطع صوت الدّيك تفكيرهم، فما كان منهم إلاّ أن قاموا وتوجّه كلّ واحد منهم إلى عمله متوكّلين على الله.‏
أبي الثريّ أن يخضع لرغبة الفلاّح في عدم بيع بيته، ويتركه وشأنه، وظلّ يضايقه كثيرا، فتارة يرسل له اللّصوص لسرقه محصول حقله، وتارة يرسل له من يذيقه الضّرب والإهانه.‏وفي إحدى اللّيالي المقمرة، ظل ّالفلاح يدعو ربّه أن ينجّيه من ظلم هذا الرّجل وقهره، ثمّ التفّ بأسرته حول المائدة، فبشره ‏أحد أولاده بأنّ بقرته قد ولدت أخيرا عجلا يميل لونه للحمرة كحمره اللّهب في الظّلام الدّامس، فدعا الفلاح أبناءه إلى كتم الخبر ‏حتّى لا يصل إلى مسمع الثريّ فيسرقها. 
لم يبق ذلك السرّ مخفيا لفترة طويلة، فبمجرد زلّة لسان أحد أبناء الفلاّح، عرفت القرية الخبر،فبلغ مسمع الثري، وعلم أنّ العجل الصغير جميل، ذو لون يميل إلى الحمرة. وقد صادف أنّ للثريّ مهرة تمتلك نفس ‏اللّون. فأرسل من يأخذ العجل الصّغير من الفلاح قهرا، مدّعيا أنّه ابن المهرة وأنّ الفلاح قد سرقه منه. 
لم يذق ‏الفلاح طعم النّوم، بعد أن غار عليه الثّري وسلبه عجله الصّغير ولم تغفل عيناه، فأخذ يناجي ربّه ويدعوه أن يفرّج عنه كربه، ويجبر خاطره. وفي اليوم التّالي عزم الفلاح مقاضاة الثريّ لدى قاضي إقليمه فقصده وقدّم شكوى في الغرض، فطلب منه القاضي الانتظار لمدّة أسبوع حتّى ينظر في شكواه، ويدّقق فيها، حتى يستطيع الحكم، وافق الفلاح وذهب ‏لبيته داعيا الله أن يظهر الحقّ. لم تمرّ سوى سويعات قليلة، حتّى وصل الخبر لمسمع الثّري فلاحت على وجهه ابتسامة ساخرة، اتبعتها نظرة كبرياء، وخرجت من فمه كلمات كأنّها السمّ قائــلا: كيف يتجرّأ ذلك الفلاح الحقير ‏ويقدم شكوى ضدّي، ألم  يسأل هذا العجوز الخرف عنّي جيّدا.‏
أخذ الثّري طيلة مهلة الأسبوع يقدّم للقاضي الطّعام بلا حساب، ويهديه بلا مقابل، ثمّ فاجأ القاضي بطلبه للحكم في ‏القضيّة لصالحه مقابل ما يريد من المال. فما كان من القاضي سوى الموافقة. وفي اليوم الموعود، حضر الثّري والفلاح أمام القاضي الذي فاجأ ‏الفلاح بقوله: «حكمنا بالعجل للثري اعتمادا على لونه المماثل للمهرة وقوائمه وذيله أيضا».‏
‏ عاد الفلاح إلى بيته، وقد اعتراه الحزن والشّعور بالظّلم، لكنّه لم يفقد الأمل، فقرّر الذهاب إلي القاضي الأعلى، وقصّ عليه ما حدث، فدعاه القاضي إلى الانتظار حتّى يفحص قضيّته جيّدا. وبمجرد تقديم الرّشاوى ‏للقاضي من قبل الثريّ حكم له معتمدا بأنّ العين كالعين والشّعر كالشّعر وعدد الأرجل عند العجل نفسها عند المهرة.
بعد تلك ‏المحاكمة القاسية عزم الفلاح الذّهاب لحاكم الإقليم،الذي سخرفي الحال من الفلاّح البسيط، وقضى بأن يأخذ الثّري العجل، ‏فلا داعي للتّفكير في القضيّة، ما دام أحد أطرافها ثريّا، فمصلحة الحاكم في مصلحة الثرّي فهو الذي يغدق عليه المال بمناسبة وبغير مناسبة وهو الذي يلّبي له رغباته وشهواته في كلّ وقت وحين.
‏لم يزد هذا الظّلم الفلاّحَ سوى الحزن والألم والإعياء الشّديد، حتّى إذا وصل بيته منهمكا توجّه إلى مضجعه، وغاص في ‏سبات عميق، لم يستيقظ منه إلاّ عند سماع آذان الفجر. توضّأ كعادته فأحسن الوضوء ثمّ توجه إلى المسجد للصّلاة ككلّ يوم داعيا ربه. وفي طريق عودته فوجئ ‏برجلين قويّين يصدّان عليه الطّريق ويطرحانه أرضا فيبرحانه  ضربا ولطما حتّى فقد وعيه وأوشك على الهلاك. استفاق الفلاح من غيبوبته فإذا به يجد نفسه ملقى بأحد الأراضي المهجورة بعيدا عن القرية وبجانبه جلست زوجته وأبناؤه يبكون والعبرات تسيل من عيونهم كما تسيل المياه في الأنهار وهم في حالة رثّة فتساءل عن الأمر، فقصت عليه زوجته ما حدث وكيف أغار جنود حاكم الإقليم على بيته، وأخذوا ما به من نفائس وممتلكات ‏وصادروا بقرته وألحقوا بيته بممتلكات الثرّي.
‏عاني الفلاح للوصول إلى إحدى القرى بعدما اشتد عليه القحط والطوى، حتّى رآه أحد البسطاء، فأخذه وأسرته إلى بيته، ‏وقدّم لهم القرى، وما إن سمع قصّة الفلاح، حتّى هبّ واقفا وعلت على وجهه علامات الأسي والغضب، ثمّ أشار عليه بالذّهاب إلى الملك فيشكو ظلم من ظلموه وأعلمه أنّه سيساعده ويرشده حتّى يصل إلى قصر الملك. ذهب الفلاّح إلي قصر الملك وجعل يتوسّل الحرّاس لإبلاغ أمره إلى الملك، لكنّهم لم يأبهوا بحاله طيلة أسبوع كامل، حتى رأف عليه أحد الحرّاس فرفع أمره ‏للملك فأمر الملك بإحضاره. ‏
‏  وقف الفلاح أمام الملك، وقد أخذ الإعياء والإرهاق منه مأخذه، فأمر له الملك بالطعام وبمكان لائق يرتاح فيه حتّى إذا ذهب عنه الإرهاق وتحسّنت صحّته، دعاه الملك ليروي قصّته ويقدّم شكواه. وقف الفلاح بين يدي الملك فأثني على عدله وكرمه.  ثم بدأ ‏يقصّ عليه ما حدث له بالتفصيل، لم يقاطعه الملك قطّ، وسكت طويلا حتّى ظنّ الفلاّح أنّه أغضب الملك، وأشغله، فخاف على مصيره، لكنّه فوجئ ‏بطلب الملك أن يعيد عليه قصّته وما حدث له مع قضاة قريته وحاكمها بعدما أعجب بأسلوبه الفطن، وسرده السّاخر. ثمّ أمره الملك ‏بالانتظار لمدة يوم واحد حتّى يُحضر الثري وقاضي الإقليم والقاضي الأعلى وحاكم الإقليم وقاضي القضاة، فامتثل الفلاّح ‏لأمر الملك. ‏
في صباح اليوم التّالي كان الجوّ مبهجا، والسّماء صافية، لا يشوبها سوى قطع متفرقّة من السّحب، وعزمت الشّمس على ‏إعطاء الدّفء والنّور للبلدة، فهذا الجو المبهج نادرا ما يحدث في فصل الشّتاء. جلس الفلاح في ساحة القصر ينظر للخضرة التي تكسو حديقة ‏الملك، شاردا في جمالها، وهو يسبّح بحمد لله، فقطع شروده صوت الحارس، وهو يخبره بأنّ الملك يطلبه، فأومأ برأسه إيجابا. 
ذهب الفلاح ‏إلى الملك ورأي الثريّ والقاضيين والحاكم يجلسون في صفّ واحد، وكان الظّلم والشرّ قد اجتمعا أمام عينيه، ورأى في الجهة ‏الأخرى الملك وعلى وجهه علامات الهدوء والوقار، وبجانبه رجل كبير في السّن بنفس حالة الملك، فسأل عنه أحد الحرّاس فأخبره بأنّه قاضي ‏القضاة. 
أمر الملك الفلاح بسرد ما حدث مرة أخرى، فلم يلق سوى نظرات الغضب والمواعدة من القاضيين والحاكم، الذين بادروا ‏بالدّفاع عن أنفسهم مستخدمين حججهم الباطلة وأسلوبهم المراوغ، في حين صمت الفلاح احتراما للملك. أمر الملك قاضي ‏القضاة أن يبدي رأيه فيما يراه فـــي
شكوى الفلاّح، فاعتذر أمام دهشة الجميع، فلمّا سأله الملك عن السبب أخبره
بأنه حامل وهوفي شهره التّاسع ولا يستطيع الحكم ولا ‏حتّى إبداء الرأي قبل
أن يضع مولوده.‏
ثار القضاة والثريّ والحاكم قائلين بأسلوب ساخر :
«كيف يحمل الرّجل ثمّ يلد؟ كيف؟!»‏
فردّ عليهم الملك بنفس أسلوبهم:
«وكيف تلد المهرة عجلا أيتها العجول ؟!!‏»...