شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
محمود قبادو ... من متصوّف إلى أحد روّاد الإصلاح
 أكددت الحملة الفرنسية على مصر وعجز المصريين على صدّ عدوانها كما تعوّدوا من قبل، تفوق أوروبا العسكري والحضاري على العالم الإسلامي وكانت الصّدمة التي جعلت المسلمين يدركون أنّ زمان التّفوق الإسلامي قد ولّى وأنّه لابدّ من حركة إصلاحيّة شاملة تأخذ بأسباب النّهضة والتّقدم وتبحث في أسباب تفوّق أوروبا وبالتّالي الاستفادة من الحضارة الغربيّة من دون الارتماء في أحضانها.
في ضوء هذا الوضع الحرج للأمّة ولد الشاعر والمفكّر المصلح  محمود قبادو ليصبح في ما بعد أحد كبار علماء الزّيتونة المصلحين وأحد أبرز أصوات حركة النّهضة والتّجديد في تونس.
ولد محمود بن محمد قبادو شهر «أبوالثناء» سنة 1814م بتونس العاصمة، من أسرة أصيلة مدينة صفاقس. حفظ القرآن الكريم وتعلّم القراءة والكتابة ومبادئ اللّغة العربيّة في الكتّاب وتمّيز على أقرانه بنبوغه ونباهته فضلا عمّا كان يتمتّع به من قدرة على التّعبير ليس لها مثيل نتيجة ولعه بعلوم البلاغة.
وما أن أنهى تعلّمه الأوّلي وانتقل إلى المرحلة الإبتدائية حتّى شذّ عن أترابه ونفر من التّعلّم متّجها إلى البحث في الرّوحانيّات وعوالم الرّياضة النّفسية، فانشغل وهو في سنّ المراهقة بقراءة كتب الصّوفيّة وخاصّة كتب ابن عربي، فتأثّر بها وانتهى به الأمر إلى التّجرد، فاتّخذ لنفسه طريق المجاهدة والسّياحة والخلوة وسلك مسالك «الدّراويش». ولقد دفعه شغفه بالتّصوف وعدم عثوره في بلاده على مدرّب مناسب قادر على إرشاده إلى سبيل المعرفة إلى مغادرة تونس فجأة والتّحول إلى مصراته حيث التحق بالشّيخ محمد ظافر المدني صاحب الطّريقة المدنيّة وهي أحد فروع الطّريقة الشّاذلية واعتكف بزاويته يتعلّم منه مبادئ الطّريقة ويشارك مريديه الأعمال والأذكار والرّياضة.فصُقلت شخصيته وأصبحت متوازنة ثمّ قفل راجعا إلى تونس سنة 1835 م ليستأنف دروسه معلّما ومتعلّما بجامع الزّيتونة المعمور، فتتلمذ على كبار علماء عصره كالشيخ محمد بيرم الثّالث والشّيخ أحمد بن الطّاهر اللذين ساعداه على تعميق ثقافته الأدبيّة والفقهيّة. وبعد ثلاث سنوات قرّر الشيخ السّفر من جديد، فقصد عاصمة الخلافة العثمانيّة طلبا للمزيد من العلم وكان عمره آنذاك أربعة وعشرين عاما، فبقي فيها أربع سنوات بين متعلّم ومعلّم وناسخ لأهمّ الكتب التي كان يطالعها بشغف كبير في المدارس والزّوايا التي كان يزورها.
عاد إلى تونس سنة 1842م بعد أن التقى المصلح والمؤرخ الكبير الوزير «أحمد بن أبي الضياف» الذي أقنعه بالعودة، ونتيجة لموهبته البلاغية ومعرفته المعمّقة في اللّغة العربية، انتدبه الوزير «خير الدّين باشا» للتدريس بالمدرسة الحربيّة التي أنشأها المشير «أحمد باي» بباردو، فكان أول تونسي يتولّى التّدريس في هذه الأكاديميّة العسكرية.
إختصّ الشيخ «محمود قبادو» بتعليم تلاميذه اللّغة العربيّة وآدابها. ولأنّه كان يجيد عدّة لغات أجنبيّة كالتّركيّة والفرنسيّة والإيطاليّة، فقام بترجمة الكتب المتخصّصة في الفنون العسكريّة والرّياضيات والعلوم إلى اللّغة العربيّة وحبّب إلى تلاميذه التّرجمة باعتبارها وسيلة لا غنى عنها لمعرفة علوم الغرب المتقدّم.
 ظلّ الشّيخ «محمود قبادو» مدرّسا في المدرسة الحربيّة بباردو حتّى سنة 1855م، ثم انتقل بعدها مدرسًا من الطّبقة الأولى في جامع الزيتونة مختصا في علم البلاغة والمنطق كما تطوّع إلى جانب عمله الرّسمي بتدريس التّفسير والنّحو والصّرف وغيرها من العلوم التي كان بارعا فيها. وتتلمذ على يديه كثيرون نبغ منهم من قامت على أيديهم النّهضة الفكريّة في تونس،أمثال الشيخ سالم بوحاجب والشّيخ محمد بيرم الخامس أحد دعاة الإصلاح.
ولم ينقطع الشّيخ «محمود قبادو» عن إلقاء دروسه في جامع الزّيتونة حتّى بعد تولّيه منصب القضاء بباردو سنة 1861م، ثم منصب الإفتاء سنة 1868م.
قضى الشّيخ قبادو حياته في البحث والمعرفة، فاستوعب مختلف العلوم والمعارف الفلسفيّة والرّياضيّة والفلكيّة والطّبيعيّة والأدبيّة والدّينيّة والسّياسيّة استيعابا عجيبا، فألّف بينها وواءم بين مكوناتها. ويعتبر الشّيخ أحد أركان الحركة الإصلاحيّة التّنويريّة بتونس في القرن التّاسع عشر. وقد تميّزت شخصيّته الفكريّة والدينيّة بنزعتها إلى التّحديث وتحمّسها لمشروع خير الدين ومراهنتها على الانفتاح، مع تمسّكه وارتباطه بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة وحرصه على إحياء الحضارة الإسلاميّة والنّهوض بها.
وكان من خلال سياحته في البلاد الإسلاميّة واستعانته بواسع معرفته وعميق ثقافته وعمله كمدرس بالمدرسة الحربيّة واتصاله بالأساتذة الأجانب، يحاول أن يجد جوابا لأسباب تخلّف المسلمين وازدهار حضارة الغرب ويبحث عن السّبيل إلى السّير بالمجتمع التّونسي في طريق التّقدم الذي أصبحت تعيشه أوروبا . فأدرك أن لا سبيل إلى النّهضة إلاّ بالتّجديد والأخذ عن الغرب علومه ومعارفه.
لذلك تركّزت أفكاره الإصلاحيّة حول توجيه أبناء وطنه شطر العلم الذي من شأنه أن يغيّر الحال ويصلح المفاسد، وينهض بالدّولة،  باسطا هذه الأفكار في مقدّمة وضعها لكتاب فرنسي ألّفه أحد أساتذة المدرسة الحربيّة في فنّ التّعبئة الحربيّة، قام أحد تلاميذه بترجمته فقال: «إن العلوم الحكميّة والرّياضيّة التي أصبح علماء الإسلام عنها بمعزل، هي مدار التّفوق الذي نالته أوروبا، وهذه العلوم كانت مزدهرة متقدّمة عند المسلمين وكانوا في الذّروة لما كانت هذه العلوم رائجة فيهم».
ولتوفير مصادر العلم والمعرفة ونقل سرّ النّهضة الأوروبيّة، دعا إلى ترجمة كتب العلم إلى العربيّة. يقول رحمه اللّه: «  إنّ العالم الإسلامي في حالة تأخّر وتدهور مع أنّ الإسلام كفيل بأن يكون المجتمع القائم على أصوله في حالة تخالف ما هو عليه الآن، فينبغي أن يُعزى السّبب في ذلك إلى أمر خارج عن جوهر الدّين كان موجودا عند المسلمين ففُقد وأنّ المقارنة تُظهر أنّ هذا الأمر إنّما هو العلوم الحكميّة، فالمعرفة مطلوب دينيّ لذاته وهذه العلوم كانت مزدهرة عند المسلمين. وكان المسلمون لمّا كانت هذه العلوم رائجة فيهم سائرين متقدّمين ثمّ أضيعت هذه العلوم وتأخّرت، فهان المسلمون وتأخّروا تبعا لذلك واقتبست أوروبا هذه العلوم على الإسلام بنسبة ما هجر هو هذه العلوم وأخذت هي. فلا سبيل حينئذ إلى أخذ الإسلام بحظّه من السّعادة والنّهضة إلاّ باستعادة نهضة هذه العلوم التي أضاعها ولا سبيل إلى ذلك إلاّ باقتباسها عن الأوروبيّين بالنقل والتعلّم».
وقد تخرّج على يدي الشيخ قبادو من المدرسة الحربيّة ضبّاط كبار نذكر منهم الجنرال حسين والجنرال رستم؛ فالتقى هؤلاء مع تلامذته من علماء الزّيتونة الذين سبق ذكرهم، على مبدإ الإصلاح العلمي والسّياسي والإجتماعي بإشراف الوزيرالمصلح خيرالدين التّونسي رحمه اللّه. 
 وكان يدعو من بيده السّلطة إلى محاذاة الدّول الأوروبيّة في نهضتها العلميّة والصّناعية والأخذ بأسباب التّقدم بنشر العلوم وتشجيع أبناء الوطن بالأخذ بها. ويرى الشيخ «محمود قبادو» أنّ بناء الدّولة القويّة التي تصمد في وجــــه الغزاة لا يكون بتطوير العلوم وإحياء التّراث العلمي للأمّة فقط، بل يجب أن يكون على أساس العدل وذلك في ظلّ حكم دستوريّ قاعدته الشّورى، وأساسه رعاية الحقوق العامّة. 
ويعدّ الشيخ قبادو أحد أعلام الشّعر الإسلامي في المغرب العربي ورائد نهضته خلال القرن التّاسع عشر وهو كما وصفه البعض «شاعر عصره غير مدافَع»، وكان شعره يمتاز بقوّة المبنى وصحّة اللّغة وجودة العبارة و تميّزت قصائده من حيث الشّكل بالطّول حيث لا يجارى في التّاريخ الشّعري (بحساب الجُمَّل) . أما من حيث المضمون فقد اتخذت الأغراض التي عالجها في شعره منحى مختلفا عمّا كان معروفا لدى الشّعراء العرب من قبله، فكانت قصائده ذات مضمون إصلاحي تحمل في طيّاتها مواضيع تتعلّق بهموم الوطن وعلل المجتمعات وتدعو إلى نهضة الأمّة ومقاومة التخلّف. وكانت قصائده وسيلته لتقديم أفكاره الإصلاحيّة في الميدان السّياسي والاجتماعي والتّعليمي إلى جمهوره من الطّلبة وعامة النّاس. 
عاش الشيخ «محمود قبادو» حياته مكرما بين العامّة والخاصّة حتّى آخر حياته التي كلّلها بتولّيه منصب الإفتاء تأكيدًا على نبوغه في العلوم الشّرعيّة إلى جانب العلوم الأخرى، وظلّ متوليًا هذا المنصب ثلاث سنوات حتّى مرض، ولم يمهله المرض طويلا فتوفّي سنة 1871 م قبل عشر سنوات من احتلال فرنسا تونس وفرض نظام الوصاية عليها.