قبل الوداع

بقلم
رمضان جديد!
 ‏(1) 
أليست رسالة الدّين في مكنونها رسالة قيم ؟ ألم يكن شأن الأنبياء واحدا في كلّ العصور وهو الحرص على العمل الصّالح من منطلق التّوحيد و إقرارا بأنّ دين الله ليس إلاّ رسالة منه إلى عباده أن عمّروا الأرض ولا تفسدوا فيها وعيشوا بسلام؟  ألسنا أمّة الخير من جهة وأمّة المعروف من جهة أخرى؟.‏
‏(2‏)
هذه الأسئلة وغيرها كثيرا ما دارت بخلدي وأنا أرقب حال المسلمين في شهر رمضان المبارك وهو حال لا يخفي على ذي بصيرة. أمّة المسلمين يعجز المرء عن توصيف حالها مع بعض الاستثناءات، ولو أمعنا النّظر قليلا لرأينا كيف أحتفل النّاس بالشّهر الكريم وكم أحبوه وكم بذلوا فيه من صالح العبادات صلاة وصوما وقياما ودعاء. وهو الشّهر الوحيد الذي يأسف النّاس لغيابه وينتظرون عودته بشغف كبير ولكنّهم لا يؤدّون حقّه كما ينبغي لشهر إنّما هو شهر الخير والمعروف بامتياز، شهر لو كان المسلمون يقدّرونه حقّ قدره لأحدث فيهم ثورة قيميّة وثقافيّة وسلوكيّة عادت بهم إلى مراتب الحضارة والسّؤدد.‏
‏(3)
كلّما أدركنا نهاية شهر رمضان المعظّم، كلّما ازددنا أسفا على دوام الحال على ما نحن فيه رغم فرحة العيد. لن نعيد في هذا المقال تكرار ما أتينا على ذكره في مقالات سابقة من توصيف لحال الشّعوب الإسلاميّة ودولها وما هي عليه من تخلّف وانحطاط وذلك ليقيننا أنّ خروج الشّهر الكريم مثل دخوله، لن يكون له تأثير في واقع النّاس سوى أن يغتنم بعضهم الفرصة فيجدّ في عبادة الله صوما وصلاة وتسبيحا. وإذا كنّا لا نروم تكرارا لما سبق وفصّلنا القول فيه مرّات عدّة، فإنّنا لا نزال نكابد ذات السّؤال الذي يتردّد صداه في نفوسنا جميعا : لماذا لا تكون العبادة مدخلا للرّقيّ بالمجتمع كلّه جملة واحدة بدل الاقتصار على الفرد؟، ولماذا لا يشتدّ الحرص إلاّ على أداء الشّعائر والطقوس دون الحرص بالمثل على استكناه المعاني وانتاج القيم أو تجديدها في ضوء ما يعيشه الفرد والمجتمع من تحولات؟ ولماذا يظلّ حرص المسلمين على الإعتكاف في المساجد وصلاة التّراويح والقيام  دون الحرص على تحويل الصّوم و شهر الصّوم إلى معترك جديد تخوض فيه الأمّة كلّها معركة القيم استدراكا لما فات وبحثا عن بعث جديد يكون من شروطه الأساسيّة إنسان جديد واع بما مضى ومسكون بهاجس التّحرّر والإنعتاق، إنسان يتمثّل الإسلام قيما وأفكارا ولا يقتصر الدّين عنده على الشّعائر والطقوس؟.
(4)
قبل حلول الشّهر الكريم ترتفع وتيرة الإستعداد لمقدمه من نواح عدّة ولا يختلف في ذلك قطر عن قطر ولا بلاد عن بلاد. وأول مظاهر الاستعداد ما يحرص النّاس على توفيره من مواد غذائيّة متنوّعة بعضها خاصّ بالشّهر الكريم وبعضها لا يختلف أمره عن بقية الشّهور، وإذا حلّ أوان الصّوم أصبح النّاس أشدّ حرصا على الإنفاق و الشّراء والبذخ في الأكل والشرب، ومن هنا يبدأ النّاس فى خذلان الشّهر إلاّ من رحم ربّك. 
ما شرع الله الصّوم إلاّ ليكون فرصة لكلّ فرد كي يسمو بنفسه فتغدو قادرة على مقاومة الشّهوات بجميع أنواعها، غير أنّ عكس هذا ما يحصل مع كلّ رمضان حيث تزداد الأسواق اكتضاضا ويزداد النّاس إنفاقا على شهوتيّ الأكل والشّرب دون تقدير لعواقب ذلك على الإقتصاد الأسري أو الإقتصاد الجماعي على حدّ السّواء رغم أنّ الدّين في جوهره مقاوم للتّبذير والإستهلاك المفرط والمبالغة في إنفاق المال وإهداره على ما لا يلزم. معركة حقيقيّة يخوضها ربّ كلّ أسرة من أجل مجاراة نسق الاستهلاك المرتفع خلال شهر الصّيام، فإذا أقبل العيد ازداد الأمر تعقيدا حيث أنّ عليه توفير كسوة لكلّ طفل ولعبة وعيديّة. 
لا تخوض العائلات معركة الاستهلاك الأسري المتفاقم كلّ عام تقرّبا إلى الله أوعملا بتعاليمه كما هو المفترض في شهر كلّه عبادة وإنّما تخوض هذه المعركة الخاسرة متسلّحة بقيم أخرى يبغضها الدّين مثل قيم الاستهلاك والتبذير والمفاخرة والهدر وغير ذلك من مظاهر الانفصام عن روح ما جاء به الإسلام. وليس هذا فحسب.‏
‏(5)
ممّا يُروى عن سيرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة وأنّه كان أجود ما يكون في رمضان. ولقد كان النّبي إلى ذلك يحثّ أصحابه على إنفاق المال في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنّساء، و قد ذهب في تشجيعه المسلمين على قيم الكرم والإنفاق والمروءة وتقديم يد العون وإغاثة الجائع مبلغا عظيما حتى قال: « والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم» وكلّ ذلك في سبيل إشاعة المعروف كقيمة أصيلة من قيم الدّين الحنيف، فهل هكذا حال المسلمين في ما بينهم تواددا وتراحما في الشهر الفضيل؟ أم أنّ الحال غير ذلك؟
الحال غير ذلك بكلّ أسف ولا نقول هذا جزافا أو ندّعي مبلغا من العلم ولكن الكثير من الأمور الملحوظة في سلوك النّاس تؤيّد ما ذهبنا إليه مثل شيوع قيم الفردانيّة وتقوقع كلّ امرء على ذاته أو محيطه القريب ولا مبالاة الكثير منّا بالفقراء وحالهم أو الاكتفاء بإبداء بعض التّعاطف دون ترجمة ذلك إلى حركة حقيقيّة تجاه الفقراء وأصحاب الحاجة فرادى كنّا أو جماعات.  
إنّ شيوع الفقر ومظاهره باد للعيان ولا يحتاج لدراسات معمّقة، إذ ترتفع نسب الفقراء عاما بعد عام نتيجة لعوامل عدّة بدءا بالعولمة الإقتصاديّة ووصولا إلى تفشّي ظاهرتي التّضخّم والغلاء. والفقر الشّائع في بلادنا لا يمكن القضاء عليه بسهولة أو بين سنة وأخرى بل هو معظلة تتفاقم بإطراد في مناخ من اللاّمبالاة العامّة مع الخطر الشّديد الذي يمكن أن ينجرّ عن ظاهرة كهذه على المجتمع وأفراده. يصوم الفقراء كما الأغنياء ولكن الإحساس بالجّوع ليس واحدا ولذلك لا ينبري الأغنياء لمساعدة الفقراء تمثّلا لقيم الدّين رغم وجود دافع لذلك إن من جهة الدّين وإن من جهة المعاناة.
‏(6)
لماذا لم يرتفع بنا الصّوم إلى مراتب أعلى من الإنسانيّة ونحن نعلم ما تكابده جموع الفقراء من النّاس؟ ولماذا يكاد يقتصر الأمر على مبادرات فرديّة أو جمعياتيّة قليلة لا تسمن ولا تغنى من جوع مع أنّ كلّ مسلم معنيّ بشأن المسلمين جميعا والأقربين منهم خصوصا؟ ولماذا لا يدخل في دائرة اهتمامنا أن نكون حريصين على المساواة التّامة بين جميع البشر في توفير الحاجيّات الدّنيا لجميع النّاس على قاعدة أنّهم سواسية كأسنان المشط ؟.
إنّ من أوكد واجبات الجماعة المسلمة أن تشيع قيم التّكافل والأخوّة بين أفرادها وأن تقاوم كلّ مظاهر التّمييز استلهاما لرسالة الدّين نفسه الذي ماجاء إلاّ ليحفظ كرامة النّاس ويقيهم من ذلّ الحرمان والسّؤال. ولا يعدو رمضان أو ما يعقبه من أيّام العيد أن يكون فرصة لا تعوض من أجل إعادة الوعي لجموع المسلمين بضرورة  تمثّل هذه القيم النّبيلة وتوثيق العلاقة التّفاعلية بين القيم وحياة النّاس ولكنّنا لا نحرص على هذا قدر حرصنا على إشباع رغباتنا بعيدا عن كلّ القيم أنسانيّة كانت أو دينيّة.
‏(7)
رمضان ليس فرصة للعبادة أو إشاعة قيم الخير فحسب  بل هو فرصة للسّمو بالنفس وإعادة تجديد لثوابتها القيميّة. إنّه فرصة لتبادل الزّيارات والأنشطة الجماعيّة والإجتماعيّة وهو كذلك فرصة للتّثاقف والبحث في مكنون الفكر وإنتاج المعاني والأفكار بهدي من الدّين والنّبوّة وذلك بغاية تجديد الدّين الذي يبلى كما يبلى الإيمان لا فرق.
يحرص النّاس على ارتياد المساجد والقيام بالفرائض والنّوافل دون كلل ويزداد مع كلّ ذلك الإقبال على الدّروس الدّينيّة والمسامرات كما يتحلّق الكثير من النّاس أمام أجهزة التّلفاز أو شاشات الكمبيوتر من أجل الإستماع إلى الشّيوخ والدّعاة وهم يتحدّثون في شأن الدّين. ولو قدر لامرئ أن يحصي عدد السّاعات التي تخصّص لهذه الدّروس وعدد من يحضرها من المسلمين لوجد العدد يتجاوز الآلاف إلى الملايين، ولو أراد البحث في مدى قدرتها على التّأثير لاكتشف بسهولة ما في الأمر من مفارقة إذ يفاجأ بأنّ تأثيرها في النّفوس سطحي إلى أبعد حدّ وأن جمهور المتلقّين ليس إلاّ مستهلكا لبضاعة لا يختلف استهلاكها عن أيّ بضاعة أخرى. جهد موتور ومال مهدور وتأثير عكسي في معظم الأحيان حيث ينتهي الأمر بالنّاس إلى نوع من الملل بعد الحماسة ونفور بعد إقبال، فهل المشكلة فى من يتكلّم في شأن الدّين أم المشكلة في المتلقّي؟ وهل المشكلة في جمود الدّين وتحوّله إلي جملة من الأوامر والنّواهي أم المشكلة في جمود الأفهام عند فئة تدّعي علما بالدّين ورسالته وهي في حقيقة الأمر إنّما تشوّه الدّين أو تسجنه داخل غياهب التّاريخ دون أن تدري، فيتحوّل عملها من أمر بالمعروف كما يقتضي الحال إلى تخدير لعقول النّاس أو إلهاء لهم، زبد من القول لا يغني ولا يفيد.
‏(8)
أعاد الله علينا رمضان باليمن والبركة ، وكم أتمنّى شخصيّا أن يعود علينا بفيض من قيم الخير والمروءة والمعروف وأن يكون فرصة تجدّد كلّ عام من أجل تجديد الدّين والأمة على حدّ السواء. أمنيات تمنّيناها من قبل ونتمنّاها اليوم، لعلّ غدا يأتي برمضان جديد.