شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
عمر الخيّام - صاحب الرباعيّات
تميّز في العديد من العلوم كالرياضيات والفلك وقدّم لها الكثير لكنّه اشتهر بوصفه شاعرا ولا يعرفه الكثيرون إلاّ بهذه الصفة، تميّز شعره بأبعاد فلسفيّة أثارت جدلًا واسعًا بين من أرّخ له أو قرأه وبقيت علامةً فارقة في ما يعود إلى تلك الفترة، إنّه الرّياضيّ والفلكيّ والشاعر الفارسي صاحب الرباعيّات «غياث الدّين أبو الفتوح عمر بن ابراهيم الخيّام».

وُلد «عمر» في مدينة نيسابور عاصمة خراسان التجاريّة الكبرى شمال فارس في 18 ماي 1048م (439 هجرية) في عهد السلاجقة. لقّب بالخيّام لأنّه كان في بداية حياته يعمل في صناعة الخيام قبل أن تتغير حياته حينما صار صديقه الحميم «نظام الملك» وزيرا للسّلطان السّلجوقي «ألب أرسلان» ثمّ لحفيده «ملك شاه»؛ إذ خصّص له راتبا سنويّا كبيرا من خزينة «نيسابور» ضمن له العيش في راحة ورفاهيّة ممّا ساعده على التوجّه إلى البحث والتفكير في أمور وأسرار الحياة وكتابة الشّعر. وقد عاش معظم حياته في نيسابور وسمرقند بين بلاطيّ السّلطان القراخاني والسّلجوقي وكان يتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل «بخارى» و«بلخ» و«أصفهان» إلى أن استقرّ به المقام في بغداد.استفاد الخيّام من ازدهار الحضارة الإسلاميّة ونضوجها إذ مكّنته المكاتب والمدارس المنتشرة في زمانه  من اكتساب معرفة واسعة في التاريخ والفقه واللغة والفلك والرياضيّات والموسيقى،فدرس أعمال الإغريق المترجمة إلى العربيّة وما كتبه من سبقه من علماء عصره.تميّز «عمر الخيام» في علم الرياضيّات واشتهر بالجبر. اخترع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جبرية من الدّرجة الثّالثة بواسطة قطع المخروط نتيجة اقتناعه بأنّه ليس من الممكن حلّ المعادلات التكعيبيّة باستخدام أدوات الهندسة اليونانيّة القديمة كالبوصلة والمسطرة. واعتمد على الكلمة العربية «شيء»التي تكرّرت في القرآن الكريم واستخدمها للدلالة على الكلمة التي رسمت في الكتب العلمية اللاتينيّة (Xay) وما لبثت أن استبدلت بالتّدريج بالحرف الأول منها «x» الذي أصبح رمزاً عالمياً للعدد المجهول. نشر «عمر الخيام» وهو في سن 22 واحدةً من أعظم أعماله، وهي رسالةٌ حول إظهار مشاكل الجبر والموازنة، أظهر فيها أنّ المعادلة التكعيبيّة يمكن أن يكون لها أكثر من حلٍّ واحد، وأوضح أيضًا كيف يمكن استخدام القطوع كالقطع المكافئ والدّوائر لإعطاء حلول هندسيّة للمعادلات التكعيبيّة.كما تخصّص «الخيام» أيضا في علم الفلك إذ يعتبر تقويمه، الذي أعدّه بطلب من السّلطان «مالك شاه»، أدقّ من التّقويم الجريجوري. ففي عام 1073م تلقّى الخيام دعوةً الى مدينة أصفهان الفارسيّة، عاصمة الإمبراطورية السّلجوقيّة، لإعداد جدولٍ زمنيّ من شأنه أن يعمل بطريقةٍ دقيقة إلى الأبد، وكان هذا هو العصر الذي تحدّد فيه طول السّنة بشكلٍ دقيق ومنتظم حيث وجد «الخيام» خلال فترة عمله في «أصفهان» وبعد حسابات دقيقة، أنّ طول السّنة الاستوائية 365,2422 يومًا. وقد قام السّلطان «ملك شاه» بتمويل مشروع «عمر الخيام» من أجل إنشاء مرصدٍ فلكي لمراقبة السّماء. كان الخيام شخصًا يدعو إلى التّأمل والتّفكير وكان متأثّرا بأفكار إبن سينا وله بعض الرّسائل الفلسفيّة  منها «رسالة في الكون والتّكليف» و«الرّسالة الأولى في الوجود» و«مختصر في الطبيعيات» وله مؤلفات متنوّعة أخرى منها: «شرح ما أشكل من مصادرات كتاب أقليدس» و«الاحتيال لمعرفة مقداري الذّهب والفضّة في جسمٍ مركّبٍ منهما»، وفيه طريقة قياس الكثافة النّوعيّة، و«رسالة في الموسيقى».وبالرغم من انتمائه الفارسي فقد كانت عروبة ثقافته واضحة، إذ إنّه يُعدّ من أصحاب اللّسانين فبالإضافة إلى اتّقانه اللّغة الفارسيّة، فقد تميّز باتقانه اللّغة العربيّة التي تعلّم بها وعلّم وحاور عددا من علماء عصره وناظرهم، وأجاب عن أسئلتهم واستفساراتهم وكتب بها جلّ مؤلفاته العلميّة والفلسفيّة، وترجم منها خطبة التّوحيد لابن سيناء إلى الفارسيّة، ونظّم بها الشّعر وإن كان قليلا. ومن مؤلفاته بالعربيّة كتاب «الجبر والمقابلة» وقد ترجمه العالم «فرانز وبكه» إلى الفرنسيّة ونشره سنة 1851 في باريس، كما ترجمه إلى الإنجليزية «داود قصير» سنة 1931.رغم نبوغ «عمر الخيّام» في علوم الرّياضيات والفلك والنّجوم والتّاريخ؛ فإنّ رباعياته التي نظّمها باللّغة الفارسيّة وترجمت إلى عدّة لغات كانت سبب شهرته بعد مرور نحو ألف عام على رحيله. ألهمت «رباعيات الخيام» بجمالها وروعتها عددا كبيرا من الشّعراء والكتّاب خاصّة من العرب بعد أن تُرجمت إلى العربيّة حوالي 15 مرّة وتأثّر بها شعراء من أجيال النّهضة كإيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة اللّذين استلهما مضمون الخياميّة وما تحمله من شكّ وحيرة وقلق.كما تأثّر بالخيام الشّاعر الإنجليزي «فيتز جيرالد» الذي ترجم أعماله ليُطلع الأوربيّين والأمريكيين والهنود على نبوغه وإن كانت الصّورة التي قدّمت عن الخيام صورة ماجنة حسب الدّارسين، وقد لعبت هذه الترجمة دورًا كبيرًا في الاستشراق وانتشاره بين أوساط الباحثين الأوروبيّين الذين بدؤوا يتطلّعون بشغفٍ نحو شرقٍ كان إلى حدٍّ قريب مجهولًا بالنّسبة إليهم. كما كان الشّاعر البنغالي الشّهير «القاضي نذر الإسلام» من أكبر المتأثّرين الدّارسين لفكر الخيام وإليه تعود أهمّ موضوعات الخيام التي كتبت بالنبغاليّة، كما انتشرت أغاني هذا الشّاعر بشكل واسع في القرن العشرين في طاجيكستان وترجمت إلى أغلب لغات الاتحاد السوفياتي سابقا. تميزت رباعيات الخيام بلغة سلسة، سهلة البيان بلا تكلف أو تعقيد، تمس صميم حياة البشر، دون تمايز بين طبقات المجتمع، من عالمها إلى عاميها، ومن ثريها إلى فقيرها، فالجميع يشتاق إلى معرفـــة          مصيره ومثواه وخالقه وجدوى حياته.ومن خصوصيّة رباعيّات الخيّام استخدامه لكلمات وعبارات قابلة للتأويل كما استخدم بشكل كبير مصطلحات متداولة لدى أهالي مدينة «نيسابور» المشهورة بصناعة الفخّار كمفردات «القدح» و«الإناء» و«الكوز» و«الصّراحي» و«الكؤوس».وتبدو النفحة الصوّفيّة العرفانيّة جليّة في رباعيات الخيّام لدرجة أن بعضهم اتّهمه بالإلحاد والهردقة، وهو اتّهام لا يمكن تجنّبه إن لم تتم قراءة الرّباعيّات وفق المصطلحات الصّوفيّة، فكلمة «الحبيب» تعني الإله وكلمة «النشوة» تعبّر عن المشاعر الدّاخليّة التي تنتاب المرء عند تأمّله في الذّات الإلهيّة.  ويرى الباحثون في شخصيّة الخيام وتأليفاته، أنّ الرّباعيات المنسوبة إليه ليست كلّها من إنتاجه، فالرّباعيات التي فيها الشّكوى والتألمّ من الفقر والمعاناة من الحرمان هي ليست للخيام قطعاً فقد كان للخيام منزلة اجتماعية وثقافيّة مرموقة في عصره. وكان يعيش حياة مرفهة بعيدة عن الفاقة، فلا يمكن أن يعاني في أشعاره من الفقر والحرمان المادّي وأن يذمّ، أو يلعن القدر الذي أذلّه بالجوع والعوز والثّياب الرثّة.كذلك بالنسبة للرباعيات التي تدلّ على الاستخفاف بالكائنات والقدر واللّجوء إلى الحانات والتّورط في الفضائح فهي ليست من شيم «الخيّام» الذي حصل في زمانه على ألقاب مثل «حجّة الحقّ» وهو لقب يعادل «حجّة الإسلام» الذي لقّب به «الغزالي». وقد كان عنوان «حجّة الحقّ» قبل الخيّام يحمله «ابن سينا». وكانوا يطلقون على «الخيّام» أيضاً لقب «الإمام» وهو لقب كان يطلق على من يتصدّر الملأ في العلم والحكمة.فكيف يكون هذا الحكيم في النّهار إماماً ودستوراً وحجّة للحقّ وفي اللّيل متسكّعاً في الحانات وبيوت الدّعارة وما شابهها؟أمّا الرّباعيات التي يعتبرها النّقاد صحيحة ويتسنّى لها أن تكون وليدة فكر «الخيّام». فهي لا يتجاوز عددها مائتي رباعيّة وتحتوي على أسئلة عن الكينونة والوجود والإنسان والقدر والمصير والجبر والاختيار، والتّمييز بين الزّهد الحقيقي والزّهد المزيّف، والحثّ على الصدق والعدل وخدمة النّاس باعتبارها أساس الدّين. وقد نظر الدارسون إلى الرّباعيات الفارسيّة على أنّها مدرسة تجعل من الخيّام نظام معرفة وفكر عميق على مدار التّاريخ لا مجرد إنسان معتاد بعدما أضنى أرواح الفلاسفة وأذهان المتعلّقين بدوّامة من الأسئلة الصّعبة المتعلقة بأسرار الكون.توفي «عمر الخيّام» عن عمرٍ ناهز الـ 83 عامًا في بلدة «نيسابور» في 4  ديسمبر 1131م بعد أن عاش سنين عديدة في عزلة، ودُفن في قبرٍ كان قد اختار موقعه مسبقًا ضمن بستان حيث تتساقط الزهور مرتين في العام.وفي سنة 1963م، نقل رفاته بأمر شاه إيران إلى ضريحٍ ضخم بناه في «نيسابور» حيث يمكن للسّياح زيارته وإحياء ذكراه .