حوارات

بقلم
التحرير الإصلاح
حوار مع الدكتور لطفي زكري
 (1)
‏1.‏ ‏«العود الهوسرلي إلى كنط ومولد الفنومينولوجيا الترنسندنتالية» هو عنوان أطروحتكم التي تقدمتم بها لنيل شهادة الدكتوراه، ألا ترون أنّ هذا ‏العنوان وحده صادم؟‏
‏فعلا هكذا يبدو لغير المختصّ في مجال البحوث الفلسفيّة، أمّا من يدرك حرص العقل الفلسفي على تدقيق الدّلالات، فإنّه لا شكّ يجد لنا ‏العذر. فالعود إلى كانط كان تقليدا سائدا كلّما حلّت بالفكر أزمة حتّى لكأنّ «الكنطيّة» نبع الحلول الضّرورية لكلّ الأزمات، لكن حين يتعلّق الأمر بالعود ‏الهوسرلي إلى هذا الفيلسوف، فإنّ الأمر يبدو مختلفا. فلم يعد «هوسرل» إلى «كنط» بحثا عن حلّ لأزمة بل كان عوده بحثا عن أزمة تمنحه بدءا ومولدا ‏لفلسفة جديدة. لذلك كان في العود مولدا لفلسفة يبدو اسمها دخيلا على اللّسان العربي. 
فـ «الفنومينولوجيا الترنسندنتالية» في اللّسان العربي ظاهراتيّة ‏متعالية وهي صياغة لا تفي بالغرض الذي تؤدّيه العبارة الدّخيلة. أي مشكل التّأصيل الفنومينولوجي للترنسندنتالي أو مشكل التّأصيل الترنسندنتالي ‏للفنومينولوجي. فرهان هذاالتّعبير هو عدم السّقوط في فخ المقابلة بين الظّاهري والمتعالي. وإذا كان عنوان البحث يبدو عسير الفهم، فهذا ليس عيبا ‏بل قد يكون مستحسنا بالنّسبة إلى فكر يروم ملّ الوضوح والبساطة وانشد إلى خوض غمار الصّعاب.                   
‏(2)
‏2.‏ ما هي الفرضيّة أو الفرضيّات التي اشتغلتم عليها في هذا البحث؟ وما هو الرّهان الذي عملتم على تحقيقه منها؟
في الواقع يتعلّق الأمر في هذا البحث ببيان منازل الفلسفات المقفوز إليها والفلسفات المقفوز عليها من تاريخ الفلسفة في العود الهوسرلي إلى «كنط» ‏أوّلا وشكل حضورها في انشغالات الفيلسوف القافز إليها وعليها ثانيا. فالعود إلى «كنط» كان إحراجا لفلسفات المثاليّة الألمانية وبخاصّة منها الهيغليّة ‏التي استحالت خلال القرن التّاسع عشر إلى موضة. 
وإذا كان «هوسرل» حذرا في استحضار الهيغليّة في كتاباته، فإنّ تدشينه للأفق الفنومينولوجي ‏الترنسندنتالي لا يبدو لنا ممكنا دون التّفكير مع «هيغل» وضدّه بقدر لزوم التّفكير مع «كنط» وضدّه أيضا. لقد كانت علاقة «هوسرل» بفلسفة «هيغل» أشبه ‏بعلاقة رجل بامرأة غير شرعيّة لا يستطيع التّخلى عنها ولا يريد لعلاقته بها أن تظهر للعيان. وهذا يعني أنّ «هوسرل» لم يقفز على فلاسفة المثالية ‏الألمانية وبخاصة منهم «هيغل» إلى كنط بل قفز بهم إليه. وحتى يتيح لنفسه إمكانية تدشين الأفق الفنومينولوجي كان عليه أن يسكت عن كلّ سبق إليه. ‏بل وأن يتظنّن على اللّحظة الجدليّة التي قصرت النّظر على التّاريخ الوقائعي وأغفلت التّاريخ الماهوي. لذلك بدا لنا العود الهوسرلي إلى أبعد ما ‏يكون عن الانخراط في تقليد تاريخي وأقرب ما يكون إلى وضع حدّ لهذا التقليد. فـ «هوسرل» لم يكن بحاجة إلى النقد الكنطي بل النقد الكنطي بحاجة ‏إلى فنومينولوجيـــا بقدر حاجة الهيغلية إلى النقد.      
‏(3)
‎أي خيار منهجي اعتمدتموه في بناء رسالتكم من أجل الإجابة على مختلف الأسئلة التي طرحتموها وتحقيق الأهداف التي ذكرتموها؟‏ ‏‏ 
يقتضي الاشتغال على فلسفة ما الدّخول فيها والتفكير معها وضدّها بأدواتها المنهجيّة. فلا يمكن التّفكير مع «هوسرل» وضدّه بغير أدوات المنهج ‏الفنومينولوجي. فلا يمكن لعقل غير فنومينولوجي أن يحاور فلسفة فنومينولوجيّة ترنسندنتاليّة تهزأ من المقابلات التّقليدية بن القبلي والبعدي وبين ‏الوقائعي والماهوي وبين الممكن والمستحيل... وترى فيها عقبة تحول دون الفهم والقدرة على النّفاذ إلى ما هو أصلي وأصلاني في الإنسان والعالم ‏والحياة. لكن بما أنّ موضوع انشغالنا كان العود الهوسرلي إلى «كنط» كان علينا القيام بقراءة استردادية للمدونة الهوسرلية حتّى نتبين تطوّر العلاقة مع ‏السّابقين من الفلاسفة الذين تمّ استحضارهم على نحو مباشر أو جانبي والفلاسفة الذين تمّ القفز عليهم أو هكذا يبدو لنا من كيفيّة الإشارة إليهم أو ‏تناسيهم. فعلاقة «هوسرل» بالسّابقين من الفلاسفة في كتاب الأزمة وكتاب أفكار وكتاب مباحث منطقية وما بينها أو قبلها أو بعدها من كتابات لم تكن ‏واحدة ولا ثابتة. بل إنّ استراتجيّة العرج التي اتبعها في العود إلى السّابقين كانت تجبرنا على اقتفاء خطاه حتّى نتبين مقاصده المعلنة والخفيّة من ‏محاورة السّابقين والمنازل التي وضعهم فيها من تاريخ الفلسفة القديم والوسيط والحديث.   
‎‏(4)
حرص الألمان ومنهم «هوسرل» على إرغام الفلسفة على أن تتكلّم ألمانية، فهل كان من اليسير عليكم إرغام الفلسفة الألمانيّة أن تتكلّم العربيّة؟ أي ‏ما مدى قدرة اللّسان العربي على الوفاء بالمقاصد اللّسانية الألمانيّة خاصّة وأنّكم حافظتم في عنوان البحث على الاصطلاح الألماني في لسانه ‏الأصلي؟ فهل كان تعريب المفاهيم الألمانيّة التي اعتمدتموها في رسالتكم خيارا أم اضطرارا؟‏ ‏
طالما أنّ البحث الأكاديمي مقيّد بشروط علميّة ومنهجيّة معلومة، فإنّ الاضطلاع به يلزم الباحث بالوفاء بها، وفي مقدمتها الدّقة المفهوميّة. وإذا كنّا ‏حافظنا على بعض المفاهيم في لسانها الأصلي مثلما حافظ «هوسرل» نفسه على البعض منها في لسانها الأصلي (الإيبوخي ‏épocké‏ مفهوم إغريقي ‏الأصل)، فإنّنا حرصنا في غالب الأحيان على تعريب الكثير منها لا سيما وأنّه توجد قرابة لسانيّة بين اللّسان العربي واللّسان الألماني فيما يُتيحانه ‏من إمكانيّات تعبيريّة ليست موجودة في غيرهما على غرار جسم ‏Corper‏ وجسد ‏Leib‏. ولغرض الدّقة أيضا خيّرنا مثلا استبدال اسم المفكر ‏الفنومينولوجي ‏Phenomenologue‏ بفنومينولوغ، واستبدال عبارة النّزعة السيكولوجية ‏Psychologisme‏ بالسيكولوجيزم. فهي في تقديرنا دالة ‏على المقاصد الهوسرليّة أكثر. 
وإذا كان الألمان حريصين على إرغام الفلسفة على أن تتكلّم الألمانية، فإنّ ما رمنا القيام به في هذا البحث هو بناء ‏خطاب عربي يقول الفلسفة ويقترب أكثر من فرادتها أكثر من سعينا إلى إرغام الفلسفة على أن تتكلم بلسان عربي. ولسنا نرى في هذا المرام ‏استنقاصا من قيمة اللّسان العربي بل استمثارا للإماكانات الهائلة التي يتيحهـــا لمستعمليه دون السّقوط في دغمائية المفاضلــة التي تزعم قدرة لســــان ما ‏على قول كلّ شــيء. فاللسان في تقديرنا لا يمكنه أن يكون شيئا آخر غير رؤية أصحابه للعالم ولذواتهم وللآخرين.                                                               ‏‎    ‎
(5)
هل لديكم نيّة مواصلة البحث العلمي في هذا الموضوع؟ وماهي الخطوات القادمة التي تنوون القيام بها؟‏‏ ‏
‏بعد استكمال العمل وتقديمه للمناقشة والتّفكير في نشره، يصاب المرء بشيء من الكسل الفكري. وهو في تقاليد الباحثين الذين سبقونا أشبه ‏باستراحة المحارب. وهذا يعني أنّ الشّعور بإشباع الرّغبة في البحث لا يلبث أن ينقضي ليعقد الفكر مجدّدا مع البحث واستئناف التّفكير. وأحسب ‏أنّه مثلما كان هذا البحث امتدادا بوجه ما لرسالة الماجستير التي اشتغلت فيها على المنزلة التأملية للمخيلة الترنسندنتاليّة لدى «كنط» من خلال النّقديتين ‏الأولى والثالثة، فإنّي آمل أن تكون هذه الأطروحة منطلقا لعمل بحثي جديد يرفع اللّثام عن بعض القضايا الغائمة التي لم تجد حظّها من الاهتمام في ‏انشغالات المشتغلين بالفلسفة. وإذا كانت الفلسفة قد تجاوزت مواقف التظنّن على مشروعية استمراريتها في زمن الثّورات العلمية وسرعة التّحولات ‏النظرية، فإنّ المشكلات التي صاحبت هذه التّحولات العميقة نظريّا وعمليّا لا تمنح الفلسفة مشروعيّة الحضور وحسب، بل تستدعي العقل الفلسفي ‏إلى أن يكون أكثر جرأة في مباغتة كلّ الأوضاع التي لا يبدو فيها الإنسان إنسانا حتّى وإن بدت موشحة بالكثير من الشّعارات المشحونة إنسانيّة. ‏فأخطر ما يواجهنا اليوم من قضايا بعد أن تقدم الإنسان أشواطا في تحقيق حلم سيادة على الطّبيعة وملكيتها هو تخفي اللاّإنساني وراء الإنساني أو ‏اختلاط الإنساني بوهم الإنساني. ولعلّ العسر كلّ العسر في الاضطلاع بمهمّة التّفلسف اليوم هو قول الإنساني بعيدا عن جميع أشكال التّحيز ‏والانتماء التي صارت أطرا أو سياجات قاتلة للخلق والإبداع الفكري والمادّي..
(6)
كلمة الختام؟
لا نذيع سرّا حين نقول إنّ مستقبل البشريّة ينحت على المنابر بمختلف أصنافها. ومعلوم أنّ جميع هذه المنابر تشتغل بحسب استراتيجيّات متباينة ‏في أمدائها ورهاناتها. ونحسب أنّ مجلة الإصلاح منبر إعلامي مفتوح لكلّ المبدعين في العالم العربي على الأقل، وهو حين يأخذ على عاتقه ‏التّعريف بالمنجزات العلمية والأدبية والفلسفيّة من البحوث المتوّجة أكاديميا، فإنّه يساهم في صياغة بديل إعلامي مكتوب يخاطب العقول ويهذب ‏المشاعر والانفعالات. وإذا الفيلسوف أو المفكر عامّة فيما مضى من العقود والقرون يجد عسرا في الوصول إلى الجمهور سواء لأسباب ذاتيّة ‏‏(كأسلوب الكتابة أو الإغراق في التّجريد الفكري) أو أسباب موضوعيّة (كالرّقابة والمنع ومحاصرة الحرّيات الفكريّة)، فإنّ وجود هذه المنابر يزيل ‏كلّ الذّرائع التي قد يتعلّل بها البعض في تبرير التّنصّل من مسؤوليّة مقاومة التّصحّر والتّسطيح الفكريين اللّذين يتغذّيان من سرعة الانتشار الرّقمي ‏واتساعه من خلال شبكات التّواصل أو بالأحرى الاتصال الاجتماعي.