في العمق

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
مناهجنا التربوية في معترك القيم
 الوحي نسق قيمي للعمران العبادي
إنّما كان الوحي هو الهدى المنهاجيّ لأجل ما ينبني حقيقة على كلّياته المعصومة وسننه الاجتماعيّة المحسومة من النّسق القواعدي القيمي، الذي يستطيع  بموجبه الإنسان على مرّ الزّمان، أداء أمانة التّكليف وشكر نعمة التّشريف على هدى من الله.
ومن هنا كان تلقّي الهدى المنهاجي أساس الاستخلاف الرّباني، كما يستفاد ابتداء من قصّة بدء الخليقة، إذ زوّد سبحانه الإنسان بثلاث ملكات عليا، جسّدت بالتبع في أصل خلقته ثلاث قابليّات، يستطيع بموجبها عمران الأرض وحفظ صلاحها وهي:
(أ) ملكة العقل: وتجسّد قابليته للتّعلم بتحليل ما يلتقطه الحسّ من صور الجزئيّات وترتيبها وتركيبها، وهو مقتضى قوله سبحانه «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(1).
(ب) ملكة اللّغة: وتجسّد قابليته للتّعليم بالتّعبير عمّا في الضّمير بإحداث الموضوعات اللّغوية بقوّة النّطق(2)وهو مقتضى قوله سبحانه «فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ» (3).
(ج) ملكة التّدين: وتجسّد قابليته لتلقّي التّعاليم الرّبانيّة وقدرته على الامتثال لمفاداتها أمرا ونهيا، وهو مقتضى قوله سبحانه «فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ»(4) وقوله جلّ وعلا «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ..» (5).
ولعلّ هذا الأصل الخلقي الابتدائي العظيم هو المتضمّن في أوّل ما نزل على سيّدنا محمد  من الآي الخمس الأولى من سورة العلق، بل هو المركوز في مستهلّها «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»، ذلك أنّ القراءة بالمعنى التدبّري للآيات، والتّفكري في الموجودات، متى استعانت باسم الله، وصاحبت الفهم والملاحظة لجلال الله، اهتدت إلى تعلّم ما ينفع الإنسان من حقائق شقّه الطّيني، وأسرار شقّه الرّوحي بإذن الله؛ فهي بهذا المعنى وقود العمران العبادي في كلّ آن، ولذا كان التّركيز في الأمر بالقراءة على الفعل دون مفعوله، إذ المراد أن يصير العبد قارئا باسم الله في كلّ أحوال صلته بآلاء الله، فحذف المفعول من مقتضيات العموم كما هو معلوم عند أهل البلاغة والأصول.
 بين الرّشاد والتّيه
ولمّا كان الأمر على هذا النّحو في عهد خير القرون، كانت مناهج التّربية والتّعليم مستجيبة بشكل متوازن للحاجات الجوهريّة في الإنسان، بحيث غذت عقله بأرقى مراتب العلم أي العلم بالله والعلم بأمر الله، وروت قلبه بأحلى كؤوس الحبّ أي حب الله وحبّ ما يرضي الله، وهدت جسمه إلى تطلّب أنفع الطّعام والشّراب أي ما كان منهما حلالا طيّبا ممّا شرّع الله… حتّى إذا اختلّ بين الفينة والأخرى النّظام، واضطرب الميزان، عولج الاختلال بمواعظ الحكم وحكم المواعظ،، على نحو قوله عليه السلام «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس  مني»(6) وكذا قول سلمان لأبي الدرداء «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه»(7)... فحدث بهذا الاتزان في المنهاج التّربوي التفوّق العبادي المطلوب، بحيث كانت صلة أجيال الخيرية بالله  «طاعة طوعية ممزوجة بمحبّة قلبيّة أساسها معرفة يقينيّة مفضية إلى سعادة أبديّة.»
لكن خسران الميزان فيما بعد بدأ تطفيفا في التلقّي لآيات الذّكر الحكيم، وانفتاحا على ترجمات الغرب القديم، فصارت القراءة باسم الله مشوبة بالقراءة باسم عباد الله، في كنف مناهج قاصرة، ومفاهيم حائرة، لا يمسك فيها علم بعمل ولا خلق بعقيدة… وهكذا إلى أن رجحت كفّة اقتراض المنهاج التّربوي من الغرب الحديث، وهو يعلن طاغيا استغناءه عن الله، وتمرّده على الغيبيّات بإطلاق، وذلك بعدما فشا في الأمّة التّقليد والأوهام، وطفا على سطحها التّطرف والفصام، واستسلمت شخصيتها المنهجيّة والقيميّة إلى الرّكود والذوبان بدعوى الاندماج، فشطت  عمّا أنيط بها من أداء مهمّة الشّهود الحضاري على النّاس، وتصحيح مسار التّاريخ والجغرافيا من الأساس.
مظاهر التّدمير الكبرى لمناهجنا التّربوية
إنّ الحضارة العولميّة الحديثة، باتجاهها التّشييئي للكون والإنسان والحياة، أثّرت بشكل سلبي كبير على منظومة القيم، إلى حدّ أنّها شاقت غالب ما يرفع من مستوى آدميّة الإنسان ذات الصّبغة التّربوية المبنية على العلم بالله، وتجلّى ذلك -أكثر ما تجلّى- في ثلاثة أنواع من البرامج والمناهج:
 (أ) برامج الإعلام: إذ رغم تعدّدها وتنوّعها لم تحد غالبا عن فجورها وبجورها، ولم تفلح إلاّ في صناعة الشّخصية الفسيفسائيّة التي لا تميزها هويّة حضارية محدّدة، ولا كيان ثقافي خاص، وفق نسق قيمي ثابت، ذلك أن البعد البراجماتي المنفعي، ناهيك عن استراتيجيّات الفجور السّياسي والاجتماعي، حملها في الغالب على كسر الحواجز الأخلاقيّة المسمّاة عندها بالطّابوهات، ومن ثمّ تدمير نفسيّة العمران وفق قيم القرآن.
 (ب) برامج التّعليم: إذ الطّابع العلماني لمناهج التّعليم في الحضارة الحديثة قلب نظام التّعلّم رأسا على عقب، بحيث أعطى حكم الأصل للمعارف المادّية، وحكم التّبع للمعارف الإنسانيّة فالشّرعيّة، فشاق بذلك قصد التّكريم الذي يجعل المادّة خادمة للإنسان لاهو خادما لها «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا » (8) وبهذا سعى إلى تدمير عقلية العمران وفق قيم القرآن.
 (ج)  برامج البحث: إذ رغم ما فيها من منافع للنّاس، إلاّ أنّ إثمها أكبر من نفعها، لأجل ما تحمل في طياتها من هدم لمقومات وجود الإنسان، وتهديد لاستمرار سلامته وسعادته، كما في ظاهرة الاحتباس الحراري جرّاء الأبحاث الصناعيّة، وظاهرة الإشعاعات النّووية عقب الحروب وعند التّجارب، وما ينجم عن ذلك كلّه من إهلاك للحرث والنّسل، وربّما سعت هذه البرامج إلى طمس القيمة الفطريّة لقانون الخلفية المودع في أصل خلقة الإنسان حفظا لكرامته بطريق التّناسل الطّبيعي عبر الزّواج الشّرعي، وذلك كما في ثنايا بعض مباحث الاستنساخ.
من أجل ذلك دقّ الغيورون من مربّينا، كما دقّ أولو بقيّة من أهل الغرب، ممّن ينهون عن الفساد في الأرض، ناقوس الخطر، بصيحات تعالت هنا وهناك، اتّفقت في المحصلة على حقيقة واحدة مؤدّاها موت الغرب، وموت من يلهث خلف الغرب فيما سمي بعصر ما بعد الحداثة.
معالم في طريق الخلاص
إن الاندماج في المدنيّة الحديثة لا يعني بحال الانسلاخ عن القيم الثّقافيّة للذّات، إذ الأصل في الاندماج الحضاري أن يكون من غير ذوبان قيمي، بمعنى أن الانتفاع من نتاج الآخر المادي والمعنوي، ينبغي أن يخضع للنّسق الأخلاقي التّربوي، حفظا للعمران وأمنا للإنسان، وهو من قبيل خضوع الوسائل لمقاصدها، ومن ثمّ وجب النّظر في المآلات قَبْل الشّروع في توظيف الاقتباسات، كيما تخرج عن سننها الفطري ومقصدها العبادي، إذ الغرض الرّفع من مستوى الآدميّة بما صلح من وسائل الحضارة الحديثة ومنجزاتها، لا الإخلاد به إلى الأرض بما فسد من مناهجها ومباهجها.
وعموما فلعل ثمّة قضيتين كبريين هما من أهمّ خطوات التّفكير المنهجي الإسلامي لتجاوز الأزمة التّربوية المعاصرة، ويندرج تحت الثّانية منهما جملة مطالب:
(I) التفكير المنهجي في تلقّي جمالية الدّين: ذلك أنّ حقيقة العمران من منظور القرآن تنبني أساسا على فهم القرآن طبيعة ووظيفة، فإذا كان القرآن الكريم محض هدى «إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(9) وكان هدى القرآن محض حسن «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ...» (10) فإن تنزيل هذا الهدى الحسن  الأحسن على الإنسان قبل الجدران، والأرواح قبل الأشباح، إنّما هو حقيقة فعل العمران المنشود، بمعنى أنّ فقه قيم الدّين الجميل بطريق التّرتيل الإيماني، لابدّ وأن يصدر عنه تلقائيّا حفظ صلاح العمران وصون طمأنينته على سبيل التّشكيل التّربوي، وأيّ تخلّف لهذا الاطراد المتيسّر في حدّه الأدنى لكلّ عاقل، لابدّ من أن يعود على أصل جماليّة التّدين العمراني بالإبطال.
ومن هنا لابدّ من تعميم قيم الحسن القرآني المفضيّة إلى تشكيل الحسن العمراني…لابدّ من تأهيل برامج التّعليم لأجل صياغة عقليّة العمران بميزان القرآن…لابدّ من تأهيل برامج الإعلام لأجل تحصين نفسيّة العمران بميزان القرآن… بتعبير آخر لابدّ من صياغة العقل الرّاشد والخطاب القائد والتّدين الشّاهد، الذي يتحصّل به نماء العمران على المستوى الكمّي وطهارته وجماليته على المستوى الكيفي، حتّى يتحقّق المقصد العام من التّكليف، وهو التّزكية النّفسية والاجتماعيّة للأفراد والجماعات والمؤسّسات، بحيث يغمر المجتمع نماء نفساني بالإيمان وزيادة في الخيرات بالعمل الصّالح.
(II) التفكير المنهجي في ماضي الذّات وفي حاضر محيط الذّات إبصاراً للمستقبل الحضاري الرّاشد للذّات: وهو يقتضي -فيما يقتضي- ثلاثة أمور:
 أ- استيعاب تراث الذات: والغرض منه الوعي بخصوصيات المنهج الإسلامي عند السلف في حل مشكلات الفكر والتربية وتبديد أزمات الحضارة والقيم، ثمّ الاستئناس بها في تشخيص جديد لأدواء الواقع، وعلاج متجدّد لآفاته الحضاريّة والتربويّة، إذ «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» وصدق من قال «أول التجديد قتل الماضي بحثا»
 ب- التمكن من المعارف المعاصرة لمحيط الذات: والغرض منه الاستيعاب الاستصلاحي لا الاقتراضي لمعارف الآخر لأجل الاستفادة منها في حفظ صلاح العمران وتحسينه، ويمس ذلك جانبين اثنين:
  - الجانب الإنساني: إذ المعارف الإنسانية الغربيّة لا تنفك عن خلفيتها العقديّة وصيرورتها التّاريخيّة، لذا وجب استصلاحها - بالمفهوم الأصولي للاستصلاح -(11) وذلك بتمييز مناهجها ونقد نتائجها بما يوافق منظومتنا الفكريّة ومذهبيتنا الإسلاميّة.
- الجانب المادّي: إذ معارف الغرب المادّية أقلّ تأثّرا بهويّته الثّقافيّة، لكن محز المشكلة فيها منهج التّوظيف الذي ينبغي هو الآخر أن يخضع لعمليّة استصلاح تخدم الإنسان وتحفظ توازن العمران.
ج- سدّ النّقص الحاصل بالصّالح الصّادر قبل الوافد: إذ ما تعانيه الأمّة من فراغ في مختلف المجالات، وخصوصا في المجال الإنساني، وعلى الأخصّ في جانبه المنهجي نحو مناهج التّعليم والبحث العلمي، إنّما ينبغي سدّ النّقص فيه ابتداء بما هو أهل لذاك ممّا صدر عن الذّات من خلال التّراث، إذ هو الأوفق بالنّسق العقدي والكيان الثّقافي، حتى إذا عزّ ذلك اقتبسنا منفعته ممّا هو وافد على   الذّات، لكن بعد إجراء الاستصلاح.
أمّا ما يتعلّق بالوسائل المادّية، فلا ضير في سدّ الحاجة فيه بالاقتراض، وذلك بعد الاجتهاد في حسن التّوظيف وكفاية الأمّة مؤنتها الوسلية.
وبعد، فقد أتى على بلاد الإسلام، بعد جلاء جسد الاستعمار، حين من الدّهر لم تكن شيئا مذكورا، خصوصا وقد مرّ على غالبها زهاء أكثر من  نصف قرن، وهو يتخبّط بين أمواج الفساد والحيرة والضّعف، حتى كاد  الحال أن يصير -والعياذ بالله- أسوأ من حال من قال فيهم سبحانه «أربعين سنة يتيهون في الأرض»
ألا وإنّ تخريج الأجيال الصّالحة المُصلِحة رهين بإخراج مناهج التّعليم الصّالحة وفق منظومات القيم الصّالحة، ولا إخراج لإصلاح بغير خروج لصلاح «فهل إلى خروج من سبيل.»
الهوامش
(1)  سورة آل عمران - الآية 31
(2) ينظر تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور 1/410
(3)  سورة آل عمران - الآية 33
(4)  سورة الأعراف - الآية 19
(5)  سورة البقرة - الآية 37
(6) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح.
(7) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع.
(8)  سورة البقرة - الآية 29
(9)  سورة الإسراء - الآية 9
(10)  سورة الزمر - الآية 23
(11)  ينظر الفصل الثاني من «أبجديات البحث في العلوم الشرعية» للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله.