فواصل

بقلم
د.ناجي حجلاوي
المطالب العالية (2)
 (الفاصلة الثانية) 
ألحّ الوحي المتنزّل على العقل أنّ يباشره بالفهم والتّدبّر باعتبار جدوى التّركيز على ‏علاقة النصّ بقارئه. فهذا التّوجيه من الخالق لمخلوقاته ينمّ عن تقدير وإعلاء لقيمة العقل وتدعيما للثّقة به. وإذا كان الكلام الإلهي يتمتّع بقوّة قوليّة عالية، فإنّ المعوّل حينئذ ما سيثبته الجهد ‏البشري. لقد اجتهد الأوائل في فهم النصّ بالأدوات المتاحة إليهم، فأنتجوا معارف وأدوات توسّلوا ‏بها لتذليل المصاعب الأسلوبيّة والمعنويّة وسمّوا هذه المعارف بعلوم القرآن وهذه العلوم تتمثل ‏في المحكم والمتشابه والخاصّ والعامّ والنّاسخ والمنسوخ وأسباب النزول والاشباه والنّظائر ‏الى غير ذلك من الفروع والتّشعّبات. 
هذه العلوم من إنتاج العقول البشريّة لا تستحيل بحال من ‏الأحوال الى نصوص مقدّسة، لأنّها نصوص ثوان أوّلا ولأنّها بشريّة ثانيا. إلاّ أنّ الأجيال اللاّحقة ‏تعاملت معها وكأنّها علوم ثابتة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.  وعلى هذه الشّاكلة ‏تساوت آيات الفرائض مع علم الفرائض على سبيل المثال أو آيات النّسخ مع علم النّاسخ والمنسوخ وقس على ذلك بقيّة الفروع.‏
‏إنّ هذا التصوّر ينّم عن فكر مفاده أنّ الحقائق العلميّة قد بلغت منتهاها وحقّقت مبلغها ولا ‏فائدة في الخروج عنها لأنّ ذلك يُعدّ جناية. إنّ المتأمّل في المدوّنة التّراثيّة على شساعتها و‏تنوّعها يلحظ أنّها أنجزت في ضوء علاقة النّص المقدّس بصاحبه تعالى وهو أمر مخالف ‏لتعليماته وتوجيهاته، لذلك تمّ البحث عن المعنى الذي يريده الله ومقصده ومراده ولعلّ الطّبري ‏أوضح القائلين « عنى الله بهذه الآية أو بقوله كذا».
وتبعا لهذه المقاصد التي أرادها الله تحوّل ‏مركزُ الوعي الدّيني من النّص الأساسي «قال الله» إلى مرويّات عديدة بدءا من «قال الرّسول» الى «‏قال الصّحابة» ثمّ التّابعي وتابع التّابعي ثمّ العالم ثمّ الفقيه وهذا التّسلسل هو الذي خوّل للمتأخّرين ‏أن يروا أنفسهم موقّعين عن ربّ العالمين، ويمكن العودة في هذا الإطار الى «ابن قيّم الجوزيّة» في ‏كتابه أعلام الموقّعين عن ربّ العالمين.
وهكذا، فإنّ الحقيقة الدّينية قد غابت وتلاشت في ظلّ ‏الأفهام التي تعلّقت بالوحي حتّى صرت تسمع في الخطب والمواعظ كلّ شيء إلاّ ذكر الآيات ‏الكريمة. علما بأنّ هذه المرويّات قد تحوّلت إلى حجاب يحول دون فهم الكتاب. ويمكن الإشارة ‏في هذا الصّدد إلى الخلط الذي وقع فيه «الشّافعي» بين فعل نطق وفعل قال وهو يفسّر في رسالته ‏الآية الكريمة «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ»(سورة النجم - الآية 3). وإذا كان القول يعني الفكرة و‏الرأي شكلا ومضمونا، فإن النّطق مجرد عمليّة عضويّة لا تزيد عن التّصويت الموضوعي. 
‏وورث المتأخّرون هذا الخلط وصار لدى الأمّة الإسلاميّة وحيان بعد أن كان وحيا واحدا قبل ‏الشّافعي. وغرقت بذلك الثّقافة في بحار من المرويّات.  
‏(الفاصلة الثالثة) 
سلفت الإشارة إلى‎ ‎أنّ العقل المسلم لمّا واءم بين الزّمن الثّقافي والزّمن المعيش ورأب ‏الصّدع بين الوعي والواقع تمكّن من استنباط أدوات ومفاتيح بها باشر النّصّ القرآني تفسيرا ‏وتأويلا، إلّا أن طبيعة الثّقافة الشّفوية سمحت للمحدّثين والقصّاصين والرّواة والوضّاعين أن ‏يحيكوا قصصا ومروياتٍ لبّست الحقّ بالباطل وأزالت الحدّ بين العلم والوهم.‏
‏ ففي أسباب النّزول على سبيل المثال باعتبارها علما أبدعه العقل البشري لتنزيل ‏الوحي وفق مُجريات الواقع، نجد ضمنه السّبب الواحد يكمن وراء أكثر من آية. والعكس أيضا ‏متوفّر إذ الآية الواحدة لها أكثر من سبب في النّزول. ويجد الدّارس المتفحصّ أن المدونين ‏للثّقافة العربيّة الإسلاميّة منذ زمن مبكّر على عهد الدّولة العباسيّة الأوّل قد تلاعبوا بالأسباب ‏كما شاؤوا وأرادوا، إمّا لتحقيق مآرب شخصيّة ماديّة كانت أو معنويّة، وإمّا  تبريرا لوضع ‏سياسي قائم.
وبغضّ النّظر عن الأدلّة الدّامغة في هذا المجال نشير إلى أنّ النّتيجة واحدة وهي التّحكّم ‏في إنتاج المعاني المستفادة من الخطاب القرآني وتوجيهها حسب الرّغبات الفرديّة والاثنية ‏والمذهبيّة، ولذلك تجدر الإشارة إلى رأي أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النّيسابوري وهو ‏من أوائل من كتب في هذا العلم المتمثّل في قوله: «أخبرنا أبو مسلم  قال: حدثنا  عبد الرّحمان ‏بن حماد قال: حدثنا أبو عمير عن محمّد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: ‏اتّق الله وقل سدادًا، ذهب الّذين يعلمون فيما أنزل القرآن وأمّا اليوم فكلّ أحد يخترع شيئا ‏ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زماه إلى الجهالة، غير مفكّر في الوعيد للجاهل بسبب الآية وذلك ‏الذّي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب».(1)  ‏ 
بالإضافة إلى أن الايغال في التّركيز على مقولة الأسباب تجعل الآيات مرتهنة لزمن ‏التّنزيل، ممّا جعل أهل النّظر والتّأصيل يلجؤون إلى القائلة: إنّ العبرة بعموم اللّفظ لا ‏بخصوص السّبب. وهو مخرج يؤكّد المأزق الذّي شعر به القائمون على الشّأن الدّيني وهم ‏يتأرجحون بين الخاصّ والعام في غفلة عن كون الأسباب في أغلبها مناسبات للقول القرآني لا ‏أكثر ولمّا كان الله تعالى حيّا والقرآن حيّا والمتلقّي حيّا وهو العقل المسلم فلا موجب لهذه ‏الأسباب لأنّها ليست المدخل الوحيد المناسب لإثارة الدّلالة وإنتاج الفهم. ‏
وأمّا أداة «المحكم والمتشابه» فإنّ القناعة الرّاسخة عند المسلمين هي أنّ الحلال بيّن ‏وأن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات. وعلى مرّ كلّ هذه العصور لم يستطع أحد تحديد هذه ‏المشتبهات وكذلك الأمر سَجّل المسلمون عجزا كبيرا في ضبط الآيات المحكمات والآيات ‏المفصّلات.  لقد ذهب فريق إلى اعتبار القرآن كلّه محكم وذهب آخرون إلى كونه متشابها ‏وانتبه البعض إلى أن آيات أخرى لا هي بالمحكم ولا هي بالمتشابه ولا نجد تحديدا لأيّ نوع ‏من هذه الأنواع من حيث الضّبط والعدد. وهو أمر يدعو إلى الغرابة إذ تقلّصت جهود ‏المسلمين وضعفت في تدبّر كلام الله الذّي دعا إلى هذا العمل مرارا وتكرارا. وإذا استثنينا ‏بعض الجهود المعاصرة فإنّنا نجد الضّمير الدّيني الجمعي يعيش على ما ورد في التّفسير ‏الكبير «مفاتيح الغيب» ما نصّه: «واعلم أنّك لا ترى طائفة في الدّنيا إلاّ وتسمّي الآيات المطابقة ‏لمذهبهم محكمة والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة.»‏ (2) 
وإذ نؤكّد في ختام هذه الفاصلة أنّ كلام الله كلّما تقدّم في الزّمن إلاّ وزادت صدقيّته ‏وتحقّقت شروط مصداقيّته، وعلى العكس من ذلك فإنّ ما حفّت به من علوم كلّما تقدّم بها ‏الزّمن إلاّ وازدادت ضعفا وتهافتا وسيتّضح الأمر أكثر عندما نشير في الحلقة المقبلة إلى ‏مسألة النّسخ.‏              ..... وللحديث بقيّة‏
الهوامش
(1) ‏ الواحدي « أسباب النّزول منشورات دار ومكتبة الهلال بيروت سنة 1991  «ص9» ‏
(2) ‎ ‎فخر الدّين الرّازي مفاتيح الغيب، مج 4 ج 7  دار الفكر، بيروت، سنة 1985 ص188‏