قبل الوداع
بقلم |
لطفي الدهواثي |
أحاديث رمضانيّة |
(1)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى وبيّنات للنّاس، وهو شهر العبادة والسّمو بالنّفس والرّوح، وهو الشّهر الذي يصفّد فيه الله الشّياطين فلا يبقى للمرء من عدوّ إلاّ نفسه. وشهر رمضان شهر البركة والرّحمة والعبادة، فهو بهذا كله عند الله أفضل الشّهور.
(2)
ينتظر النّاس الشّهر الكريم بشوق لا يضاهيه إلاّ انتظار من تاق إلى الحجّ أن ييسّر له الله زيارة البيت المعمور، ولا يخفى على أحد مقدار محبّة المسلمين لشهر رمضان وشوقهم إليه و حفاوة استقبالهم له ويسر ما يبذلونه فى سبيل إقامة شعائره، وإذ يقبل النّاس على صيام الشّهر الكريم آملين مغفرة من الله وعتقا من النّار فإنّما يفعلون ذلك تعظيما للشّهر وإذعانا لأمر الله الذي جعل الّصوم له وهو يجزي به.
(3)
لم تجعل العرب ولا الإسلام شهر رمضان ضمن الأشهر الحرم، ولكن الدّين الحنيف رفع من شأنه وجعله أفضل الشّهور وخصّه بالقرآن نزولا وتعظيما، وإذا كانت العرب قد جعلت من الأشهر الحرم شهورا يوضع فيها القتال إلاّ ردّا للعدوان فإنّ الإسلام قد أمر النّاس بكف الأذى كلّه في الشّهر الفضيل مهما صغر، وأمر فيه بالبرّ كلّه وجعله شهر الفضائل من صدقة وكرم وتواضع وبرّ ورحمة وتوادد كما أعلى فيه من شأن القيم الإنسانيّة ليكون شهر الأمّة والجماعة فيه تجدّد طاقتها وفيه تعيد النّظر فى شأن الدّعوة المحمديّة، وهو شهر لا يخصّ فئة بعينها ولا مكانا بعينه وإنّما هو شهر الأمّة كلّها فى علاقة متجدّدة مع القرآن والنّبوة .
(4)
لا يحتفل النّاس بالشّهر الكريم ويعظمونه إلاّ يقينا منهم أنّه شهر الله، ولكنّهم يعظّمونه أفرادا كلّ فرد منهم يبحث فيه عن خلاصه، وما الخلاص إلاّ عتق من النّار كما ورد في الحديث الشّريف. وإذا كان الله تعالي قد اختار شهر رمضان لينزل فيه القرآن على النّبي هدي وبينات للنّاس جميعا ثمّ خصّه بالصّوم وجعل الصّوم عبادة جماعيّة ينضبط لها النّاس جميعا، فليس ذلك إلاّ تبيانا لكون المراد ليس النّجاة بالنّفس فحسب وإنّما نجاة الجماعة والأمّة، فأين نحن من هذه النّجاة؟
لا يختلف إثنان في شأن الأمّة وحالها، فنحن المسلمون لم نعد جماعة ولم يعد يهابنا أحد، بل نحن غثاء كغثاء السّيل يضرب بعضه بعضا.
(5)
لقد خصّ الله هذه الأمّة بثروات هائلة وزادها بسطة فى العدد حتّى فاقت المليار ولكن حالها يزداد تخلّفا وبؤسا من عام إلى آخر، وإذا كان قدر الأمم الصّعود والنّزول سنّة من سنن الله، فإنّ بقاء أمّتنا على حال من الخمول والاستكانة والهوان قد طال أكثر ممّا ينبغي لأمّة شرّفها الله بنبيّ عظيم وكتاب فيه تبيان لكلّ شيء.
لا يأتي عام جديد حتّى نرى مظهرا جديدا من مظاهر الهوان، فهاهي الحرب تطرق أبوابها من جديد في ليبيا بعد تدمير سوريا واليمن والعراق، وهاهي المجاعة تحيق بالملايين من سكّان اليمن ونازحي سوريا رغم ما يتوفّر لجيرانهم من مظاهر البذخ والإسراف فى المأكل والمشرب وكأن لا رابط بينهم. ولا يقتصر الأمر على البلاد التي ذاقت ويلات الحروب بل إنّ الفقر وشضف العيش والغلاء سمة من سمات بلاد المسلمين رغم ما تملكه هذه البلاد من ثروات هائلة يستولي عليها أعداؤها بقوّة السّلاح أو بقوّة العزيمة ولا يأخذ منها أصحابها إلاّ الفتات الذي يذهب معظمه لفئة مستبدّة دون غيرها من الفئات.
(6)
لا يبكي المسلمون على حالهم من شضف العيش والفقر والهوان فقط ولا من طول عهود الاستبداد والتخلف وإنّما تتملكهم الخشية على مصيرهم وهم يرون بلادهم يقضمها الأعداء جزءا إثر جزء من غير حول منهم ولا قوة. ولا يخفي على أحد ما ينشر بين حين وآخر من خرائط عن مستقبل المنطقة العربية والاسلامية وما ينوي أعداؤها من تخطيط لتقسيمها على أسس دينية وقبلية وعرقية وإثارة للعداوة في ما بينها بحيث يستحيل نهوضها من جديد.
ولعل المفارقة أنّنا لا نلقي بالا لكلّ هذا وإذا اعتصمنا بالدّين كما هو المراد كان ذلك سببا آخر من أسباب الانقسام بين سنّة وشيعة وإسلاميين وغيرهم وبين فصيل إسلامي وآخر وهكذا، ولا يحسم الخلاف ويا للأسف إلا بالإقتتال وموالاة الأعداء و غير ذلك ممّا نهانا الإسلام عنه.
(7)
يقبل علينا رمضان كما أقبل من قبل وسنعظّمه ونصومه ونتلو فيه القرآن وربّما أقمنا بعض لياليه أو كلّها، ولسوف يشهد منّا هذا الشّهر من شهد وهو يأمل أن ينال بركته وأن يؤتيه الله أجره كاملا غير منقوص على ما صام وقام واحتسب. وإذ يكون هذا حالنا في شهر الله فإنّ من المحزن أن لا يتغيّر هذا الحال عاما بعد آخر وأن تزداد أوجاعنا وخشيتنا من أعدائنا وضعفنا وهواننا، وإنّه لمن المحزن أيضا أن يعمّ بلادنا الفقر والغلاء وأن يكون شهر رمضان شهر التّرف والشّهوات عند قلّة و شهر مكابدة وعناء إضافي عند كثرة لم يترك لها الغلاء وقلّة ذات اليد بدّا من المعاناة.
لقد كتبنا من قبل عن رمضان آملين أن يتغيّر الحال ويستقيم عود الأمّة وأن يعود لها المجد التّليد ولكن لا شيء من ذلك تحقّق ولكننا لن نفقد الأمل مدركين أنّ عودة الأمّة إلى عزّها منوط بإرادة الشّباب وعزمهم، ومتيقنين أنّ دوام الحال من المحال.
|