أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ ‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة الخامسة : الغفور
 ورد هذا الإسم «الغفور» بنسبة عالية جدّا مقرونا بإسم «الرّحيم» وذلك في أزيد من سبعين موضعا في الكتاب العزيز. وبذلك يحتل إحدى أكبر المراتب التي مرّت بنا من مثل العليم والحكيم. الغفور من فعل غفر أي أزال ووارى وغطّى ونسخ وغير ذلك ممّا يفيد الإتيان على شيء بالإبادة. غفر مثل كفر فهما من جذر واحد يشتركان فيه بنسبة الثّلث وبذلك يكون أصحّ معنى لفعل الغفر هو الكفر أي السّتر والتّغطية. يكفر الكافر عندما يستر ذلك الصّوت العميق العريق الذي يناديه أن آمن فإنّي مجبول على ذلك فطرة لقوله سبحانه  «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا»(1). حتّى إنّ الكفار الوارد ذكرهم في قوله سبحانه «أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ»(2) يمكن أن يكونوا الزّرّاع الذين يوارون البذر في التّراب. بمثل ذلك يكون الغفر الذي هو المصدر الطّبيعي الأول من فعل غفر يغفر غفرا أي ستر سترا. الغافر يعمل ذات عمل الكافر إذ هو يستر شيئا أو يواريه كما يمرّ بنا بحوله سبحانه.
إسم ورد بكلّ الصّيغ
أعلمنا سبحانه أنّه غافر «غافر الذّنب» في سورة غافر المكّية كما أعلمنا أنّه غفّار بصيغة المبالغة على وزن فعّال «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ» (3) كما أعلمنا أنّه غفور كما سيأتي في بعض الأمثلة وبذلك ورد إسم المغفرة بالصّيغ كلّها : المجرّدة أي إسم فاعل «غافر» وورد بصيغ المبالغة الممكنة كلّها أي «غفّار وغفور» ولا تقول العرب غفير طبعا في هذا المعنى ولا يليق بالمغفرة أن تكسر ولا يحسن بها وبصاحبها إلاّ أن يكون فاعلا أو فعّالا أو فعولا إذ أنّ ذلك أدنى إلى لسان يرسل معانيه صوتا لا صورة ولا حرفا إذ أنّ العرب أمّة أمّية، وبذلك إعتمد لسانها على الأصوات وكانت الأصوات بمخارجها وصفاتها هي التي تحدّد المعنى عدا أنّ النّاس اليوم بسبب إكتظاظ الكتابة وإزدحام الصّورة سلبوا نعمة العلم بالصّوت وهم في حاجة إلى حدس لم يعدمه الشّاعر العربي الشّهير «بشار إبن برد» إذ قال يعمّي عن عماه «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» وحريّ بنا أن نقول اليوم أنّ الصوت يرسم المعنى ويرسخه قبل حركة القلم، بل إنّ ذلك أدعى إلى حسن الفهم ودقّه الفقه. ألا ترى أنّ النّاس اليوم عادوا إلى حركة الجسم؟ أليست حركة الجسم صوتا ساكنا؟ بمثل ذلك كان العرب يتكلّمون ويتحدّثون وتنشأ بينهم المحبّات والعداوات حيث لا قلم ولا قرطاس.
إسم ورد مستقلا ومضافا ومركبا
أنف الذّكر أنّ أكثر ورود إسم «الغفور» مقرونا بصفة الرّحمة ولكنّه ورد مقرونا في مواضع قليلة جدّا بأسماء أخرى من مثل الحلم «غفور حليم» ويتقدّم الحلم أحيانا «حليم غفور» ومن مثل العفو «عفو غفور» ومن مثل العزّة وهذا أندر «العزيز الغفّار» ومن مثل الشّكر «الغفور الشّكور» ومن مثل الودّ «غفور ودود» وكلّها عدا صفة العزّة مناسبة لمعنى الرّحمة أي أنّها وإياها في عائلة دلاليّة واحدة وإنّما ورد هذا الإسم مقرونا في مواضع قليلة جدّا بالعزّة لبيان أنّ هذا الغفور لا يعجزه أن يغفر فهو بعزّته وقوّته ولطفه يغفر كلّ الذنوب ولكلّ أحد فلا يتوهّمن أحد أنّه غفور بلا عزّة إذ أن إرتباط العزّة بالمغفرة يعني أنّ مغفرته عن فضل ورحمة وليست عن ضعف. كما ورد هذا الإسم مستقلاّ أي بدون إقتران بأي إسم آخر وهو نادر جدّا كذلك. وورد بصيغ الإضافة من مثل «أهل المغفرة» ومن مثل «خير الغافرين» ومن مثل «الغفور ذو الرحمة» ومن مثل «واسع المغفرة». 
كل ذلك لنعلم يقينا أنّ مغفرته سبحانه بمثل توسّع إستخداماتها لا حدود لها فلا ييأسن من فضله إنسان ولا يقنطنّ من عفوه جانّ. ذلك هو المعنى المقصود من إزدواجيّة الإستخدام مستقلاّ ومقرونا وبصيغة التّجريد والمبالغة في كلّ إمكاناتها في اللّسان العربيّ ومضافا فهو لها أهل ومغفرته واسعة لا تحدّ وأنّه هو سبحانه خير الغافرين أن يقارن سبحانه بخلقه أو بنبيّ من أنبيائه أو بكريم من النّاس.
غفور سبحانه إسما وفعلا
تواضعنا منذ بداية هذه الحلقات على أمرين : أولهما ألاّ نولّد من الفعل إسما سيّما إذا كان التّوليد لا ينزّه الله سبحانه بل ربّما نظلم به أنفسنا من مثل أنّه «ضارّ» إشتقاقا من فعل الضرّ الوارد في القرآن الكريم ورأينا أنّ عدّ أسمائه من بعض العلماء «التّرمذي مثلا» هو عمل إجتهادي يؤجّرون عليه ولكن لم يرد ذلك العدّ من عنده عليه الصّلاة والسلاّم. الأمر الثاني الذي تواضعنا عليه هو أن ندع الأفعال الواردة في القرآن الكريم أي أفعال الله سبحانه لأنّها تتأبّى عن العدّ تأبيا مطلقا وهو موضع تحدّ لمن يريد أن يجابه التّحدي. أجل. أفعال الله وليس أسماؤه تتأبّى عن العدّ ولو عدّدنا فعل المغفرة لإحتجنا إلى أسفار تتلوها أسفار. ولكن بيّن لنا سبحانه أنّه يفعل المغفرة في مواضع لا تحصى منها أنّه «يغفر الذّنوب جميعا» وغير ذلك ممّا لا يحصى. وبذلك جمع إليه سبحانه المغفرة فعلا وإسما معا والمقصود دوما هو نبذ خلق اليأس ووأد رذيلة القنوط منه مطلقا من الصّدور إذ لا يستقيم إيمان مع قنوط ولا عمل صالح مع يأس.
المغفرة إسم للتمثل من لدن الإنسان
قال سبحانه «قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ»(4) ولم ينسب فعل المغفرة في القرآن للإنسان عدا في هذا الموضع ولكنّه كاف وزيادة للدّلالة على أنّ صفة المغفرة مباحة للتّمثل من لدن الإنسان بل إنّ القرآن مضى إلى أكثر من ذلك عندما رهن مغفرة الله بمغفرة الإنسان وذلك في سورة النّور التي تضمّنت حديث الإفك المعروف إذ ورد فيها قوله سبحانه «وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»(5) وهي نازلة قطعا في أبي بكر الذي عزم على عدم مواصلة الإنفاق على قريبه «مسطح» من بعد تورّطه في حديث الإفك. العبرة بعموم اللّفظ قطعا وليس بخصوص السّبب والمعنى هو أنّ الله وضع لنا قانونا للمغفرة عنوانه أنّ من يغفر للنّاس يغفر الله له وذلك في قوله «أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ؟» وكما أنف فالمؤمن مأمور بالمغفرة لغير المؤمن حتى تنفذ رسالة الإيمان في النّاس ويكون الإنتصار للحقّ وليس للنّفس ولقد سجّل النّبي عليه الصّلاة والسّلام من هذا جبالا أوّابة حتّى أيقن النّاس أنّه نبيّ مرسل وأنّه رحمة للعالمين ولو كان يعامل بالعدل وليس بالفضل لأنفضّ النّاس من حوله. ذلك درس لا يندرس سيما عند تعرض الرّسالة الإسلاميّة إلى الهجوم والإسلاموفوبيّا والكذب والبهتان، فإن إحدى أمضى الأسلحة إنّما هي المغفرة وقليل منّا فاعل ذلك ولنا فيه تمحلات عجيبة. الله يريد أن يعلّمنا أنّ الإسلام ينداح بأشياء منها المغفرة للنّاس وليس بالفكرة فحسب إذ أن فكرة الإسلام ليست بدعا على النّاس إذ هي فطريّة جبليّة غريزيّة وأدلّ دليل على ذلك أنّ الإسلام اليوم يشترك مع النّاس كلّهم في القيم الإنسانيّة العظمى من مثل التّحرّر والعدالة والكرامة، ولكنّ الأيام بمغفرة المسلمين تثبت من ينافق بتلك القيم ويشتري بها الدنيا ومن يحملها عقيدة معقودة.
لم سبقت المغفرة الرحمة
أنف ذكره أنّ المغفرة سبقت الرّحمة بصفة لا تضاهى في الكتاب العزيز كما سبقت الحلم في مواضع والشّكر في مواضع أخرى ولا يشغب على ذلك أنّها مسبوقة في أحيان لا تكاد تذكر لندرتها بصفات العفو والعزّة والحلم والسرّ في ذلك ـ أي إستباق المغفرة للرّحمة ـ هو أنّ المغفرة محو ونسخ وإذهاب وتورية وتعمية وإزالة، فلا بدّ أن يكون ذلك أوّلا، فإذا تحقّق تتنزّل الرّحمة على إنسان برّأه الله سبحانه من سوءاته السّالفة. إذ لا تكون رحمة حتّى تكون مغفرة. تركيب عجيب في هذا الكتاب العزيز ولو سبقت الرّحمة المغفرة بإطراد ولا عبرة بالإستثناءات النّادرة التي تخدم سياقاتها لإنتبه العرب الأقحاح لذلك وكان ذلك عيبا في كتاب تحدّاهم في أوّل مصافحة منه بقوله «ذلك الكتاب لا ريب فيه» (6). ومن الرّيب إستباق الرّحمة للمغفرة فلا بدّ أن يطهّر الله عبده بالمغفرة إزالة للسّوء ثمّ يكون محلاّ لرحمته وأهلا لحلمه سبحانه. والمعنى الآخر الملازم هو أنّ الله يشعرنا أنّنا نحتاج إلى مغفرته أوّلا بسبب كثرة الذّنوب فلا يذهبن في خلد أحدنا أنّ سيئاته قليلة أو أنّها هيّنة يمكن ألاّ تحتاج لمغفرة بل إلى رحمة مباشرة. ذلك هو شعور العجب والخيلاء الذي يبغضه الله سبحانه
حوصلة لبركات هذا الإسم
أوّلا : تأكيد لرحمة الله سبحانه فلا يقنطنّ قانط ولا ييأسنّ يائس مهما عظمت سيئاته وإنداحت.
ثانيا : ورد بكلّ صيغ المبالغة ومقرونا بالرّحمة في الأعمّ الأغلب خدمة للمعنى ذاته، فلا يعسرنّ على مطوح العودة أو الأوبة مهما بعد وتاه إذ أنّه لاق مغفرة الله سبحانه في إنتظاره كأنّه لم يفعل سوءا يوما
ثالثا : لا بدّ من مغفرة أوّلا ورحمة ثانيا حتّى يعلم الإنسان أنّه هو المذنب المسيء الذي يحتاج إلى رحمة الله سبحانه ولا بدّ له من غفران أوّلا وذلك هو قارب العبوديّة الموصل إلى شطآن الأمان
رابعا : هذا الإسم ككلّ الأسماء تقريبا موضوع للإنسان للتّمثل، فالله هو الرّحمان الذي لا يبلغ رحمته بالغ وهو المتكبّر الذي يليق به التّكبر ولا يليق بأحد سواه ولكنّه هو الغفور الذي علينا تمثّل مغفرته، فنغفر للمسيء فيغفر الله لنا. وهو إسم يحمل قانونا، فمن يرد الله أن يغفر له ما عليه إلاّ أن يغفر للنّاس.
الهوامش
(1) سورة الأعراف - الآية 172
(2) سورة الحديد - الآية 20
(3) سورة طه - الآية 82
(4) سورة الجاثية - الآية 14
(5) سورة النور - الآية 22
(6) سورة البقرة - الآية 2