الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
دحو الأرض(1/3)‏
 في المقالين الصّادرين بالعددين 140 و141 من المجلة بيّنا على التّوالي أنّ في القرآن دعوة للنّظر في الكيفيّة التي اكتسبت بها ‏الأرض سطحها وأنّ المدّ هو آليّة من الآليّات التي يشير اليها القرآن، حسب فهمنا بالطّبع، كعنصر من عناصر الإجابة على ‏التّساؤل المتعلّق بالكيفيّة التي تشكّل بها هذا السّطح.  نواصل في هذا الجزء الأول من مقال بثلاثة أجزاء عنوانه «دحو الأرض» ‏تدبّر الآية 30 من سورة النّازعات والمتعلّقة بدحو الأرض في نفس السّياق الذي تناولنا فيه آيات المدّ وآية التّسطيح، أي اعتبار ‏الأرض المعنيّة بالدّحو هي القشرة الأرضيّة نفسها وليس كوكب الأرض، لنبيّن أنّ الدّحو هو أيضا آليّة مورست على سطح تلك ‏القشرة لتعطيها الحالة التي هي عليها الآن. وبما أنّ في الآية إشارة الى ما قبل الدّحو، كان لا بدّ من تدبّرها على أنّها تشير الى ‏ظاهرة متكاملة أي أنّ ذكر الما قبل لا بدّ وأن يكون بعلاقة بالدّحو. وهذه الآيات التي تأتي في سياقها آية الدّحو : « أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ ‏السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا‎ (28) ‎وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‎ (29) ‎وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا‎ (30) ‎أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ‏وَمَرْعَاهَا‎ (31) ‎وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا‎ (32) ‎مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‎ (33) ‎‏» (سورة النازعات). 
تخبر الآية أنّ الأرض دحيت بعد بناء السّماء ‏برفع سمكها وتسويتها وبعد إغطاش ليلها وإخراج ضحاها. فما هي السّماء التي تشير اليها الآية؟ وما علاقتها بالدّحو؟ في الجزء ‏الأول والثّاني سنتناول بالبحث السّماء التي تشير اليها الآية بالتدبّر وهو ما يمكّننا من وضع الدّحو في سياقه القرآني لفهم كنهه في ‏الجزء الثّالث إن شاء الله.‏
(1) السماء
تعتبر أوّل كلمة مفتاح في الآيات 27 و28 و29 هي السّماء. فما هي تلك السّماء؟ ولكن قبل محاولة الإجابة على السّؤال تبقى دائما ‏اللّغة هي سيّد الموقف، واستجلاء معنى السّماء فيها من أوكد ضرورات المنهج في التّعامل مع القرآن الكريم. لقد ورد لفظ السّماء في ‏القرآن الكريم 120 مرة (1). وفي هذا العدد الكبير من الآيات لا يمكن أن يكون لهذا اللّفظ نفس المعنى، اذ تشير الآيات الى ‏مواضيع متنوّعة وتأتي في سياقات مختلفة. فلا بدّ إذا من أخذ ذلك بعين الاعتبار والحذر في التّعامل معه. فما هو معنى «سماء» في ‏اللّسان العربي؟ ‏
إنّ المتتبّع للمعاجم العربيّة يجد دلالات متعدّدة للجذر (س م و) الذي يشتق منه لفظ السّماء. ويمكن أن نوجز أهمّ ما وجدنا في ‏أمّهات المعاجم كما يلي: «كلمة السّماء مشتقة من الجذر: سمو على الوزن: فَعَال»(2). و«سما الشّيء يَسْمُو سُمُوًّا، أي: ارتفع، ‏والسّماء: سقف كلِّ شيء، وكلّ بيت‎.‎‏ والسّماء: المطر الجائد (اسم فاعل من جادَ. جَادَتِ السَّمَاءُ بَعْدَ جَفَافٍ: أَمْطَرَتْ بِغَزَارَةٍ. من ‏معجم المعاني)، يقال: أصابتهم سماءٌ»(3). وسمي السماء مطرا « لنزوله من السحاب»(4). ونجد في مقاييس اللّغة لابن فارس ما ‏يلي: « السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ‎.‎‏ يُقَالُ سَمَوْتُ، إِذَا عَلَوْتَ، حَتَّى يُقَالَ لِظَهْرِ الْفَرَسِ سَمَاءٌ‎.‎‏ وَيَتَّسِعُونَ حَتَّى يُسَمُّوا ‏النَّبَاتَ سَمَاءً‎.‎‏ قَالَ‎:‎‏ إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ *** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا وَيَقُولُونَ: مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، يُرِيدُونَ الْكَلَأَ ‏وَالْمَطَرَ» (5) وسمي «الكلأ: سماءً لكونه من المطر» (6)‎.‎‏
ورغم ما يظهر من تعدّد للمعنى الذي يتّخذه لفظ السّماء مثل السّقف والمطر وظهر الفرس والنّبات والكلأ الاّ أنّه يمكن استقراء ‏المعنى الأصلي للجذر (س م و)، والذي توسّع في استعماله، وذلك ما قام به ابن فارس حيث قال «َكُلُّ عَالٍ مُطِلٍّ سَمَاءٌ». فالسّماء ‏لفظ يحيل الى الأعلى في مقابل الأسفل أي الأرض وهي مقابلة قال عنها ابن فارس في مقاييس اللّغة في عرضه لمادّة (أرض) ما ‏يلي: « (الأرض) الهمزة والرّاء والضّاد، أصل يتفرّع وتكثر مسائله، وأصلان لا ينقاسان بل كلّ واحد موضوع حيث وضعته ‏العرب. فرجل مأروض، أي مزكوم وبفلان أرض، أي رعدة. وأمّا الأصل الأول فكلّ شيء يسفل ويقابل السّماء» (7). ‏
نخرج من هذا العرض بأنّ المعنى الأصلي للفظ السّماء يفيد العلوّ والارتفاع مهما وقع التّوسع في استعماله. وبما أنّ القرآن نزل ‏بلسان العرب، فإنّ لفظ السّماء فيه لا يمكن أن يخرج عن معنى العلوّ والارتفاع مهما كان الوجه المقصود من الكلمة في الآية. فعن ‏أيّ سماء تتكلمّ الآية إذا؟ 
قبل عرضنا لما نعتقد أنّه إجابة محتملة سنعرض بإيجاز شديد ما قيل في التّفاسير القديمة عن الآيات 27 ‏و28 و29.‏
(2) التفاسير
‏ يقول الطبري في شأن تلك الآيات «وعُني بقوله: {بَناها}: رَفَعها، فجعلها للأرض سقفاً. وقوله: {رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها} يقول تعالى ‏ذكره: فسوّى السّماء، فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ولكن جميعها مستوي الارتفاع والامتداد... وقوله ‏‏{وأغْطَشَ لَيْلَها} يقول تعالى ذكره وأظلم ليل السّماء، فأضاف اللّيل إلى السّماء، لأنّ اللّيل غروب الشّمس، وغروبها وطلوعها فيها، ‏فأضيف إليها لَمَّا كان فيها، كما قيل نجوم اللّيل، إذ كان فيه الطّلوع والغروب. وقوله {وأخْرَجَ ضُحاها} يقول وأخرج ضياءها، يعني ‏أبرز نهارها فأظهره، ونوّر ضحاه»(8). ونقتبس من تفسير الزمخشري ما يلي:«الخطاب لمنكري البعث، يعني {أَءَنتُمْ} أصعب ‏‏{خَلْقاً} وإنشاء {أَمِ ٱلسَّمَآءُ} ثم بين كيف خلقها فقال {بَنَـٰهَا} ثم بين البناء فقال {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي جعل مقدار ذهابها في سمت العلو ‏مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فَسَوَّاهَا} فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور. أو فتمّمها بما علم أنّها تتمّ به ‏وأصلحها، من قولك سوّى فلان أمر فلان. غطش اللّيل وأغطشه الله، كقولك ظلم وأظلمه. ويقال أيضاً أغطش اللّيل، كما يقال أظلم ‏‏{وَأَخْرَجَ ضُحَـٰهَا} وأبرز ضوء شمسها، يدلّ عليه قوله تعالى‎} ‎وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا‎ {‎، يريد وضوئها»(9). كما نقتبس من ‏الرّازي ما يلي: «إنّما أضاف اللّيل والنّهار إلى السّماء، لأنّ اللّيل والنّهار إنّما يحدثان بسبب غروب الشّمس وطلوعها، ثمّ غروبها ‏وطلوعها إنّما يحصلان بسبب حركة الفلك، فلهذا السّبب أضاف اللّيل والنّهار إلى السّماء»(10). وفي تفسير الجامع لأحكام القرآن (11) ‏نقرأ:«وأضاف الضُّحى إلى السّماء كما أضاف إليها اللّيل؛ لأنّ فيها سبب الظّلام والضّياء وهو غروب الشّمس وطلوعها»‏‎.‎‏  أمّا في ‏تفسير روح المعاني (12) فنجد «وإضافة اللّيل والضّحى إلى السّماء لأنّهما يحدثان بسبب غروب الشّمس وطلوعها وهي سماويّة أو ‏وهما إنّما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتّحادها مع الفلك أو وهما إنّما يحصلان بسبب حركة الشّمس في فلكها فيها ‏على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى‎} ‎كُلٌّ فِي فَلَكٍ ‏يَسْبَحُونَ‎{  ‎‏[الأنبياء: 33] وإنّ الفلك ليس إلاّ مجرى الكوكب في السّماء وقيل أضيفا إليها لأنّهما أوّل ما يظهران منها إذ أوّل اللّيل ‏بإقبال الظّلام من جهة المشرق وأوّل النّهار بطلوع الفجر وإقبال الضّياء منه». وقد تناول ابن عاشور موضوع السّماء في هذه الآية ‏فقال: «و {السماء} يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السّماوات ....‏‎  ‎ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي ‏المسماة بالسّماء الدّنيا التي تلوح فيها أضواء النّجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائيّة المحيطة بالأرض ويَبدو فيها ضوء ‏النّهار وظلمةُ الليل»(13).‏
هذه عيّنة نرى أنّها كافية لإعطاء فكرة عمّا ذهب اليه المفسّرون. فأغلبهم تعامل مع السّماء على أساس ما كان يبدو كأنّه قبة زرقاء ‏مبنيّة فوق الأرض وقالوا إنّ البناء هو تفسير للخلق وأنّ رفعها وتسويتها هو توضيح لكيفية البناء. ‏
(3) إضافة اللّيل والضّحى الى السّماء
نبدأ مع مادّتي (ليل) و(ضحى) في المعاجم حتّى نتبين المعنى الأصلي لهما في اللّسان العربي. ففي معجم العين: «ليل: اللّيلُ: ضدّ ‏النَّهار، والليل: ظلامٌ وسواد‎.‎‏» وفي لسان العرب (14) «ليل: اللَّيْلُ: عَقِيبُ النَّهَارِ ومَبْدَؤُه مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ». وفي المصباح المنير(15)«اللَّيْلُ مَعْرُوفٌ وَالْوَاحِدَةُ لَيْلَةٌ وَجَمْعُهُ اللَّيَالِي بِزِيَادَةِ الْيَاءِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَاللَّيْلَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ». أمّا عن ‏الضّحى فنجد في مقاييس اللّغة: «الضّاد والحاء والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على بُروز الشّيء.  فالضَّحَاء: امتداد ‏النَّهار، وذلك هو الوقت البارز المنكشف». وفي تهذيب اللّغة(16) ينقل الأزهري عن اللّيث قوله: « الضّحْوُ ارْتِفَاعُ النَّهارِ» وينقل عن ‏أبي عبيد قوله: « والضُّحَاءُ ارتفاعُ الشّمس الأعْلَى». وفي اللسان«والضُّحى: حينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيَصْفو ضَوْؤُها. الضُّحى مِنْ طلوعِ ‏الشَّمْسِ إِلى أَنْ يَرْتَفِعَ النهارُ وتَبْيَضَّ الشَّمْسُ جِدًّا»‏
ليس لنا ما نضيف عمّا قيل في اللّيل، أمّا عن الضّحى فنحبّ أن نورد ما أجمل الرّازي فيه القول في المعنى الأصلي للضّحى اذ ‏قال: «وإنّما عبّر عن النّهار بالضّحى، لأنّ الضّحى أكمل أجزاء النّهار في النّور والضّوء». هذا ما في اللّسان العربي عن الضّحى، ‏أمّا في الاستعمال القرآني فنرى أنّ لفظ الضّحى يأتي محمولا على نفس المعنى الذي لخّصه الرّازي ودليلنا في ذلك الآية 46 من ‏سورة النّازعات «و كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا» والآيتان الأولى والثّانية من سورة الضّحى «وَالضُّحَىٰ، والليل ‏اذا سجى». فبالنّسبة للآية الأولى نقتبس عن الطّبري ما قاله في شأنها ما يلي: «يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين بالسّاعة، يوم ‏يرون أنّ السّاعة قد قامت، من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدّنيا إلاّ عشيّة يوم، أو ضحى تلك العشيّة والعرب تقول: آتيك العشيّة أو ‏غدَاتَها، وآتيك الغداةَ أو عشيتها، فيجعلون معنى الغداة، بمعنى أوّل النّهار، والعشيّة: آخر النّهار، فكذلك قوله: { إلاَّ عَشِيَّةً أوْ ضُحاها ‏‏} إنّما معناها إلاّ آخر يوم أو أوّله». إنّ اقتران العشيّة بالضّحى في لسان العرب انّما يدلّ على أنّ الضّحى هو أوّل النّهار. وتسمية ‏النّهار بالضّحى فهو من المجاز المرسل حيث يعبّر عن الكلّ بالجزء. أمّا بالنّسبة للآيتين الأولى والثّانية من سورة الضّحى فقد جعل ‏الله فيهما (الضّحى) في مقابلة (اللّيل إذا سجى) وهذا مؤشّر قويّ على أنّ المراد الإلهي بالضّحى هو النّهار إذا امتد وصفا ضوؤه ‏وليس النّهار كلّه. لماذا؟ لأنّ في مقابل تقييد اللّيل بضرف إذا اشتد ظلامه أي سجى، قيّد النّهار بضرف إذا اشتد ضياؤه أي ‏الضّحى. فكأنّ القسم هو، والله أعلم، والنّهار إذا امتدّ واشتدّ ضياؤه واللّيل إذا امتدّ واشتدّ ظلامه. ففي الأول استقرار الضّياء الشّديد ‏واستواؤه وفي الثّاني استقرار الظّلام المدلهم واستواؤه. وهذا يعني أنّ القرآن استعمل كلمة ضحى على معناها الأصلي في اللّسان ‏العربي. ‏
فماذا عن إضافة الضّحى الى السّماء؟ لم يضف تعالى الضّحى في القرآن الى السّماء فقط بل أضافه أيضا الى الشّمس كما جاء في ‏الآية الأولى من سورة الشّمس: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا». فماذا يمكن أن نستنتج من هذه الإضافة الواضحة عن الضّحى؟ إنّ الإضافة ‏يمكن أن تعني كما رأينا في التّفاسير أنّ سبب الضّحى بمعنى ضياء النّهار وصفاؤه موجود في السّماء وفي الشّمس. فهل فعلا سبب ‏ضياء النّهار موجود في السّماء والشّمس معا؟ والاجابة هي حتما نعم إذا اعتبرنا أنّ السّماء تأتي هنا بمعنى الغلاف الغازي المحيط ‏بالأرض وهو أمر تجيزه اللّغة بلا أي تعسّف على المعنى الأصلي للسّماء. أليس«كُلُّ عَالٍ مُطِلٍّ سَمَاءٌ»؟ أليس الغلاف الغازي ‏الممتدّ عشرات الكيلومترات فوق رؤوسنا وأينما كنّا على سطح الأرض عال؟ ألا يحيل الغلاف الغازي على معنيي الارتفاع والعلو؟ ‏
فلنبيّن أن افتراض لفظ السّماء بأنّه يعني في الآيات 27 و28 و29 من سورة النازعات الغلاف الغازي هو افتراض تؤكّده الحقيقة ‏العلميّة على أنّ نواصل في الجزء الثاني تدعيم ذلك. ‏
(4)  النهار علميا
تنتشر أشعة الشّمس في خطوط مستقيمة قبل أن تدخل في الغلاف الغازي المحيط بالأرض. وعند دخولها في هذا الغلاف المتكون ‏أساسا من الأكسجين (‏O2‎‏) والنيتروجين (‏N2‎‏) تصطدم بها وتتشتت في كلّ الاتجاهات‎.‎‏ تلعب كلّ هباءة من الغاز دور مصدر ‏للضّوء فيصبح لدينا عددا لانهائيّا من المصادر الضّوئية التي تبثّ في كلّ الاتجاهات وهو ما يجعل الغلاف الغازي مضاء كما ‏يتجلّى في أبهى حالاته عند الضّحى. 
يحدث النّهار إذا نتيجة تفاعل بين أشعة الشّمس والغلاف الغازي الأرضي ذي تركيبة كيميائيّة ‏محدّدة. تنعدم هذه الظّاهرة على القمر مثلا. فلو كنّا فوق سطح القمر والشّمس في كبد السّماء فلا وجود للنّهار لانعدام السّماء بمعنى ‏الغلاف الغازي. بل لو ارتفعنا من على الأرض في منتصف النّهار وابتعدنا عموديّا على سطحها أعلى فأعلى فسوف ينعدم الضّياء ‏تدريجيّا مع ابتعادنا الى أن يصبح الفضاء حالك السّواد عند انعدام غازي الاكسجين والنيتروجين رغم أنّ الشّمس في كبد السّماء. ‏هذه حقائق عاينها الإنسان بأمّ عينيه ولم تعد مجالا للشّك والجدال. إنّ ظاهرة النّهار هي ظاهرة أرضيّة بامتياز تنتج بفضل الشّمس ‏والغلاف الغازي الفريد المحيط بالأرض وهو ما تقوله الآية إذا اعتبرنا السّماء جاءت بمعنى الغلاف الغازي. وسوف نرى أنّ ‏السّماء تلك لم تكن كما هي الآن خلال تاريخ الأرض الطّويل جدّا بل انّها مرّت بتطوّرات تختزنها الآيات 27 و28 و29 من سورة ‏النّازعات وتؤكّدها الحقائق العلميّة كما سنرى وهو ما يدعم ما ذهبنا اليه في تدبّرنا لتلك الآيات المتعلّقة بأحداث وقعت قبل عمليّة ‏دحو الأرض أي اعتبار أنّ السّماء جاءت بمعنى الغلاف الغازي. ‏
(5)  خلاصة
يمثل لفظ (ضحى) في اللّغة وصفا للنّهار في حالته الطبيعيّة الأساسيّة باعتبار أنّ النّهار يمكن أن يكون مغيما أو ممطرا أو‎ ‎غير ‏صاف بصفة عامّة. أمّا مفهوم «الضّحى» القرآني فهو لا يحيد عن المعنى الأصلي قيد أنملة بل يكسبه تعريفا أكثر عمقا بربطه ‏بالسّماء والشّمس معا: انّه تفسير له‎. ‎وهذا ما كشفه العلم الحديث حيث أنّ ضياء النّهار الممثل أحسن تمثيلا بالضّحى هو نتيجة ‏مباشرة لتفاعل السّماء بمعنى الغلاف الغازي المحيط بالأرض والأشعة الواردة من الشّمس. فهل إضافة ضياء النّهار الشّديد الى ‏السّماء والشّمس صدفة؟ سنرى في الجزء الثاني أنّ الصدفة مازالت تتكرّر في الآيات موضوع البحث الى أن تلغي نفسها!‏
الهوامش
‏(1)‏ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم – محمد فؤاد عبد الكافي – دار الجيل بيروت ‏
‏(2)‏ ‏(ش ع) شمس العلوم (السماء) -نشوان بن سعيد الحميري -توفي: 573هـ/1177م
‏(3)‏ ‏(ع): (مد) معجم العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ ‏
‏‏(4)‏ المصدر السابق ‏
(5)‏ ‏(م ل): مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ
‏‏(6)‏ (ش ع) شمس العلوم (السماء) -نشوان بن سعيد الحميري -توفي: 573هـ/1177م‏
‏(7)‏ ‏(م ل): مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ
(8)‏ تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)‏
‏(9)‏ ‎ ‎تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)‏
‏(10)‏ ‎ ‎تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)‏
‏(11)‏ تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) ‏
‏(12)‏ تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)‏
‏(13)‏ تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)‏
‏(14)‏ ‏(ل ع): (مدد) لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
‏(15)‏ ‏ (م م): المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي -توفي: 770هـ/1369م
‏(16)‏ ‏(ت ل): (مد) تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري -توفي: 370هـ/980م