تحت المجهر

بقلم
امحمد رحماني
من أسرار الرسم القرآني ( الدعاء )‏
 إنّ من عظيم ما أمتاز به كلام الله عزّ وجلّ الإعجاز ‏الباهر في كل جزئيّاته وتفاصيله ولا يحتاج الإنسان ‏إلاّ أن يتدبّر ويعمل عقله ليقع على الآيات الباهرات ‏الدّالة على إعجاز هذا القرآن العظيم، ومن تلكم ‏الآيات الباهرة مناسبة الرّسم القرآني لموضع السّياق ‏ومجريات الخطاب وهو كثير في القرآن الكريم، ‏وسنحاول في هذا المقال الوقوف على إحدى الكلمات ‏القرآنيّة الكريمة التي وافق رسمها في المصحف ‏العثماني المعنى المراد منها وهي كلمة «دعاء» ، فقد ‏جاءت هذه الكلمة بمعنى دعاء الله في مواضع وهي :‏
الموضع الأول سورة إبراهيم الآية 39 :‏
«ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ ۚ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِِ»
الموضع الثاني سورة إبراهيم الآية 40 :‏
«رَبِّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِِ»
الموضع الثالث سورة مريم الآية 48 :‏
«وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُواْ رَبِّى عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا»
الموضع الرابع سورة فصلت الاية 49 :‏
« لَّا يَسْـَٔمُ ٱلْإِنسَٰنُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَـُٔوسٌ قَنُوطٌ»
الموضع الخامس سورة فصلت الاية 51 :‏
« وإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍۢ»
الموضع السادس سورة غافر الآية 50 :‏
«قَالُوٓاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ ۖ قَالُواْ بَلَىٰ ۚ قَالُواْ فَٱدْعُواْ ۗ وَمَا دُعَٰٓؤُاْ ٱلْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍٍ» 
والملاحظ أن كل المواضع القرآنية كتبت فيهم كلمة ‏‏«دعاء» بثبوت الألف إلاّ آية «غافر» كتبت فيها بحذف ‏الألف، وهو أمر لحكمة بدون شكّ، فالمواضع التي ‏أثبتث فيها الألف في الدّعاء كان الدّعاء نابعا من ‏قلب مؤمن مستقرّ بالإيمان الخالص لله سبحانه الذي لا ‏يشوبه شرك ولا وثنيّة، أمّا آية «غافر» فتتكلّم عن ‏دعاء الكافر المشرك في عبادته والفارغ قلبه من ‏الإيمان، فحذفت ألف دعائه وكأنّ دعاءه ليس بثابت ‏ولا مستقر فهو محض ضلال وكلام، يقول العلامة أبو ‏العباس أحمد بن البناء المراكشي «وكذلك ﴿ وَمَا دُعَؤُا ‏الكَافِرينَ ﴾ حرف واحد ، وهو الدعاء الظاهر في الملك على ‏ألسنتهم وليس في قلوبهم فإنهم كافرون أبدا ‏بقلوبهم ، ألا ترى كيف سألوا الخزنة فقالوا ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ ‏يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ العَذَابِ ﴾ وهم مقرون بأن الرسل أتتهم بالبينات، وفي ما جاءت به الرسل إليهم أنهم لا ناصر لهم ولا ‏شافع ولا راحم إذا دخلوا النار، فسؤالهم الخزنة ‏تكذيبهم لما جاءتهم به رسلهم فهم في ضلال في ‏الدنيا والآخرة كافرون أبدا ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ وزيدت ‏الألف تنبيها على ظهور دعائهم باللّسان لا بالقلب ‏فإنّ الذي ظهر باللّسان غير ما في القلب والجنان»(1)‏‏.‏
ويقول الشيخ العروسي في الكناوية «انفردت الكلمة في آية غافر بحذف الألف ورسم الهمز فوق الواو ‏وألف زائد بعدها إشارة إلى استحالة استجابة دعاء الكافرين وهم في جهنّم بعد فوات الأوان، أمّا ‏الكلمة في آية الرّعد فهي بثبت الألف باعتبار أنّ دعاء الكافرين في الدّنيا يشبه الحلم الذي لم يتحقّق، ‏فاستنجادهم في الدّنيا بالطّاغوت لن تكون له استجابة فهم كمن يجري وراء السّراب، وكلّ عمل يهدر ‏المصلحة العامّة فهو ضلال، والاستنجاد بالضّلال سريع الاندثار قريب إلى الهاوية مفضي إلى الهلاك ‏والبوار يقول الفقهاء :‏
الطلبا يا سادتي :‏
‏                        المسْلَمْ مَا يَحْمَلْ كَافِرْ           دُعَاءُ كُلُّ ثَابِتْ سِوَى ‏دُعَؤُا غَافِرْ» (2)‏
وقد يقول البعض وهذه آية «الرّعد» مثلها مثل آية «غافر» وثبتث ألفها، فكيف نستدل على معنى عدم ‏الثبوت والاستقرار في الدّعاء من آية غافر‎ ؟ فأقول: لا يرفع ثبوت الألف في آية «الرّعد» مفهوم الدّعاء في ‏حذف ألف آية «غافر» لاختلاف السّياق بين الآيتين رغم تشابههما، فما داما قد اختلفا في رسم لفظ الدّعاء، ‏فلا بدّ من وجود فرق، والفرق الحاصل بينهما في السّياق الواردتان فيه، فآية «الرعد» سياقها دنيوي، ‏فلذلك ثبت ألفها لاحتماليّة أنّ يقبل الله دعاء الكافر في الدّنيا، فقد يكون هذا الكافر مضطرّا وقد قال ‏سبحانه ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ وقد قبل الله دعاء إبليس وهو رأس الكفر ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾، أما آية غافر فسياقها سياق أخروي وهناك لا يقبل من الكافر دعاء ‏ولا يسمع له نداء، فجاء لفظة الدّعاء فيه محذوفة الألف لموافقة الرّسم للسّياق . وهذا من إعجاز الرّسم القرآني في ‏موافقته للسّياق الرّبّاني الدّال على أنّ هذا القرآن لفظا ورسما هو من الله سبحانه‏‎.‎
وقد عبر عنها صاحب المعرب(3)‏‏ بقوله :‏
فِي العَيْنِ عاقَدَتْ وفِي شَعَائِر  ***   ضِعَافاً أَضْعَافاً بِغَيْرِ بِكْــــر
عَاقِبَةٌ اسْماً وفِعْلُ عَاهَــــــدَا   ***   تَعَالَى إِنْ مِنْ مُضْمَرٍ تَجَرَّدَا
وَشُفَعَاؤُا شُفَعَاؤُنَا دُعَـــــــــا   ***   طَوْلٍ وَمِيعَادٌ بِأَنْفَالٍ وَعَــــى 
عَالِيهَا عَالِيهِمُ وَعَاصـــــــِمْ   ***   بِغَيْرِ يُونُسٍ مَعَايِشْ عَالــــــِمْ 
سَواءٌ العَاكِفُ عَاملٌ خَــــلاَ   ***   حَرْفٍ بِالاَنْعَامِ والاَنْعَامُ جَلا 
وعبر عنها الرجراجي في حذفيته(4) بقوله :‏
مُعَرُّفُواْ العَكِفِ مَع شَعَئِرْ ***   مِيعَدُ الأَنفَالِ دُعَؤُا غَافِرْ 
الهوامش
(1) انظر «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل» لأبي العباس المراكشي ، تحقيق هند شلبي الطبعة الأولى 1990 دار الغرب الإسلامي
(2)  انظر «الكناوية» لعبد العزيز العيادي، صفحة 176‏ 
(3) المطرب شرح المعرب  لعبد الجليل لمغاري طبعة دار الرشاد الحديثة، ص 109 .‏
(4)  المنهاج في شرح رسميّة الحجاج للعروسي، صفحة 123 .‏