قدوتنا

بقلم
عبد الحق التويول
الذكاء الإحساني في رمضان
 لقد شـاع في سيرة الحبيب المصطفى وسنته العطرة أنّه كان معطاءً جوّادا في سائر الأيّـام وأجود ما يكون ‏في رمضان شهر الرّحمة والمغفرة والعتق من النّيران وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه عن ابْنِ ‏عَبَّاسٍ ‏ ‏قَالَ‏: «‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ ‏يَلْقَاهُ ‏ ‏جِبْرِيلُ ‏ ‏وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ‏وَسَلَّمَ ‏ ‏أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ ‏ ‏الْمُرْسَلَةِ )(1)‏ ، وهذا الحديث أصل في باب الجود ‏والكرم الذي كان يتمتّع به صلّى الله عليه وسلّم وفيه من البيان الشّيء الكثير لما ينبغي أن يكون عليه كلّ ‏متّبع لسيرة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم من امتثال للخير في هذا الشّهر المبارك، ولما ينبغي الحرص عليه ‏أيضا في هذه المناسبة العظيمة تحقيقا للمقاصد الإسلاميّة السّامية والمتمثّلة بالأساس في تحقيق التآزر ‏والتّكافل والتّضامن بين مختلف شرائح المجتمع .‏
إنّنا وبالرّجوع إلى سيرة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم والوقوف على مظاهر جوده وكرمه يمكن أن نلمس  ‏من فعله صلّى الله عليه وسلّم ذكاءً فريدا في العطاء ومنهجا عجيبا في الجود والسّخاء من مظاهره :‏
(*) تحرّي الوقت الدّقيق والمناسب  لمضاعفة الأجر والثّواب : ذلك أنّ أغلب العبادات لها أوقات ‏تضاعف فيها الحسنات وتكون أدعى للقبول منه سبحانه كالدّعاء أثناء السّجود أو الصّلاة في الثّلث ‏الأخير من اللّيل أو قيام ليلة القدر أو غير ذلك من الأوقات التي لا ينبغي الإغفال عنها، ونفس الشّيء ‏بالنّسبة للجود، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم جوّادا وكان يبالغ ويكثر منه في رمضان مراعاة ‏لخصوصيّة هذا الشّهر الكريم، وهذا من فطنته وذكائه صلّى الله عليه وسلّم .‏
(*) اعتبار القرآن الكريم ملهما ودافعا لكلّ خير: ذلك أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وجبريل يراجعه ‏القرآن الكريم بانتظام في رمضان كان يجعل منها بالإضافة إلى المراجعة  فرصة لشحذ الهمّة ‏ولزيادة وهج القلب بالنّور الإلهي الدّاعي إلى كلّ خير .‏
(*) المسارعة في الجود : ذلك أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أسرع من الرّيح المرسلة في الامتثال ‏لأوامر الله جملة ولفعل الخير والسّخاء خاصّة وذلك نتيجة لما يجده في القرآن ولما يراجعه فيه على ‏يد جبريل الحكيم، كيف لا وهو يمرّ على قوله سبحانه «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ‏عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‎ ‎الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ»(2)، فلم ‏يكن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يتوانى في العطاء والحثّ والحرص عليه ولو بشقّ ثمرة  «روي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»(3) .‏
(*) التحلّي بأخلاق القرآن : ذلك أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يجود ويساعد النّاس كان يجود ‏بذكاء، ومن ذكائه صلّى الله عليه وسلّم التّحلّي والالتزام بما جاء في القرآن الكريم من توجيهات ‏وإرشادات والتي نذكر منها على سبيل الذّكر لا الحصر :‏
• الإخلاص وجعل العمل لله سبحانه دون سواه وعدم انتظار المقابل لسبب وهو أنّه صلّى ‏الله عليه وسلّم كان يجد فيما يراجع من القرآن «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» (4) ، فكيف يشرك مع الله أحدا في عطائه؟.‏
• الإسرار بالعطاء تفاديا لإحراج المتصدّق عليه وحماية للنّفس من التّخبط في الرّياء، كيف لا ‏وهو يقرأ ويراجع « ... إِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...» (5) .‏
• تجنّب المنّ والأذى : إذ لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه منّ على أحد أو تسبّب له في ‏أذى وهو يذكره بعطائه وهذا من ذكائه صلّى الله عليه وسلّم لأنّه لا محالة يجد في ما ‏يراجعه من القرآن أنّ المنّ والأذى يحبط الأعمال ويجعلها صفرا « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ» (6) .‏
• الحرص على الجود بما هو أنفس وأحب للنّفس وهذا أيضا من ذكائه عليه السلام وفطنته إذ ‏لم يثبت عنه أنّه تصدّق بالرديء أو بما لا قيمة له، كيف لا وهو يجد أيضا في الذّكر ‏الحكيم « لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...» (7) .‏
•الجود بكلّ ما هو طيب وتجنّب التقرّب إلى الله تعالى بكلّ ما هو خبيث ومحرّم، كيف لا وهو ‏القائل صلّى الله عليه وسلّم «إنَّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيّبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين» (8) .‏
إنّنا وبتأمّل هذه الخصال النّبوية الشّريفة في تقديم العطاء والجود والإحسان إلى المحتاجين والفقراء نلمس ‏ذكاءً عجيبا منه صلّى الله عليه وسلّم وحكمة بالغة في تصرّفاته الهادفة ، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم ‏حريصا على الإخلاص ومتجنّبا لكلّ ما يمكن أن يؤذي النّاس أو يغضب ربّ الناس، وهو المنهج الذي ‏ينبغي لكلّ مسلم جوّاد أن يسير عليه متجنّبا كلّ ما يمكن أن يحبط عمله ويوقعه في الغباء كحب المدح ‏والرّياء أو الوقوع في المنّ والأذى بعد تقديم العطاء وما إلى ذلك من التّصرفات التي لا محالة تحبط الأعمال ‏وتجعلها هباءً بعيدة عن المقاصد العظمى والغايات المُثلى التي كان يتحرّاها صلّى الله عليه وسلّم بذكاء ‏وفطنة.‏
الهوامش
(1) رواه البخاري، بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 6 
‏ ورواه مسلم في الفضائل، باب «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير» رقم 2308
(2)  سورة آل عمران - الآية 133
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق،  باب صفة الجنة والنار،  حديث رقم 6222.
(4) سورة الإنسان - الآية 9
(5) سورة البقرة - الآية 271
(6) سورة البقرة - الآية 264
(7)  سورة آل عمران - الآية 92
(8) صحيح مسلم - كتاب الزكاة / 19 - باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها / حديث رقم 1015