حوارات

بقلم
فيصل العش
حوار مع الدكتور سالم المساهلي
 (1)
«علم الكلام من الجدل العقلي إلى التّجربةِ العملية عند النورسي» هو عنوان أطروحتكم التي قمتم بإنجازها لنيل شهادة الدكتوراه، فما الذي دفعكم إلى اختيار هذا الموضوع؟ وأي علاقة بين النورسي بصفته معاصرا وصاحب منهج صوفيّ بعلم الكلام؟‏
مازال هذا البحثُ وكما يدلّ عُنوانُه: «علم الكلام من الجدل العقلي إلى التّجربةِ العملية عند النورسي»، يحاولُ أن ‏يقدّم رؤيةَ عَلمٍ من أعلامِ الفِكرِ الإسلاميِّ الحديث، فِي كيفيّة الانتِقالِ بِعلم الكلام الإسلامي القديم ممّا رانَ عليه ‏مِن تجفيف وتجريدٍ، إلى حيويّة الإيمان، إذ لَم يعُد ممكنًا اليومَ أن نتحدّث عن العقيدةِ الإسلاميّة بذلِك الأسلوبِ ‏المعقّد، الّذي طغى عليه التّسطيح والإغلاق، فإذا هو أشبه ما يكون بالمعادلاتِ الرّياضيّة والحدود المنطقيّة ‏الصّارمة. وإذا كان المتكلّمون السّابقون قد وجدُوا فِي لحظتِهم التّاريخيّة ما يدعوهم لذلِك المنهج، فإنّ واقِعنا اليومَ ‏لم يَعُد يحتمِل تكرارَهُ، لما يحتاجُه المُؤمن مِن وضوح ويقين راسخ في عقيدتِه، مع ما يتطلّب ذلِك من قُدرةٍ على ‏تحوِيلها من مستوى النّظر إلى واقع الحياة. إنّ مُشكلَةَ الدّين اليومَ لم تعُد فِي البَرهنة على وجود الله أو إثباتِ ‏الغيب فحسب، وإنّما فِي كيفيّة جعل الدّين رؤيةً ومسلكًا ثقافيّا واجتماعيّا وحقوقيّا، ينطِقُ بلغةِ العصرِ ويستجيبُ ‏لأشواقِ الإنسانِ في التّحرّر وبناء المجتمع وإقامة العدل.  
‏إنّ قضايا الإنسانيّة اليومَ ليست أنطولوجيّة بالأساس، ولكنّها أخلاقيّة وواقعيّة، والإيمانُ بالله ليس تصوّرا ‏ذهنيا فحسبُ ولكنّهُ استشْعارٌ نابِضٌ بمعيّتِه ورقابتِه سُبحانَه، أليس القائل جلّ جلاله: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ ‏وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ» (الزخرف 84) والقائل: «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا ‏أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا» (المجادلة 7) ؟ نعَم إنّه تعالى الأقربُ إلينا من حبلِ الوريد. لم يعُد ‏البيانُ والبرهانُ أيضًا كافيَينِ للإقناع، وإنّما لا مناصَ من المنهج العِلمي، فالشّبهات الحديثة مُرتبطة بالعِلم لا ‏بالمنطق، والتّوكّلُ عِمادُهُ الوعيُ بالأسبابِ الّتي جعلها سبحانَهُ أماراتٍ وسُبلاً. فكيفَ استطاعَ النُّورسي أن ينقُلَ ‏مبحثَ عِلم الكلام من أروِقةِ الجدل الضّيّق، إلى رحابةِ السّلوك اليومي، ومن حدودِ الفِكر والنّظر إلى حيويّة ‏الوجدانِ والشّعور، حيثُ يصيرُ الإيمانُ حياةً تُعانَى لا مَوضُوعًا يُعايَن؟ وكيفَ تمكّن بمنهجِهِ الصّوفيّ أن ‏يجمَعَ بين نباهةِ العقلِ وصحوة القلب في تألِيفٍ عجيبٍ بين نصِيبِ الدّنيا وابتِغاءِ الآخرة؟                     ‏‏
انطِلاقًا من هذا السّؤال فإنّ موضُوع علم الكلام العمليّ فِي تجربة النّورسي يكتسي أهمّيّة بالغَةً لأنّه:  
يعِيدُ الاعتبارَ للعقيدة الإسلاميّة ـــ بوصفِها مدارَ القناعةِ العقليّة ومُستندَ السّلوك اليومي ــــ بتحريرِها من الجمودِ ‏النّظري والجفاف المنطقي، كما يحاولُ معالجَة أعمق أزمةٍ في حياةِ المسلِمين اليوم، وهي مرضُ النّفوس وقسوة ‏القلوب بفعل الانغماس غير المحسوبِ في مطالب الدّنيا المادّية، وبسبب التّبعيّة العمياء للفلسفات الوافدة. وهو ‏يردُّ إلى معنى الإيمان حرارتَهُ في القلوبِ والعقول، ويُحيي وهجهُ في المشاعر والسّلوك، ويحوّلُه إلى دافعيّة ‏للمبادرة والفعل التّعميري والحضاري. كما يسعى للنّهوض بالواقع الثقافي والاجتماعي، مقاومًا الهيمنةَ والمسخَ ‏والتّقليد الّذي تفرضُه الثقافات المغايِرة، فيحصّنُ معانِي الهويّة من الذّوبان.                   
‏(2)
ما هي أهمّ الأهداف التي عملتم على تحقيقها من خلال هذا البحث؟‏
هي أربعة أهداف رئيسيّة وهي:
أولا ـ التّعريف بعلَم من أعلامِ الفكرِ والدّعوةِ الإسلاميّة في العصرِ الحديث، ومحاولة تقدِيم خِبرته المعرفيّة وتراثِهِ ‏الفِكري ورصِيده العملي. 
ثانيا ـ الوقوف على أبرزِ أفكارِه وأهمّ أطروحاتِه في مجالِ تجديد الفِكرِ الإسلامي، ‏والكلامي خصوصًا. 
ثالثا ـ محاولة إدراك منهجه النّقدي في تقييم علم الكلام الإسلامي القديم، ورؤيته التّجديديّة ‏في ذلِك من خلالِ تجرِبتِه العمليّة. 
رابعاــ محاولة استكشاف آليّاتِه المنهجيّة في تغيير النّفس والمجتمع، من ‏خلالِ استِثمارِه للقرآن في إحياءِ حقيقة الإيمان وإضاءة دروبِ الفعل الثقافي والحضاري.      
‏(3)
أي أسلوب اعتمدتموه في بناء رسالتكم من أجل الإجابة على مختلف الأسئلة التي طرحتموها وتحقيق الأهداف التي ذكرتموها؟‏ 
للإجابةِ عن الأسئلةِ المطروحةِ، قسّمتُ الرّسالةَ إلى ثلاثةِ أبوابٍ وقسّمتُ الأبوابَ إلى فصولٍ ‏والفصولَ إلى مباحث والمباحث إلى مطالبَ والمطالب إلى فروع، وحاولتُ جُهدِي مراعاةَ التّوازن بين الفصول، ‏لكنّ المادّةَ العلميّة للبحث لها إكراهاتها أحيانًا. خصّصتُ في البدايةِ فصلا تمهيديّا جعلتُهُ بوّابَةً لشرحِ ‏المصطلحاتِ المركزيّة الّتي هي مدارُ البحث، وقسّمته إلى مباحث ثلاثة حيث كان المبحث الأول خاصّا ‏بتعريف علم الكلام والمبحث الثاني متعلّقا بتعريف العقل الجدلي، أمّا المبحث الثالث فقد خصّصته لتعريف ‏التجربة العملية. يأتي بعد ذلك الباب الأوّل الذي عنوانه «علم الكلام القديم»، والذي جعلت الفصل الأوّل منه ‏للحديث عن نشأةِ علمِ الكلام وتطوّرِه والأدوارِ الّتِي مرّ بها في ذلك، مع ذكرِ موضوعه ومنزلتِه في العلوم ‏الشرعيّةِ والتّعرّضِ للمواقفِ منه بين الرّفض والقبول. 
انتقلتُ بعد ذلِك إلى بيانِ طبيعة العقلِ الجدليّ عند المدارس ‏الكلاميّة الثلاث وهي المعتزلة والأشعريّة والماتريديّة، مبرزًا نظرياتها المعرفيّة ومواقفها من مسائلِ الخلاف ‏كالعقل والنقل وما يتّصل بها من قضايا. تَلا ذلك الفصل الثّاني من الباب الأوّل والذي خصصتُه للتّعريف بعلم ‏الكلامِ القديم جليلِه ودقيقِه، مع تحليل مبادئه ومضامينِه، ثمّ ختمتُه بمبحثٍ نقديّ تناولتُ فِيه أبرز ما يُعابُ على ‏علم الكلام القديم في مضامينه ومنهجهِ وأسلوبِه.                   
‎ ‎‏أما الباب الثاني «الرّؤية التّجديديّة لعلم الكلام عند النّورسي»، والّذي قسّمته إلى ثلاثة فصولِ، فقد بدأته في ‏الفصل الأوّل بالتعريف ببديع الزمان النورسي، من خلال ثلاثة مباحث تناولت في المبحث الأول العصر الذي ‏عاش فيه فاعلا ومتفاعلا، مستعرضًا أبرز محطّات حياتِه، في قراءة سريعة لأحوال العالم الإسلامي وأوضاعهِ ‏عامَّــةً. ثمّ جعلتُ المبحث الثانِي خاصّا بمشروعِه الفكرِي ومواقفه وآثاره. أمّا المبحث الثّالث فقد سلّطتُ فيه ‏الضّوءَ على مضامين رسائل النّور ومنهج تأليفها وأساليبها. وفي الفصل الثّانِي انتقلتُ إلى بيانِ معانِي تجديد ‏علم الكلامِ من حيثُ دواعي ذلك ومضامينُه ومنهجُه، إلى أن وصلتُ في الفصل الثالث إلى معنى تجديد علم ‏الكلام عند النّورسِي، حيث بدأتُ بموقفه من علم الكلام القديم ونقده له، وصولا إلى رؤيته التّجديديّة في أبعادِها ‏المعرفيّة والمنهجيّة والسّلوكيّة.                                     
‏انتقلتُ بعد ذلك إلى الباب الثّالث الّذي عنوانه «البعد العملي لتجديد علم الكلام عند النّورسي»، حيث ‏خصّصت الفصل الأوّل للعرفان الصّوفي عند النّورسي، وتعرّضت فيه إلى بيان حقيقة التّصوّف في تجربته مع ‏ذكر معني الطّريقة عنده، كما بينت دلالات التّجلّي والكشف والإلهام والعرفان في تجربته الصّوفيّة، معرّجا على ‏موقفه من وحدة الوجود والشّهود. 
وكان الفصل الثّاني في هذا الباب خاصّا بالبعد العملي لعلم الكلام عند ‏النّورسي الّذي كرّس تجربته لإنقاذ الإيمان عبر منهج تربويّ سلوكي واقعيّ وعمليّ، غايته تغيير الواقع الإسلامي ‏من مشهد التقليد والسّكونيّة والجمود، إلى حيويّة الفعل الثقافي والحضاريّ بتفعيل معاني الإيمان في الشّعور ‏وتحرير الوجدان الديني والتّصوّر العقدي من سجن النّظر والتّجريد والسّطحيّة ليتجسّد في واقع الممارسة الفعليّة. ‏بينت أثناء ذلِك، منهج النّورسي التربوي والأخلاقي لعلاج أمراض الذّات الفرديّة والجماعيّة، ثمّ ختمتُ البابَ ‏بمبحث خصّصته لملاحظاتٍ نقديّة تخصّ أسلوب رسائل النّور ونسبيّة فكر «سعيد النّورسي». 
وجعلت الخاتمة ‏مستخلصاتٍ عامّةً للبحث، مستعرضا فيها جملة من النتائج التي توصلت إليها بعد إتمام هذه المحاولة، الّتي ‏ذيّلتها بذكر بعض المقترحات والتوصيات، ثمّ ختمتُ البحثَ بالفهارِس المطلوبة.     
       
‎‏(4)
وماذا عن المناهج التي اعتمدتموها في رسالتكم؟‏ 
 ‎‏انطِلاقا من الإشكالية المطروحة، اعتمدت منهجا مركّبا من المنهج التاريخي، والمنهج الاستقرائي، والمنهج ‏التحليلي، والمنهج النقدي، والمنهج المقارن. فالمنهج التاريخي هو الذي توسّلت به لرصد الأحداث التاريخية التي ‏ميّزت عصر النورسي، وتبيُّن مدى تأثيرها فِي فكره وتجربته، والوقوف على أبرز المحطّات في مسيرته الفكرية ‏والعمليّة. واعتمدت المنهج الاستقرائي لمطالعة مختلف آراء النّورسي وتتبّع أفكاره المتعلّقة بجوانب موضوع علم ‏الكلام، من خلالِ قراءة آثاره كلّها والمتمثّلة في موسوعة رسائل النّور. أمّا المنهج التحليلي فقد فرضَته طبيعة ‏عمليّة الاستقراء، حيث يتطلّب الأمر تفصيل الأفكار وتمحيصها لبيان حقيقتها ودلالاتها ومقاصدها من خلالِ ‏تتبّع سياقاتها المختلفة، دون أن أغفل عن الإدلاء برأيي متى وجدتُ إلى ذلك موجبا. وكان المنهج المقارن سبيلا ‏لمقارنة أفكار النّورسي مع أفكار غيره ممّن سبقه أو لحقه إذا اقتضى الأمر ذلك. اعتمدتُ أيضا على المنهج ‏الانتروبولوجي في رصدِ علاقة أفكار الكاتب بواقع الإنسان المسلم وبتحوّلاته الثقافيّة والحضاريّة، دون أن أغفل ‏عن المنهج الفيلولوجي الّذي ساعد على معرفة الجذور التّاريخيّة لنشأة المصطلح وتشكّل دلالاتِه عبر الزّمن.    ‏‏                                                                ‏‎    ‎
(5)
هل لديكم نيّة مواصلة البحث العلمي في هذا الموضوع؟ وماهي الخطوات القادمة التي تنوون القيام بها؟‏ ‏
لا شك في أن مواصلة البحث في المجال نفسه ضروري، ارتقاء في مراقي المعرفة العلمية الحقيقية، وتجاوزا للوقوف على السطحيات. مسألة تجديد علم الكلام صميمية في الفكر الاسلامي، لأنها تمسّ الوجدان وتطال الفكر والسلوك. ومن المعلوم أن تجاوز مقولات الكلام التقليدي تتطلب جهودا نقدية وجهودا بنائية تجديدية، كي ينخرط المؤمن في وعي مباشر وصلة واقعية مع ذاته ومحيطه الطبيعي والاجتماعي ويفعل وعيه العقدي في تجربته الوجودية اليومية. يصدر لي قريبا كتاب بعنوان ، أعلام في تجديد علم الكلام، أتناول فيه شخصيات كل من الهندي شبلي النعماني أول من دعا لتجديد علم الكلام الاسلامي، والباكستاني محمد إقبال في تجديده أيضا من خلال كتابه تجديد التفكير الديني في الاسلام، والمغربي المعاصر طه عبد الرحمان.
(6)
كلمة الختام؟
كلمة الختام تتمثل في الدعوة الملحة للتفكير في تجديد فهمنا للتدين، عقيدة وتصورات ، سعيا إلى تجاوز التصور التراثي للفكر، ومواكبة التطور المنهجي والمعرفي الذي يشهده العالم من حولنا. فالسؤال الحق اليوم والجدير بالطرح هو: من نريد أن نكون، وليس من نحن ؟ لأن من نحن يحيلنا على إجابة سهلة ومكررة وباردة. بينما يحيلنا سؤال من نريد أن نكون إلى التفكير في إنجاز هوية متحركة متجددة.