تأملات

بقلم
إبراهيم والعيز
الدعوة الإسلامية بين حصار المعارضين وثبات المناصرين‏
 مقدمة.‏
تعرّض أصحاب الحقّ عبر التّاريخ ولا يزالون يتعرّضون إلى اليوم لحصار ومضايقات أهل الباطل، ‏وقد تعرّض الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه من السّابقين الأوّلين إلى الدّخول في الإسلام لمختلف المحن ‏والابتلاءات، ولجملة من الفتن والمضايقات، وضرب عليهم حصار اجتماعي واقتصادي من قبل خصومهم من كفّار ‏قريش لمدّة ثلاث سنوات.‏
‏فما هي الأسباب التي دعت مشركي قريش إلى ضرب الحصار على الدّعوة الإسلاميّة في نشأتها الأولى؟، وما ‏هي أساليب التّضييق على الدّعوة الإسلاميّة ومحاصرتها في مكّة في مهدها؟، وما هي أسباب ثبات حملة الدّعوة ‏الإسلاميّة وأنصارها في مكّة؟.‏
أولا: الأسباب الدافعة إلى التضييق على الدعوة الإسلامية ومحاصرتها في مكة.‏
‏انطلاقا من مصادر السّيرة النّبوية ومراجعها، فإنّ الأسباب التي دفعت مشركي قريش إلى التّضييق على رسول ‏الله صلّى الله عليه وسلّم في مكّة المكرّمة ومحاصرة دعوته داخل شعابها كثيرة ومتعددة، غير أنّ أهمها أربعة أسباب ‏رئيسيّة:‏
(أ) عزم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم على الصّدع بالحقّ وعلى نشر الدّعوة الإسلاميّة وتبليغ ما أمره الله تعالى ‏به من وحي مهما كلّفه ذلك من جهد ومن محن وابتلاءات، لا يصدّه عن ذلك أيّ صاد كيفما كان نوعه وأسلوبه، ‏ممتثلا أمر ربّه القائل له: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (1) ‏ ‏.‏
(ب) ظهور بوادر نجاح انتشار الدّعوة الإسلاميّة في مكّة المكرّمة، خصوصا بعد إسلام بعض الشّخصيات ‏ذات الطّبيعة القياديّة من قريش نفسها، من مثل حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.‏
(ج) نجاح الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في طلب الأمان والنّصرة له ولأصحابه خارج الجزيرة العربية، وقد تمثّل ‏ذلك عمليّا في استقبال النّجاشي ملك الحبشة لمن هاجر إليه من الصّحابة أحسن استقبال، وعدم طردهم من أرض ‏الحبشة، أو تسليمهم لقريش.‏
(د) ارتفاع معنويات المسلمين بسبب النّتائج الإيجابية التي تمخضّت عن الهجرة الأولى والثّانية إلى الحبشة في ‏ظلّ ملكها العادل الذي لا يظلم عنده أحد.‏
‏وهنا أحسّ المشركون بالإحراج والمهانة التي أصابتهم ونالت من مهابتهم، حينها قرّر صناديد قريش وزعماء ‏الشّرك فرض الحصار على الدّعوة الإسلاميّة، والتّضييق على كلّ من لحق بحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.‏
ثانيا: أساليب التضييق على الدعوة الإسلامية ومحاصرتها في مكة.‏
‏لقد فكّر مشركو قريش في أساليب كثيرة للقضاء على الدّعوة الإسلاميّة في مهدها، والتّضييق على المسلمين من ‏أنصارها، لإحباط هذه الدّعوة بعد ظهورها، ويمكن –في هذا المقام- إجمال تلك الأساليب في أسلوبين اثنين: ‏
(أ) حصار التّعذيب والتّنكيل؛ لقد قصدت قريش في البداية تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنويّة، ‏فرموا النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، منها مناداتهم له بالمجنون، كما في الذّكر الحكيم: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»(2)، ومنها سخريتهم واستهزاؤهم بأتباعه الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه من ‏السّابقين الأوّلين، فكانوا كما قصّ الله تعالى علينا: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ» (3)، ولمّا رأوا أنّ هذه الأساليب لم تجد نفعا في إحباط الدّعوة الإسلاميّة، قرّروا الرّفع من وتيرة التّنكيل ‏بالمسلمين بتعذيبهم وفتنتهم عن دينهم لصدّهم عن الدّعوة الإسلاميّة ومحاصرة انتشارها، وقد تحمّل الأرقاء ‏والمستضعفون من المسلمين القسط الأوفر من هذا التعذيب(4)، مثل بلال الحبشي، وخباب بن الأرت، وسمية بنت ‏خياط أم عمار بن ياسر رضوان الله عليهم جميعا.‏
(ب) حصار المقاطعة الاقتصاديّة؛ لقد زادت حيرة مشركي قريش ونفدت بهم الحيل، لمّا وجدوا بني هاشم ‏وبني المطلب عازمين على حفظ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من كلّ ظلم واعتداء يمكن أن يتعرّض له كائنا ما كان، ‏فقرّروا أن يفرضوا على المسلمين وعلى من يحميهم من بني هاشم وبني المطلب، حصارا نفسيّا واقتصاديّا دام ثلاث ‏سنوات، وتعاهدوا على ذلك وكتبوا في ذلك صحيفة، عرفت بصحيفة المقاطعة وعلّقت في جوف الكعبة تأكيدا ‏على الالتزام بها، ومن البنود المدرجة في تلك الصّحيفة، والمنصوص على ضرورة احترامها من قبل زعماء قريش؛ ألاّ ‏يزوجوا المسلمين ومن يحميهم ولا يتزوّجوا منهم ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يكلّموهم ولا ‏يجالسوهم (5) ، حتّى يسلّم بنو المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم  للقتل (6) ‏.‏
ثالثا: دوافع ثبات حملة الدعوة الإسلامية وأنصارها في مكة.‏
‏وأمام شدّة آثار هذا الحصار وقسوته، ضرب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام أروع الأمثلة في ‏الثّبات على الدّعوة الإسلاميّة، وساعدتهم على ذلك جملة من الدّوافع، أجملها في:‏
(أ) الإيمان الصّادق والقويّ بالله عزّ وجلّ الذي قضى في محكم كتابه بابتلاء عباده المؤمنين، لتمييز ‏الصّادقين منهم من الكاذبين، كما قال سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»‏ (7) ‏.‏
(ب) الشّخصيّة القياديّة للرّسول صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان مضرب المثل في التّحلّي بالصّبر، وقدوة لمن ‏سواه في التّحمّل والثّبات على المواقف رغم قسوة الحصار وشدّة آثاره.‏
(ج) بشارات النّصر والتّمكين والتّأييد لأهل الحقّ من المؤمنين الصّابرين المحتسبين، والتي تكرّر ورودها في ‏القرآن الكريم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر بها أصحابه، ويفهمهم من خلالها أنّ النّصر قادم، وأنّ ‏المسألة هي مسألة وقت فقط تتعلّق بالمشيئة الإلهيّة التي يدبّر ملكه وفقها، مصداق ذلك قوله تعالى:  «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا» (8) ‏ ‏.‏
رابعا: نماذج لصبر حملة الدعوة الإسلامية وثباتهم.‏
‏ومن نماذج الصّبر والثّبات لصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمواجهة آثار الحصار الغاشم وعواقبه:‏
(أ) ثبات الصّحابي الجليل بلال بن رباح وهو من ضمن الصّحابة الذين تعرّضوا للتّعذيب، حيث كان أميّة ‏بن خلف وهو رأس من رؤوس الشّرك والكفر، ومن أكبر سادات قريش يخرجه في الظّهيرة حيث تشتدّ حرارة ‏الشّمس، فيطرحه على ظهره ويضع الصّخرة العظيمة على صدره، ثم يقول له: «لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر ‏بمحمد وتعبد اللاّت والعزّى. فما يزيد بلال عن ترديد: أحد، أحد»‏ (9) ‏.‏
(ب) صبر الصّحابية الجليلة سمية بنت خياط رضي الله عنها التي عذبت في الله فصبرت على الأذى في ذات ‏الله، فكانت أوّل شهيدة في الإسلام، وجأها أبو جهل بحربة في قبلها فقتلها، وماتت رضي الله عنها قبل الهجرة (10) ‏. ‏
(ج) خباب بن الأرت رضي الله عنه الذي عذّب عذابا شديدا، إذ كان رأسه يكوى بالنّار وهو صابر ثابت ‏محتسب، فيذهب إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه الدّعاء والاستنصار فيكون الرّدّ النّبوي بليغا ومليئا ‏بالحكمة. روى ذلك خباب رضي الله عنه فقال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم -وهو متوسد بردة ‏له في ظل الكعبة- قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض ‏فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع في رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ‏ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الرّاكب من ‏صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (11) ‏، وكان رد النبي صلى الله ‏عليه وسلم على خباب رضي الله عنه بهذا الشكل وكأنه استبطأ النصر، وكأن اليأس بدأ يدب إليه، فذكره صلى الله ‏عليه وسلم بأحوال الأمم السابقة في التاريخ، وزرع الأمل في نفسه رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «والله ‏ليتمنّ هذا الأمر»، ولهذا  قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه متحدثا عن خباب مبينا خصاله ومناقبه يوم ‏وفاته: «رحم الله خبّابا، لقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه أحوالا، ولن يضيع الله ‏أجر من أحسن عملا» (12) ‏ ‏.‏
خاتمة.‏
‏ونستخلص من كل ما سبق، أنه لم يأت رسول من الرسل ولا مصلح من المصلحين من الصادقين الصالحين ‏بدعوة دينية أو حركة إصلاحية، إلاّ ووجدوا مقاومة شرسة لدعوتهم ولمشروعهم الإصلاحي من قبل خصوم الرّسالات ‏الإلهية، وأصحاب المصالح الدّنيوية المادّية الدنيئة ممّن سمّاهم القرآن الكريم بالمجرمين في قوله سبحانه وتعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ» (13) ‏ ‏. ‏
‏وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام لكلّ المصلحين المخلصين مثالا في الصّبر والثّبات ‏على الحقّ ونصرته والجهر به والتّمسك به والدّفاع عنه، للاقتداء بهم واتباعهم والاسترشاد بهديهم وسنتهم، حينما ‏يستكبر أهل الباطل ويتطاولون على المستضعفين المعتصمين بالحقّ، ويحاصرونهم ويضايقون دعوتهم ومشروعهم في ‏الإصلاح والتّغيير، لأنّ الوقائع والأحداث أثبتت أنّ حملة ألوية الباطل «لا يستسلمون أمام أهل الحقّ بسهولة ‏ويسر، فهم كلّما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحقّ، ابتكروا وسائل أخرى، ‏وهكذا حتّى ينتصر الحقّ انتصاره النّهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة»(14) ‏.‏
الهوامش
(1) سورة الحجر - الآية 94. ‏
(2) سورة الحجر -  الآية 6. ‏
(3) سورة المطففين - من الآية 29 إلى الآية 33.‏
(4) يمكن الاطلاع على أنواع التعذيب التي مورست على الأرقاء والمستضعفين من قبل صناديد قريش وزعماء الشرك في؛ الرحيق المختوم، لفضيلة الشيخ ‏صفي الرحمــن المباركفوري. ط/ 20. 1430هـ/ 2009م. دار الوفاء للطباعة والنشر-مصر. ص/ 90، وما بعدها. ‏
(5) السيرة النبوية، لابن هشام. تحقيق؛ الأستاذ عمر عبد السلام تدمري. ط/ 2. 1410هـ/ 1990م. دار الكتاب العربي-بيروت. ج/ 2. ص/ 5. ‏بتصرف. ‏
(6) فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. ط/ 10. 1411هـ/ 1991م. دار الفكر المعاصر-‏بيروت. ص/ 130.‏
(7) سورة العنكبوت - الآيتان 1 و2. ‏
(8) سورة النور - الآية 53. ‏
(9) فقه السيرة، للشيخ محمد الغزالي. طبعة؛ 1424هـ/ 2003م. دار الشروق-القاهرة. ص/ 82.‏
(10) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد البر. تحقيق؛ علي محمد البجاوي. ط/ 1. 1412هـ/ 1992م. دار الجيل- بيروت. ‏ج/ 4. ص/ 1863-1864. ‏
(11) صحيح الإمام البخاري. كتاب المناقب- باب علامات النبوة في الإسلام. ط/ 1. 1423هـ/ 2002م. دار ابن كثير-دمشق-بيروت. رقم؛ ‏‏2612. ص/ 888-889. ‏
(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني. طبعة؛ 1416هـ/ 1996م. دار الفكر-بيروت. ج/ 1. ص/ 147.‏
(13)  سورة الفرقان - الآية 31. ‏
(14)  السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي. ط/ 1. 1433هـ/ 2012م. دار الوفاق. ص/ 50-51.‏